يحيى محمد
يبدو ان اول الداعين إلى فكرة (المقاصد العامة للشريعة) هم الأشاعرة. فاول من طالعنا ببحث ذلك هو الإمام الجويني، ثم تلميذه الغزالي، حتى بلغ البحث غايته عند الشاطبي الذي اقترن اسمه بها لكثرة ما اشبعها بحثاً وتفصيلاً بما لم يسبقه نظير قبله، ولم يأتِ من يضيف اليه شيئاً ذا أهمية بعده.
والمقاصد لدى علماء الأصول على عدة مراتب من المصالح. فقد سبق للجويني في (البرهان) ان حدد اصول الشريعة فقسمها إلى مراتب بحسب قوتها، وهي خمس ليس في كل منها ما يتممها، وذلك كالتالي:
1 ـ الضرورات.
2 ـ الحاجيات.
3 ـ المكرمات أو التحسينات؛ لكل ما يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو دفع نقيضها. والجويني يجيز ان يُلحق بهذا الجنس طهارة الحدث وازالة الخبث.
4 ـ وهو يشابه القسم الثالث من حيث أنه لا يستند إلى حاجة أو ضرورة، لكن ذلك القسم يعد خروجاً عن قياس كلي، في حين ان هذا القسم مصرح بندبه ابتداءً.
5 ـ التعبديات التي لا يلوح فيها للمستنبط معنى، كما في العبادات البدنية المحضة[1].
وجميع هذه المراتب عند الجويني ليس فيها ما يتممها، خلافاً لرأي من جاء بعده من الأصوليين كالغزالي والشاطبي. كذلك ان هذين العَلَمين حصرا المقاصد في ثلاثة فقط هي الضرورات والحاجيات والتحسينات أو الكماليات، ولكل منها ما يتممها، الأمر الذي استقر عليه علماء المقاصد من الأصوليين.
المقاصد ومراتبها
اعتقد علماء المقاصد من امثال الشاطبي ان المراتب الثلاث للمصالح مستنتجة بالإستقراء وشاملة لجميع الأحكام، أي لا يوجد حكم الا وينطوي ضمن مرتبة من هذه المراتب مع متمماتها. وهي كما يلي:
أ ـ الضرورات
ويقصد بها الحفاظ على ما هو ضروري للناس بدونه تختل مصالحهم وتفسد. لكن العلماء اختلفوا في تحديدها، واغلبهم حصرها في خمس، وإن اختلفوا حول بعضها. فهي عند الغزالي عبارة عن المحافظة على الدين والنفس والعقل والنسل والمال[2]. وتابعه في ذلك الامدي[3]، وكذا ما ذهب اليه الشاطبي[4]، وابن الأزرق والشوكاني. وزاد بعض المتأخرين عليها حفظ الأعراض، حيث (أن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم)[5].
وجاء في (تنقيح الفصول) للقرافي ان العلماء اختلفوا في عددها، فبعضهم يقول: الأديان عوض الأعراض، وبعضهم يذكر الأعراض دون الأديان[6]. كذلك أن البعض يُلحق النسل ضمن المحافظة على النفس كالاستاذ عبد الوهاب خلاف، وآخر يستقل بذكر النسل ويضع تحته الأعراض كالشيخ أبي زهرة متبعاً في ذلك الغزالي ومن على شاكلته[7]. في حين ذهب ابن عاشور إلى أن الأعراض من الحاجيات لا الضرورات[8]. كما أن من العلماء من يورد النسب بدل النسل والعِرض، كالذي عليه الفخر الرازي في (المحصول)[9]، ومثله جماعة من الإمامية مثل الشهيد الأول في (القواعد والفوائد) ومقداد السيوري في (نضد القواعد الفقهية) وابن أبي جمهور الإحسائي في (الاقطاب الفقهية)، وهم يوردون نفس الأحكام التي ترد ضمن مقصد الحفاظ على النسل وكذا العِرض، مثل تحريم الزنا وإتيان الذكران والبهائم وتحريم القذف[10].
والأمثلة التي تذكر ضمن الضرورات هي كما يلي:
1 ـ الحفاظ على الدين: ويدخل فيه ما شُرع لأجله من أحكام العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد وغيرها، فالغرض منها اقامة الدين بما يُصلح المكلف في آخرته، إذ (لو عدم الدين لعدم ترتب الجزاء المرتجى)[11]. لهذا شُرع لحفظه العديد من الأحكام كالعقوبات الخاصة بالمرتد والمبتدع وما إلى ذلك.
