يحيى محمد
تعتمد نظرية اللطف والصلاح على قاعدة العدل، كما تتفرع عنها قواعد ومسائل عديدة، أبرزها مسألة النبوة وما يترتب عليها من العصمة والإمامة كما لدى بعض الفرق، بناءاً على إعتبار النبوة، وكذا الإمامة، نوعاً من اللطف، واللطف واجب، فالنبوة واجبة بالتبع.
ويُقصد باللطف أنه «عبارة عما يدعو إلى فعل الواجب ويصرف عن القبيح»[1]. وقد يسمى توفيقاً أو عصمة، فإذا كان داعياً لغرض فعل الطاعة سمي توفيقاً، وإذا كان يدعو إلى غرض اجتناب القبيح سمي عصمة[2]. وواضح أن اللطف بهذا المعنى له غرض في التكليف؛ لأنه يعزز الداعي لفعل الواجب والصرف عن القبيح. وهذا التحديد ينسجم مع ما عمد إليه أغلب منظّري الإتجاه السابق بحصر الواجب في اللطف بما يكون بعد جعل التكليف. ففي حدود هذا الشرط يجب على المكلِّف أن يلتزم به كالتزامه بالتمكين والثواب، وذلك بأن يفعله لكل من يعلم أنه لا يختار الطاعة إلا به. أما ما كان قبل التكليف أو مقارناً له فهو غير واجب رغم أنه يفعله من باب التفضل والإحسان، خلافاً لما ذهب إليه بعض من الإتجاه السابق؛ كمعتزلة بغداد الذين اعتبروا أساس جعل التكليف من الواجبات على المكلِّف بإعتباره من أصلح الأمور بعد أن تمّ خلقنا بهذه الصورة التي تميل فيها طبائعنا إلى فعل القبيح[3].
ويتمثل حسن التكليف - هنا - بحالة تعريض المكلَّف للثواب، لأن فيه منافع عظيمة لا طريق للوصول إليها إلا به[4]. لذا فمعنى الثواب هو العوض المستحق المقترن بالتعظيم والتبجيل[5]. فهو الغاية التي تبرر جعل التكليف - دون غيره - من السنن الممكنة، رغم أن التصور البشري يألف ترجيح اسلوب الإنعام والتفضيل على الثواب، لأن في هذا الأخير ما يقتضي فتنة البلاء والخطر.
على أن إعتبار الثواب الأخروي من الواجبات المستحقة للعبد يحتاج إلى دليل مستقل غير ما ذُكر حول التكليف، إذ يمكن أن يجاب بأن الإلتزام بالتكليف هو في حد ذاته شكر لله في ما يناله العبد من النِعم في الدنيا، وبذلك يتساوى الحساب بين الطرفين. ويبقى الثواب في الآخرة بحاجة إلى دليل منفصل غير ما طُرح بأنه العوض المستحق للعبد.
كما أخطأ هذا المنطق حينما حوّل الخيارات الإلهية بشأن الأمور الدينية - كمسألة التكليف - إلى واجبات ملقاة على عاتق المكلِّف. وهذا التحديد لا يصح ما لم تُعرف بالضبط حكمة الله في خلقه، مع أنها من الأمور التي يتعذّر على العقل إدراكها.
مهما يكن فإن تحديد اللطف بدواعي فعل الواجب والصرف عن القبيح؛ يثير تساؤلاً عن مدى جريان اللطف في الحياة الواقعية. فالملاحظ أن دواعي الصرف عن الواجب وفعل القبيح ترد كثيراً. وعليه لو صحت نظرية اللطف لوجدنا في المكلَّف غلبة دواعي فعل الواجب واجتناب القبيح، سيما أن هذه النظرية تتبنى وجوب جعل الأصلح فيما يتعلق بأمور الدين والتكليف. لذا لم تصمد أمام بعض إعتراضات الخصوم، كإعتراض الغزالي المستلهم من روح الإنتقاد الذي أدلى به الأشعري في محاوراته مع استاذه الجبائي.
