يحيى محمد
لا شك أن الدعوة إلى تكليف الناس للبحث في العقائد هي دعوة متعالية فاقدة لشروطها، أو هي فارغة لا معنى لها. إذ عوضاً من أن يكون الحث على البحث في العقائد عاملاً محفزاً يدفع الناس إلى الإجتهاد والنظر؛ فإنه على العكس يكرس - في حد ذاته - ظاهرة التقليد رغم النهي عن هذا الأخير وإعتباره من الأُمور التي يُكفر عليها المكلف كما هو نظر الكثير من المتكلمين. فقد عرفنا أنه ليس باستطاعة عامة الناس الخوض في مثل هذه المسائل. بالإضافة إلى أن سن البلوغ المقرر لا يفي بمثل تلك القدرة.
والأهم من ذلك أن نزعة المعاداة والتكفير الناجمة عن أي مخالفة للبيئة المذهبية تجعل المكلف لا يفكر جدياً في الكشف عن المعرفة والبحث عن حقيقة ما تشرّب وتربى عليه من عقائد. فهي نزعة متناقضة؛ لأن أصحابها يطالبون الناس بالإجتهاد والبحث، لكنهم يستنكرون في الوقت ذاته كل ما لا يوافق آراءهم. وكأن من المحال على الحق أن يتعداهم، فنزّلوا أنفسهم منزلة الشرع. وهذا ما جعل الغزالي يرى مثل هذا التفكير أقرب للتناقض والكفر. إذ قال بهذا الصدد: «ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفاً على واحد من النظّار بعينه؛ فهو إلى الكفر والتناقض أقرب. أما الكفر: فلأنه نزّله منزلة النبي المعصوم من الزلل الذي لا يثبت الإيمان إلا بموافقته، ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته. وأما التناقض فهو أن كل واحد من النظّار يوجب النظر، وأن لا ترى في نظرك إلا ما رأيت، وكل ما رأيته حجة. وأي فرق بين من يقول: قلدني في مذهبي، وبين من يقول: قلدني في مذهبي ودليلي جميعاً، وهل هذا إلا التناقض؟!»[1].
لذا كان لا بد من أن تبرّأ - قبل كل شيء - ساحة المجتهد والناظر في العقائد مهما كانت النتيجة، إذ لا ينبغي محاسبته على ما إنتهى إليه فكره عند بذل الجهد في البحث والتفكير؛ طالما كان مخلصاً ومحايداً لا يستهدف سوى اكتشاف الحقيقة، سواء أدركها فعلاً، أم لم يدركها. فهذا هو أول شرط معرفي لا بد منه للقضاء على التقليد في العقائد.
يضاف إلى أنه لا ينبغي مطالبة العامي بالإجتهاد كما يطالب المختص بذلك، بل عليه العمل وفق مبنى طريقة النظر، فينظر في أدلة المختلفين ليرجح بعضها على البعض الآخر، أو يأخذ بما يعتقد به عقلاً ووجداناً؛ سواء بالطريقة التفصيلية إن كان من أهلها، أو بالطريقة الإجمالية إن تعسّر عليه ذلك. وسبق أن سقنا الأدلة التي تثبت شرعية هذه الطريقة ووجوبها على كل من هو أهل للتمييز والترجيح في مجال الأحكام الفرعية. وهذه الأدلة هي نفسها تصلح في هذا المقام من العقائد.
أما لو لم يتمكن العامي من النظر، بأيٍّ من الطريقتين الآنفتي الذكر، لقصوره من دون تقصير، فهو معذور لا تكليف عليه، كما ذهب إليه الشيخ الطوسي ونقله الشريف المرتضى عن قوم[2].