2 ـ الحفاظ على النفس: وينضوي تحته كل ما شُرع لأجله من الأحكام التي تحفظ النفس من ايجاب المأكل والمشرب والمسكن والملبس، وكذا القصاص والدية وتحريم الالقاء بها في التهلكة وما إلى ذلك. وأضاف الاستاذ ابو زهرة اليه؛ المحافظة على الكرامة الإنسانية رغم أنه عاود ذكرها ضمن التحسينات[12].
3 ـ الحفاظ على العقل: وأهم ما شُرع لأجله تحريم المسكرات وعقوبة تناولها.
4 ـ الحفاظ على العرض (او النسب): ويدخل فيه ما شرع لأجله الحدود الخاصة بالزنا والقذف وما إلى ذلك.
5 ـ الحفاظ على النسل: حيث أُلحق فيه ما يعود إلى العرض أو النسب من الأحكام كعقوبة الزنا والقذف وما اليهما[13]. وربما كان الأوْلى ان يكون هذا الأصل داخلاً ضمن قسم الحفاظ على النفس.
6 ـ الحفاظ على المال: ولأجله يوجد عدد كبير من التشريعات من الأحكام الاقتصادية؛ كاباحة البيع وسائر العقود المالية والمبادلات التجارية، وحرمت لأجله السرقة والغصب والغش واتلاف المال والربا والغرر وما اليها[14].
ب ـ الحاجيات
ويقصد بها تحقيق ما الناس بحاجة اليه من رفع المشقة وتيسير أمور حياتهم، مثل الرخص الشرعية كإفطار المريض والمسافر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية للمسافر، والصلاة قعوداً لمن هو عاجز عن القيام، ولزوم التيمم لمن لم يجد الماء، وعدم المؤاخذة في الخطأ والنسيان والإكراه، وغير ذلك من الرخص لرفع الحرج عنهم، كذلك اباحة السلم والعرايا والمساقاة والمزارعة وسائر العقود سداً لحاجة الناس[15].
ج ـ التحسينات
أما التحسينات فهي تحقيق ما هو حسن للناس على وفق ما عليه المروءة ومكارم الأخلاق، والتي يدخل فيها أحكام الطهارات وستر العورات وآداب المعاملات والندب والنهي عن المثلة والغدر وقتل الأعزل والنساء والصبيان والرهبان في الجهاد، وكذا حُرم لأجلها الغش والتدليس والتغرير والاسراف والتقتير، كما ونُهي عن التسعير وبيع الإنسان على بيع اخيه[16].
د ـ المتممات
كما وشرع الشارع أحكاماً أخرى تتمم تحقيق المقاصد في المصالح الثلاث. فما يتمم الصلاة - مثلاً - هو اقامتها جماعة واعلانها بطريقة الأذان. كذلك لمّا حرّم الشارع الزنا لحفظ العِرض فإنه تممه بتحريم الخلوة بالأجنبية سداً للذريعة، وايضاً جعل كل ما لا يتم الواجب الا به واجباً، ومثله كل ما يؤدي إلى المحظور محظوراً، وغير ذلك من الأحكام المتممة[17].
العلاقة بين المراتب المقصدية
اعتبر الشاطبي ان المقاصد الضرورية في الشريعة هي أصل للمقاصد الحاجية والتحسينية، إذ لو فرض اختلال الضروري بإطلاق لإختل كل من الحاجي والتحسيني، أما العكس فلا يلزم، وإن كان قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وكذا لو اختل الحاجي بإطلاق للزم عنه اختلال الضروري بوجه ما. وعليه لأجل المحافظة على الضروري لا بد من المحافظة على الحاجي، وكذا فإنه لأجل المحافظة على الحاجي ينبغي المحافظة على التحسيني، فالتحسيني يخدم الحاجي، والحاجي يخدم الضروري، وبالتالي فالضروري هو المطلوب. هكذا يرتب الشاطبي مطالب خمسة كالتالي:
1 ـ ان الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتحسيني.
2 ـ ان اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق.
3 ـ لا يلزم من اختلال الباقيين اختلال الضروري.
4 ـ يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
5 ـ ينبغي المحافظة على الحاجي والتحسيني لأجل الضروري[18].