وترد الشبهة بصورة أخرى كالتي عرضها الشيخ الهمداني ومن بعده الطوسي حول تصحيح عملية التكليف لمن علم الله أنه سيكفر، حيث اعتبرا أن شرط التعريض للثواب حاصل مع اللطف به وتمكينه من فعل الطاعة بحرية[6]. وقدّم كل منهما تبريراً للعقوبة يختلف عن الآخر. فقد اعتبر الهمداني أن علتها تعود إلى فعله للقبيح واخلاله بالواجب. في حين اعتبر الطوسي أن العلة تعود إلى عدم إنتفاع المكلَّف باللطف المعروض عليه، وقدّم لذلك مثالاً برر من خلاله حسن مثل هذا التكليف المفضي إلى الكفر والعقوبة، فلو ظننا بأن ما نقدمه من طعام إلى جائع سيرده، وما نمده من حبل إلى غريق سيتركه، فإن ذلك لا يخدش في حسن صنيعنا.. والحال يجري مع التكليف أيضاً[7].
مع هذا فالفرق بين الحالين بيّن، إذ في المثال لا يحق لنا معاقبة من أردنا له الإحسان، وفي التكليف يحق ذلك. والطوسي يرى أن من يردّ ما هو بحاجة إليه من الإحسان يستحق الذم من العقلاء والعقاب من الله[8].
ومن حيث الإستدلال بالشاهد على الغائب، كما يشير إليه أصحاب هذا المنطق كثيراً، ترد بعض الشواهد التي تخدش في حسن تكليف الكافر، كالذي عرضه الشيخ الطوسي وأجاب عليه. فلو أن رجلاً أرسل بولده إلى تجارة لكسب المال، وكان في ظنه أنه سيقتل أو يموت، فهل يحق له إرساله؟
مبدئياً وافق الطوسي على قبح مثل هذا الفعل أو الارسال، معتبراً أنه يختلف عن التكليف، وذلك أن المولى لا يعود إليه نفع في تكليفه للغير، بخلاف ما جاء في المثال من النفع العائد إلى الأب في كسب المال عند الإرسال، ومن ثم فهو ينفي وجود مصداق في الشاهد يكون على شاكلة ما هو غائب، إذ ينكر في الشاهد من يعرّض غيره لنفع دون أن يصل إليه نفع أو ضرر[9]. مع أن هذا الإختلاف لا يغير من جوهر القضية شيئاً، وليس له علاقة بمناطها، إذ يمكن إفتراض أن الإرسال كان من غير نفع، فهل يحسن فعل ذلك حينها؟!
هذا فيما يتعلق باللطف وعلاقته بالتكليف لدى أغلب اتباع منطق الحق الذاتي. وهناك إتجاه آخر يرى اللطف واجباً على الله حتى فيما قبل التكليف، وهو المشهور لدى معتزلة بغداد وبعض علماء الإمامية، إذ اعتقدوا أن وجوب الأصلح لا ينحصر في قضايا التكليف ومسائل الدين وإنما يتعداها إلى ما قبل ذلك فيما يتعلق بأمور الدنيا؛ كخلق العالم وجعل التكليف والإغداق بالنعم...الخ، ومبررهم في ذلك هو أن الله تعالى لو لم يفعل الأصلح لكان بخيلاً ما دام يملك القدرة التامة مع وجود الداعي وانتفاء الصارف[10]، وكما يقول بعضهم: «كيف يحسن من العاقل أن يمنع الإنسان العطشان من بحر يملكه لا يقل شربه منه، أو يمنعه من السكون والاستضلال بظل داره، أو أن يلقط ما تناثر من حَبّه، أو الإنتفاع بما يلقيه مما يأكله رغبة عنه، ولا ريب أن ملك الله تعالى كالبحر وما يتناوله الإنسان مما يفيضه عليه أقل من نسبة الجنة إلى الحَب المتناثر»[11].
ومن الواضح أنه لو صدق هذا التفكير لما كان هناك داع لعناء التكليف والبلاء، ولا صحّ إيجاد سنّة للحساب والعقاب. وهو لا أقل من أن يقف عاجزاً أمام الكثير من التساؤلات الوجودية التي لا تنسجم مع روحه العامة؛ كتلك المسماة بشبهات ابليس السبع[12].