لكن لو قيل بأنه يجب على المكلف إحراز العلم أو القطع في معرفة أُصول الدين بدعوى أن الترجيح في الآراء من قبل العامي لا يفيد إلا الظن عادة؟
لقلنا في الجواب إن كثرة الخلاف بين العلماء المختصين حول أُمور العقيدة، ومنها أُصول الدين، يجعل من الصعب على العامي التحقيق والإجتهاد لتحصيل العلم والقطع فيها، وهو ما يعفي الناظر من هذا اللزوم لقصوره عن بلوغ ذلك، مثلما يُعذر العلماء عما يقعون به من أخطاء تتحتم عن خلافاتهم في الموضوع، وهي خلافات تدل على صعوبة المطالب، وأن النتائج فيها ليست قطعية لدى المراقب المحايد؛ وإن تصورها بعض المجتهدين بأنها قطعية.
فمن أبرز علامات الإختلاف العقائدي ما ورد حول تحديد أُصول الدين والمضامين التي تنطوي عليها. فكلنا يعلم مقدار الخلاف بين الفرق الإسلامية حول ماهية الأصول، كما هو واضح بين المعتزلة التي جعلتها خمسة هي التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، والإمامية التي وافقت المعتزلة على الأصلين الأولين وأضافت إلى ذلك أُصولاً ثلاثة أخرى هي النبوة والإمامة والمعاد، والأشاعرة التي جعلتها ثلاثة هي التوحيد والنبوة والمعاد، وهكذا يمكن أن يلاحظ مثل هذه الفوارق لدى الفرق الأخرى. أما الإختلاف في المضمون فكلنا يعلم كم هو حجم الخلاف الوارد حول ماهية التوحيد، خاصة بين الأشاعرة المتقدمين من جهة، والمعتزلة والإمامية من جهة أخرى، رغم وضوحه وبداهته على نحو الإجمال، وكذا الحال نفسه يقال بصدد مفهوم العدل وما يترتب عليه من عقائد.
لذا اعترف بعض العلماء بوجود إحتمال ضعيف مخالف لما تتضمنه المعرفة الناشئة عن البحث العقائدي. فكما صرح المحدث يوسف البحراني في كتابه (الدرر النجفية) قائلاً: «.. جعل الشارع الكتاب والسنة مناطاً للأحكام ومرجعاً في الحلال والحرام على الوجه المتقدم ذكره آنفاً، فكل ما أُخذ منهما وأُستند فيه إليهما فهو معلوم ومتيقن عنه، حيث أنه مأخوذ من دليليه الذين أمر بالأخذ منهما والتمسك بهما، والظن ليس هو مناط العمل؛ بل العلم بأنّا مأمورون بالعمل بهما والأخذ بما فيهما، وقيام الإحتمال الضعيف في مقابلة الظن الغالب لا يقدح فيه ولا ينافيه. وما أُشتهر من أنه إذا قام الإحتمال بطل الإستدلال فكلام شعري وإلزام جدلي، إذ لو تم ذلك لإنسد باب الإستدلال، إذ لا قول إلا وللقائل فيه مجال، ولا دليل إلا وهو قابل للإحتمال ولقام العذر لمنكري النبوات فيما يقابلون به أدلة المسلمين من الإحتمالات، وكذا منكري التوحيد وجميع أصحاب المقالات. وأما حمل العلم في هذا المقام على الحكم الجازم المطابق للواقع فهو بعيد غاية البعد بل متعذر، فإنه سبحانه لم يكلف في الشريعة بذلك لا في نفس الأحكام الشرعية ولا في متعلقاتها لما قدمناه في غير موضع»[3].
وهو أمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن البحث العقائدي لا يختلف جوهراً عن البحث الفقهي، فكلاهما يعبّر عن إجتهاد يفضي إلى الظن غالباً. وهو ما يبرر للعامي إعتماد طريقة النظر والترجيح بين الآراء حسب رؤيته العقلية والوجدانية، ما دام ليس بوسعه الإجتهاد والإختصاص. وفي جميع الأحوال لا يجوز للناظر التقليد.
[1] الغزالي: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، تحقيق سليمان دنيا، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأُولى، 1381هـ ـ1961م، ص133.
[2] رسائل المرتضى، ج2، ص321. وفرائد الأصول، ج1، ص288.
[3] الدرر النجفية، ص63.