نقد النظرية
من الواضح ان لنظرية المقاصد أهمية كبرى في التشريع، وهي بصورتها المألوفة تحتاج إلى مراجعة ونقد. لذا سنجعل نقدنا لنظرية المقاصد على قسمين، أحدهما يتناول المراتب الثلاث وعلاقاتها ببعضها، والآخر يقتصر على المرتبة الأولى لأهميتها، وذلك كالآتي:
1 ـ نقد التقسيم الثلاثي للمقاصد
يمكن تقسيم هذا النقد إلى ملاحظات إشكالية وأخرى تأسيسية كما يلي:
أـ النقد الإشكالي
1 ـ يلاحظ أولاً أن الأصوليين - منذ الغزالي - وإن اتفقوا على تصنيف المراتب المصلحية إلى ثلاث؛ إلا أنهم لم يتفقوا على أقسام هذه الأصناف، كما لم يتفقوا على رد الأحكام اليها، وظهر هناك العديد من الاختلاف في التوزيع والإلحاق. ومن ذلك خلافهم حول قسم الأعراض؛ تارة بإبداله عوض الأديان، وأخرى بإضافته مستقلاً، وثالثة بجعله ضمن الحاجيات، ورابعة بإلحاقه ضمن الحفاظ على النسل. وكذا مع هذا الأخير؛ تارة بجعله مستقلاً، وأخرى بادخاله ضمن الحفاظ على النفس. وعلى هذه الشاكلة ما حصل من خلاف حول إلحاق مطلق البيع، فبعضهم يضعه ضمن الضرورات كالذي فعله الإمام الجويني، وآخر يراه ضمن الحاجيات[19].
كما أُبعدت بعض الأحكام عما يناسبها من أقسام أو عناوين. فمثلاً ألحق الشيخ عبد الوهاب خلاف ما شرعه الإسلام في الزواج للتوالد والتناسل (وبقاء النوع على أكمل وجوه البقاء) ضمن المحافظة على النفس، وكان الأوْلى أن يضع ذلك ضمن المحافظة على العِرض الذي جعل له استقلالية خاصة. فبالزنا وليس فقط بالزواج يمكن الحفاظ على التوالد والتناسل وبقاء النوع، وبالتالي فما شُرع بخصوص الزواج هو لأجل الحفاظ على العِرض وكذا النسب. وإن كان هذا لا يمنع من ان يكون تشريع الزواج محافظاً في الوقت ذاته على سلامة الأسرة وبث روح الحنان والطمأنينة بين أفرادها. الأمر الذي يجعل من التشريع سواء لهذا الباب أو لغيره قابلاً للعنونة بأكثر من عنوان واعتبار.
وأخيراً نجد بعضهم يداخل بعض الأحكام بين المراتب؛ بما يشير إلى التردد والتذبذب، كالذي فعله الشيخ ابو زهرة بشأن المحافظة على الكرامة الإنسانية، حيث وضعها ضمن الحفاظ على النفس، لكنه عاد وصنفها ضمن التحسينات. وكذا ما فعله الاستاذ عبد الوهاب خلاف بشأن كل من الغش واتلاف المال أو الاسراف، حيث وضعهما ضمن ضرورة الحفاظ على المال، ثم عاد وألحقهما بالتحسينات.
2 ـ يلاحظ في التحسينات أنها هجينة في أحكامها بين أن تكون دالة على التجميل والعادات الحسنة، وبين ان تكون اخلاقية حقوقية؛ بعضها يتفوق - قوة - على ما ذكر من الأحكام ضمن الحاجيات، بل واغلب أحكام الضرورات. فمثلاً ان النهي في الجهاد عن قتل الصبيان والنساء، وهو موضوع في التحسينات، ليس أقل حرمة من شرب الخمر الموضوعة ضمن أحكام الضرورات.
وعلى العموم فالتحسينات، بما يتصدرها عنوان مكارم الأخلاق، فيها من السعة ما يجعلها جامعة بين الأخلاق الحميدة في العلاقات العادية وبين الحقوق العامة للأخلاق بما يرفعها إلى قمة المصالح، وعلى رأسها العدل.