وعموماً يرد جوابان حول نظرية الأصلح بالشكل الذي تم طرحها: الأول إن ما نراه من العناء والابتلاء هو من حتميات الأمور كالذي ذهب إليه النظام الوجودي، وهنا يتحول التفكير المعياري السابق إلى تفكير وجودي لا يجد للقدرة الإلهية سعة على فعل الأصلح دون الوسائل الدنيوية طبقاً لمقولة (ليس بالإمكان أبدع مما كان)[13]. أما الجواب الثاني فهو أن نظرية الأصلح بالصورة المعروضة لم تشكل أساس الخيار الإلهي، بل كان الأخير قائماً على الإختبار والفتنة والبلاء في الدنيا، وهو لا يشكل الأصلح للجميع طالما سيسقط الكثير من الناس في ما لا يحمد عقباه. هكذا جرت سنة الله على خلقه، كما تشير إليه الكثير من الآيات وما يبدو من الواقع أيضاً.
نعم، قد يؤسس لنظرية الأصلح بأنها الأصلح ضمن إعتبارات البلاء والإختبار وليس في عرض منها. فلو أجرينا التفكير حول هذه النظرية مطلقاً دون قيد إعتبارات البلاء والإختبار، فسوف تكون المسألة الدينية القائمة على التكليف ليست هي الخيار الأصلح. كذلك فإن حياتنا كما نعيشها هي أيضاً ليست الخيار الأصلح، إنما يتمثل الأخير بالسعادة المباشرة للجميع دون بلاء وعناء. وإذا كان الخيار الأخير غير ممكن فسيبقى الأصلح بحسب ما يدعو إليه النظام الوجودي. فحيث أن واقع الحال يشير إلى البلاء والعناء، فإن ما يدعو إليه هذا النظام يشكل الإحتمال المنافس لنظرية الإختبار الديني، كالذي يدعو إليه منطق حق الملكية مثلاً. وبحسب التصور العقلي تكون اطروحة النظام الوجودي أكثر قبولاً من غيرها، أما بحسب التصور الديني فإن نظرية الإختبار تكون هي المرجحة على غيرها، رغم ما يحمله هذا الإختبار من ملابسات الفتنة والسقوط[14]. وبالتالي كان لا بد من العودة إلى ما تقوله النظرية الأولى التي تحدد اللطف ضمن اطار عملية التكليف وليس خارجها أو ما هو سابق لها من خلق الدنيا والعالم.
[1] لاحظ حول ذلك المصادر التالية: تمهيد الأصول في علم الكلام، ص208. والمفيد: النكت الإعتقادية، طبعة طهران، ص26ـ27. وعبد الجبار الهمداني: المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق أبي العلا عفيفي، مراجعة إبراهيم مدكور، إشراف طه حسين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ج13، ص93. وكشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد، ص35. وارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص276.
[2] تمهيد الأصول، ص208. وارشاد الطالبين، ص277.
[3] لاحظ: تمهيد الأصول، ص209. وأبو جعفر الطوسي: الإقتصاد في الإعتقاد، منشورات مكتبة جامع چهلستون، طهران، ص78. وعبد الكريم عثمان: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ1971م، ص403.
[4] شرح الأصول الخمسة، ص518. ونظرية التكليف، ص111.
[5] تمهيد الأصول، ص263. وكشف المراد، ص360 و234. وارشاد الطالبين، ص282.
[6] شرح الأصول الخمسة، ص518. وتمهيد الأصول، ص174.
[7] تمهيد الأصول، ص175ـ176.
[8] تمهيد الأصول، ص76.