3 ـ كذلك يلاحظ ان الأحكام ضمن الحاجيات تتفاوت بين ان لا يكون فيها معنى الحاجة وإن تضمنت معنى الرخصة، وبين ما هو موضع حاجة فعلاً. فحكم التيمم عند فقدان الماء - مثلاً - ليس معنياً بالحاجة، ولا ان مصلحة الناس وحاجتهم متوقفة عليه، رغم ان تشريعه كان لأجل الرخصة ورفع الحرج التعبدي لا المصلحي بمعناه القابل للادراك، وبالتالي فإنه لا يدخل ضمن هذا القسم ولا ضمن غيره من المراتب الثلاث.
كما قد يقال أنه اذا كانت إباحة الفطر للمسافر والمريض هي لرفع المشقة وبالتالي لتسديد ما الناس بحاجة اليه؛ فإن الأمر في قصر الصلاة الرباعية للمسافر يختلف من حيث أنها لو كانت مجرد قضاء حاجة لرفع المشقة لعمّت المريض أيضاً مثلما هو الحال في الصوم، وبالتالي فإن ذلك الحكم لا يدخل ضمن قسم الحاجيات. لكن الصحيح هو ان هناك فرقاً واضحاً بين ترتيب الصلاة والصوم بالنسبة للمسافر والمريض. فاذا كان المسافر يقصر في كليهما للتيسير ودفع المشقة، فإن المريض وإن احتاج إلى ذلك في الصوم لطول الوقت؛ الا ان حاجته للقصر في الصلاة قد لا تكون بالقدر الذي يحتاج اليه المسافر، وقد يكفيه من ذلك ما باستطاعته القيام به من الصلاة قعوداً أو استلقاءاً أو غير ذلك مع العجز أو المشقة الكبيرة.
ب ـ النقد التأسيسي
1 ـ اول ما يلاحظ ان العدد المذكور للمراتب أو المصالح لا يفي بالمطلوب، فمن الواضح ان هناك نوعين من الأحكام لا يدخلان ضمنها: أحدهما ما اشار اليه الجويني من الأحكام التعبدية التي لا يفهم غرضها ومصلحتها، فما دامت غير مفهومة تعذّر وضعها ضمن أي من تلك المقاصد أو المراتب، لأن شرط معرفة المقصد - غير المصرح به - يتحدد بمعرفة نوع المصلحة فيه. فانّى لنا - مثلاً - ان نفهم المصلحة في جعل الصلاة على الهيئة التي أُمرنا بها؛ كأن نفهم علة الالتزام بعدد محدد من الصلاة والركوع والسجود، وكذا علة الاختلاف في عدد الركعات بحسب نوع الصلاة، وما إلى ذلك...؟!
أما النوع الآخر فهو ما نصطلح عليه (المصالح الحقوقية) والذي لا تشير اليه تلك المراتب بالذكر على نحو الاستقلال، سواء العامة من هذه المصالح أو الخاصة. فأحكام هذا النوع تتوزع تارة ضمن الضرورات الخمس، وثانية ضمن الحاجيات، وثالثة ضمن التحسينات. لكنها تارة أخرى تستقل بنفسها دون ان تدخل في أي مما سبق، أو أنها تكون أقرب إلى التمايز مما هي إلى الانضمام والتداخل مع غيرها؛ فيصحّ بذلك إفرادها مستقلة، مع أخذ اعتبار ان الحكم الواحد قد تشمل مصلحته أكثر من عنوان. ولا اقل من ان تكون قسماً آخر من أقسام الضرورات، إذ بدونها تضطرب الحياة العامة ولا تستقيم.
فالمصلحة المتعلقة بعزل الحاكم المستبد - مثلاً - هي مصلحة حقوقية مستقلة لا يمكن ردها إلى أي من المصالح السابقة، فهي ليست تحسينية بالمعنى المألوف، ولا هي راجعة إلى حاجات الناس من دفع المشقة وتيسير حياتهم، ولا تعود - كذلك - إلى الضرورات الخمس.. بل هي حق يخص الارادة العامة للأمة في المشاركة بالحكم وتقرير المصير. كذلك ان مصلحة الفرد المتضرر بالسرقة أو الغصب في استرداد حقه؛ هي مصلحة حقوقية مهما كان حجم الجرم ضئيلاً، بغض النظر عن المصلحة المالية المترتبة عن الاسترداد والتي تدخل ضمن أحكام المحافظة على المال. المهم هو ان هناك مصلحة أخرى للحكم هي التي نطلق عليها (المصلحة الحقوقية).
2 ـ ليس بالضرورة ان يكون مقصد الحكم ومصلحته مندرجاً تحت عنوان واحد من عناوين تلك المراتب الثلاث. فقد يكون تحت أكثر من عنوان ومرتبة، وذلك باعتبارات متعددة. فلا مانع من أن يقع الحكم من جهة ضمن دائرة التحسينات، واخرى ضمن الحاجيات أو الحقوق أو الضرورات. فمثلاً حيث أن الدية في العاقلة موزعة على أقارب القاتل؛ لذا فمصلحة الحكم هي التخفيف ورفع الحرج عن القاتل، فيقع الحكم ضمن الحاجيات، لكن من حيث اعتباره حقاً لا بد من ايفائه بغض النظر عن الجهة التي تقوم بدفعه فإنه يقع ضمن المصالح الحقوقية التي يستفيد منها أولياء المقتول. كذلك فإن جعل الدية على أقارب القاتل يفيد مصلحة أخرى وهي أنه يبعث على التضامن والتكافل فيقع ضمن دائرة التحسينات. وعلى هذه الشاكلة ان المصلحة اللازمة عن الصلاة هي توثيق الرابطة بين العبد وخالقه، وهو مقصد أساس يقع ضمن دائرة الضرورات، لكنها من جانب آخر تدعو إلى النهي عن الفحشاء والمنكر مثلما جاء في قوله تعالى: ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)) العنكبوت/45، فتكون بهذا الاعتبار داخلة ضمن التحسينات بحسب التقسيم التقليدي، ولكونها تؤثر على شخصية الإنسان الروحية فانها تقع ضمن التحسينات ايضاً. كذلك ان تحريم الخمر له مصلحة الحفاظ على العقل، كما له مصلحة الحفاظ على النفس، وكذا على سلامة المجتمع من الاضرار الاجتماعية الناجمة عن السكر، فيدخل ضمن المصالح الحقوقية.
بهذا يتبين ان الحكم قد يفيد أكثر من مقصد ومصلحة بغض النظر عما يرد من تفاوت بين مقادير هذه المقاصد والمصالح للحكم الواحد. فقد يطغى مقصد معين على غيره، الأمر الذي يبرر إلحاقه منهجياً ضمن دائرة محددة من مراتب المقاصد وأنواعها؛ إن لم يكن موضع إلتباس الناظرين واختلاف أفهامهم. لكن في جميع الأحوال إن كون الحكم الواحد له قابلية الإنضمام إلى أكثر من عنوان؛ فذلك يُبطل توزيع الأحكام ضمن مقاصد محددة، ما لم يُعتقد بنسبية التوزيع ومنهجيته. فهو نسبي بمعنى أن إلحاق الحكم بمقصد محدد جاء لإعتبار معين مع إغفال سائر الاعتبارات المؤهلة لإلحاق الحكم ضمن عناوينها المناسبة. وهو منهجي لكون التعويل على مقصد محدد مع إغفال غيره جاء لبعض المرجحات المنهجية التي تضعّف من قوة مصلحة هذا الغير إزاء ذلك المقصد دون نكرانه. فنكران المقاصد الأخرى يُبعد التوزيع عن طابعه المنهجي ليضفي عليه طابعاً حقيقياً أو لزومياً. وهو ما توحي به كتابات علماء المقاصد، حيث جرى توزيعهم للأحكام ضمن قوالب جامدة ومحددة. وكأنهم بذلك ينكرون النسبية ومن ثم الطابع المنهجي القائم عليها؛ مما يجعل طريقتهم غير دقيقة.
3 ـ ان إدراك المقاصد تارة يكون عبر النص الخاص، وأخرى من خلال الإستقراء الشرعي، وثالثة عن طريق الواقع والعقل من جهة ما يدركه هذا الأخير من المعاني المتفقة مع الأحكام الشرعية. وسواء في النهج الأول أو الثاني يلاحظ ان النتائج المترتبة عن ذلك تتفق مع مقررات الوجدان العقلي، أي أنها عقلائية وممضية لقرارات العقل وليست تعبدية أو تأسيسية الا على النحو النسبي[20]. فمثلاً يتفق العقل والنقل على قبح السرقة وحرمتها، فمن هذه الناحية تُمضي الشريعة قرار الوجدان العقلي، لكن تحديد العقوبة بقطع اليد هو مما يعجز العقل عن إدراكه، وإن يدرك بأن ذلك يأتي للردع كما يظهره الواقع. وفي هذه الحالة ان العقل يدرك المقصد وإن لم يفصح عنه النص، كما ويعلم ان ما اختاره الشرع من تحديد خاص للعقوبة هو أفضل اجراء من بين خيارات متعددة، لكنه مع ذلك قد يتوقف في البدء، أو بحسب النظر القبلي، إن كان هذا الخيار مطلقاً يؤتى به دائماً، أو هو نسبي يتوقف على القصد وما يحدده من مطلب طبقاً لما يفرزه الواقع من تنوعات تتسق تارة مع الحكم المشار اليه وتختلف عنه تارة أخرى.