[9] يقول الطوسي بهذا الصدد: «وليس لأحد أن يقول لو حسن ذلك - أي حسن تكليف من يعلم أنه يصاب بالضرر - لحسن من الوالد أن يعرّض ولده لسفر يربح فيه غلبة ظنه أنه يغرق أو يُقتل في طريقه ويؤخذ المال منه في ذلك، وذلك أن منافع الولد ومضاره عايدة إلى الوالد، فإذا عرّضه للمنافع فلا بد أن ينتفع هو بها أيضاً ويسر بها، فإذا علم أو ظن أنه يقتل أو يغرق ويتلف ماله لم يجز أن يختاره؛ لأنه ضرر محض يتعجله والتكليف خلاف ذلك؛ لأنه خالص لنفع المكلَّف ولا نفع فيه لله تعالى ولا استضرار بشيء من أحوال المكلَّف، فبان الفرق بينهما، فإن فرضنا في الشاهد من يعرّض غيره لنفع يغلب في ظنه أنه لا يصل إليه ولا يتعدى إليه من ذلك ضرر؛ أجزنا ذلك مثل الغائب سواء، غير أن هذا لا نظير له في الشاهد» (تمهيد الأصول، ص176).
[10] أنوار الملكوت، ص156ـ157. ونظرية التكليف، ص403.
[11] أنوار الملكوت، ص158.
[12] صُوّر أن ابليس حدّث الملائكة بشبهاته وإعتراضاته على ربه فقال: إن الله قد علم قبل خلقي أي شيء يصدر عني فلِمَ خلقني؟ واذ خلقني لِمَ كلفني بمعرفته وطاعته وهو مستغن عنها؟ واذ خلقني وكلفني بذلك فأطعته لِمَ كلفني بالسجود لآدم؟ ثم أنه لِمَ لعنني وأخرجني من الجنة بعد رفضي لأن اسجد إلا لله؟ وبعد ذلك لِمَ مكنني من آدم وسلطني عليه حتى أخرجه من الجنة؟ وكذا لِمَ سلطني على أولاده وأنا أراهم وأُثّر عليهم من حيث لا يرونني؟ وأخيراً لِمَ امهلني إلى يوم يبعثون وفي ذلك شر على بني آدم (الملل والنحل، ص3ـ4)؟
[13] أنظر الفصل السادس من كتابنا: الفلسفة والعرفان والإشكاليات الدينية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 2008م.
[14] فمن الآيات الصريحة بهذا الصدد ما جاء في قوله تعالى: ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة)) (الأنبياء/35)، وقوله تعالى: ((إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء)) (الأعراف/155)، وقوله: ((ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم)) (المائدة/48)، وقوله: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم أحسن عملاً)) (الملك\2). وتشير بعض الآيات إلى أن الله تعالى لم يختر سنة الهداية للناس جميعاً رغم قدرته على ذلك، مثلما جاء في قوله تعالى: ((ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)) (السجدة/13)، وقوله: ((ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً)) (يونس/99)، وقوله: ((ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد)) (البقرة/253). وواضح أنه لا تعليل لذلك سوى القول: ((لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون)) (الأنبياء/23)، مع الأخذ بعين الإعتبار ما لله من حكمة نجهلها. وقد جاء في بعض الروايات عن أبي بصير أنه قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): شاء وأراد وقدر وقضى؟ قال: نعم، قلت: وأحب؟ قال: لا، قلت: وكيف شاء واراد وقدر وقضى ولم يحب؟ قال: هكذا خرج الينا. وفي رواية أخرى إن الإمام الصادق قال: أمر الله ولم يشأ، وشاء ولم يأمر، أمر ابليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد، ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن اكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل. كما عن الصادق أيضاً أن الله قال: انا الله لا إله إلا انا، خالق الخير والشر فطوبى لمن اجريت على يديه الخير، وويل لمن اجريت على يديه الشر، وويل لمن يقول: كيف ذا وكيف هذا. كما جاء عن الإمام الرضا قول الله: يا إبن آدم بمشيئتي كنت انت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي اديت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك اني أولى بحسناتك منك، وانت أولى بسيئاتك مني، وذاك انني لا اسئل عما افعل وهم يسألون (الكليني: الأصول من الكافي، صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري، دار صعب ـ دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، 1401هـ، ص150ـ152 و154).