وعليه ننبه الى أن نظرية المقاصد لا يمكن ان تستقيم الا باعتبارين:
الأول: التسليم بقدرة العقل - المزود بخبرة الواقع - على إدراك المقاصد والمصالح بغض النظر عن النص. الأمر الذي يفضي الى قبول قاعدة الحسن والقبح العقلية التي رفضها اغلب فقهاء أهل السنة ومنهم علماء المقاصد تأثراً بالمذهب الأشعري. فنحن لو لم نسلّم بذلك لوقعنا في التناقض، وهو ما لاح علماء المقاصد فعلاً!
فهم من جهة يعدون المصالح الحقيقية هي تلك التي تقرها الشريعة لا العقل، أي أنها تكون تأسيسية تعبدية تستوي مع سائر التعبديات كما صرح بذلك الشاطبي[21]. لكنهم من جهة أخرى ميزوا بين الأحكام التعبدية التي لا يدرك معناها وبين الأحكام المصلحية المدركة بالعقل، وسلّموا لهذا الأخير صلاحية تقدير التفاوت بين المصالح واختلاف رتبها وانواعها وما يرجع اليها من أحكام على ما سلف ذكره. أفلا يكون هذا تناقضاً؟!
الثاني: التعويل على منهج الإستقراء الشرعي للتوصل إلى تحديد عدد من المقاصد التي قد لا تبدو واضحة من النص الخاص. وهو ما زاوله علماء المقاصد بلا أدنى شك. لكنهم لم يربطوا بينه وبين قرارات الوجدان العقلي التي تتطابق نتائجه معه تبعاً لذات النهج من الإستقراء وحساب الإحتمالات. الأمر الذي يؤكد ما هم عليه من تناقض.
هكذا فبدون هذين الاعتبارين تكون نظرية المقاصد عاجزة عن مقاومة النهج الحرفي الماهوي الذي اعتاد الفقهاء مزاولته بدقة واتقان. فطبيعة النهج الماهوي تبعث على التعبد، خلافاً للنهج الوقائعي الذي تبعث طبيعته على توخي المقاصد. فمثلاً لو حملنا الآيات القرآنية حول أهل الكتاب على الذم والحكم عليهم ببعض الأحكام بحسب النهج الماهوي، لأفضى بنا ذلك إلى التعبد من غير تمييز وتفريق بين المحسن منهم والمسيء، وكذا الحال بخصوص مدح أهل الإسلام والحكم عليهم ببعض الأحكام. مع أنه بحسب النهج الوقائعي لا بد من التمييز والتفريق تبعاً لما هم عليه من واقع؛ فإن كانوا محسنين فانهم يستحقون الثناء، وإن كانوا مسيئين فانهم يستحقون الذم، سواء كانوا مسلمين أو من أهل الكتاب، وقد قال جلّ وعلا: ((يا أيها الناس انّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) الحجرات/13، وقال ايضاً: ((ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده اليك الا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين)) آل عمران/75ـ76، وقال: ((ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)) الحديد/16، وقال: ((ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يُجزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً)) النساء/123.
4 ـ إن الغرض من طرح نظرية المقاصد هو تبرير الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، أي اضفاء صبغة المقصد والحكمة على هذه الأحكام، ولم يكن الغرض من ذلك تأسيس الأحكام وتجديدها. وبعبارة أخرى أن هذه النظرية جاءت لتبرير ما هو كائن، وليس لتأسيس ما ينبغي أن يكون. لذلك أضْفَت على الأحكام طابعاً ماهوياً تعبدياً، الأمر الذي جعلها متناقضة، خلافاً للنهج الوقائعي الذي يفترض مستلزمات غير تعبدية تتسق مع أصل الفكرة، أي المقاصد.
2 ـ نقد نظرية المقاصد الضرورية
لو حصرنا الحديث في المقاصد الضرورية باعتبارها أهم المقاصد قاطبة فسنرى ان التقسيم الآنف الذكر يواجه جملة من الإشكالات يمكن تصنيفها إلى ملاحظات شكلية وأخرى تأسيسية كما يلي:
أ ـ الملاحظات الشكلية
1 ـ إن اعتبار الدين قسيماً لسائر أقسام الضرورات يفضي إلى الفصل بينه وبين بقية مجالات الحياة التي تعبّر عنها الضرورات الأخرى. في حين ما قصده علماء المقاصد هو الأمور العبادية لا غير، لذا فالأنسب تخصيص اللفظ بالعبادة دون الدين الأعم منها؛ لا بما يحمله من المعارف العقدية فحسب، بل بما يقدمه ايضاً من معارف شاملة لمختلف مجالات الحياة؛ ومنها سائر الضرورات، سواء كان ذلك على نحو التأسيس، أو على نحو الإمضاء لقرارات العقل. ويؤيده أن القرآن الكريم أشار صراحة إلى ذكر العبادة كمقصد أساس للخلق ومن ثم الشرع دون ذكر ما يوازيه من الدين، كما في قوله تعالى: ((وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)) الذاريات/56.
2 ـ لقد اقترن ذكر المقاصد الضرورية بلفظ (الحفاظ)، وتوحي هذه اللفظة بأن مقاصد الشريعة معنية بالحفاظ على أمر كامل في الأصل، لا تحقيق الكمال لأمر ناقص أو غير موجود. ويشهد على ذلك ان موضوعات المقاصد على أرض الواقع ليست كاملة حتى يراد الحفاظ عليها، بل هي في جميع الأحوال ينتابها النقص والاحتياج. الأمر الذي يبرر الهدف الذي أتت لأجله الشريعة، وهو السعي لتسديد الواقع وإكماله لا الحفاظ عليه، سيما تلك المناطة بالمصالح الحقوقية وعلى رأسها مبدأ العدل. وهذا ما تشير اليه آية القسط وحديث إتمام مكارم الأخلاق، وكذا حديث التخلق بأخلاق الله، وغيرها من الآيات والأحاديث.
ب ـ الملاحظات التأسيسية
1 ـ المقاصد بين الضرورات والغايات
كثير ما يرد في الذهن السؤال المتعلق بنوع العلاقة التي تربط الحاجات المادية للانسان بحاجاته الروحية. فهل هناك رابطة غائية بين الحقيقتين؟ وهل وجد الإنسان لأجل قضاء حاجاته المادية، أم للتنعم باشباع حاجاته الروحية؟
قبل البت في الموضوع لا بد من الالمام ببعض الحقائق الاولية:
فمن ناحية نحن نعلم بأنه لا غنى للإنسان عن النوعين من الحاجات. كما ونعلم أنهما يتبادلان التأثير على الآخر سلباً وايجاباً، فاشباع أحدهما يؤثر على الآخر. فالافراط في اشباع الحاجات المادية مثلاً يضعف من حالة الاشباع الروحية، والعكس صحيح. ونعلم ايضاً بأن الحياة البشرية يسودها نزاع مستمر بين اشباع النوعين غالباً ما لا يكون ظاهراً، وإن بدا في أحيان معينة، وقد يتردد عندها المرء بأي منهما يأخذ وأيهما يدع. فأصحاب المناصب والمبادئ كثيراً ما يبتلون بهذا النزاع، سواء كانوا مخيرين بملئ ارادتهم أو ملجئين اليه بالتهديد والوعيد. لكننا نعلم من ناحية أخرى بأن اشباع الحاجات المادية مهما بلغ فإنه يظل محدوداً غير قابل للنمو والتطور الا بقدر ضئيل جداً. في حين ان اشباع الحاجات الروحية في تزايد لا يقبل الانقطاع والتوقف. فإنك مهما تعلمت وتعقلت ترى نفسك بحاجة أكثر إلى التعلم والتعقل، كذلك فإنك مهما تحررت وتخلقت تجد نفسك بحاجة أكثر إلى التحرر والتخلق. ومهما أوثقت صلتك بالله فستظل بحاجة إلى المزيد مادمت حياً. إذاً فالحاجات الروحية تعبّر عن كنْه الحياة الإنسانية وجوهرها، إذ أن مردّها إلى (المطلق) ونفخته الروحية، وان الإنسان مهما سعى لاشباعها فإنه لا يحقق من ذلك الا على قدر سعيه، فيظل متصفاً بالنقص والحاجة في قبال فيض المطلق. وعليه لولا هذه الحركة التطورية من الاشباع غير المنقطع للحاجات الروحية لما اختلف الإنسان عن البهيمة والحيوان. فهي التي تضفي عليه صورته الإنسانية وتجعل منه الكائن الوحيد بين المخلوقات الأرضية ذا قابلية مطاطة يتحول خلالها إلى أطوار متباينة من التكامل دون الوقوف عند حد. إذ تتجلى فيه الأبعاد الإلهية شيئاً فشيئاً حتى يظنه الواهمون إلهاً فيُعبد بأشكال صريحة وغير صريحة، كما هو الحال مع الأنبياء والأولياء والقديسين.
فهذا هو سر حركة الإنسان وغاية خلقه ووجوده. ومنه يتبين ان الحاجات الروحية هي حاجات مقصدية يستهدفها الإنسان في حركته الوجودية بما أنعم الله عليه من النفخة الروحية.
على هذا فإن اشباع الحاجات المادية ليس له غرض في ذاته، بل تنبع ضرورته من كونه شرطاً لتحقيق تلك الغاية من الاشباع الروحي. فلولاه لما استطاع الإنسان العيش، فضلاً عن أن يُشبع ذاته وغاية وجوده.
طبقاً لهذه المقدمة الايضاحية، لم يهتم علماء المقاصد في بحث الغايات الوجودية لخلق الإنسان؛ إما لإعتبارات نفي مبدأ الغرضية، أو لإعتبارات إبعاد العقل عن الممارسة الاستكشافية، أي تلك التي تتضمن المماحكة مع الواقع. وفي كلا الحالين فاتهم توظيف هذا البحث للكشف عن مقاصد التشريع، فتوقفوا عند حدود الحفاظ على الضرورات مما لا يتضمن اللغة التغييرية للواقع ولا يعد غاية تشريعية. فالجمود على دائرة (الحفاظ) لا يتناسب مع غاية خلق الإنسان، في حين يفترض - منطقياً – أن يكون هناك اتساق بين المقاصد وغاية الخلق دون اختلاف. والتشريع الذي لا يستهدف تحقيق هذه الغاية ولا يستهدي بهديها؛ ليس له معنى غير العبث. وواضح ان الضرورات المطروحة في نظرية المقاصد من الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال؛ كلها لا تعبر عن غاية الخلق من الاشباع الروحي غير المنقطع كما سبق ان بينا. يضاف إلى تحفظنا من القيد الذي أورده الأصوليون حول الجهة المعنية بهذه المقاصد، إذ حصروها بالمسلمين، وكان الأوْلى اطلاقها على الإنسان بما هو انسان.
إذاً فإن ما ذكره الأصوليون من مقاصد هي ليست مقاصد جوهرية وإن سُلّم لهم بأنها من الشروط الضرورية لتحقيق المقاصد الحقيقية، لكن ليس بإطلاق! فمثلاً إن من ضمن ما ذُكر من المقاصد (النسب)، رغم عدم علاقته بهذه المقاصد، فهو لا يحمل معنى مصلحياً قوياً مقارنة بغيره من الضرورات، فله بعض المعاني المصلحية على سبيل الحاجة، ومن ذلك توكيد الإنتساب الأبوي، والتمييز بين الأشخاص، سيما عندما تترادف الأسماء. كما أنه ليس من المسائل التعبدية، فحاله ليس بأولى من حاجيات رفع المشقة وتيسير أمور الحياة، فقد يكون لهذه الأخيرة من الأبعاد المصلحية والمقصدية ما تتفوق عليه.
هكذا فإن ما ذكره الأصوليون لا يتعدى المقاصد الشرطية، حيث هدفها تحقيق أخرى حقيقية هي غاية التشريع الذي يستهدف سعادة الإنسان، ونطلق عليها المقاصد الغائية، وهي كالتالي:
المقاصد الغائية:
وهي تشتمل على مجموعة من القيم ابرزها ما يلي: التعبد والتعقل والتحرر والتخلق والتوحد والتكمل، ولكل منها ظاهر وباطن، وذلك كالتالي:
التعبد:
وهو من حيث الظاهر العمل بما أمر الله به من العبادات الظاهرة المعروفة، كالصلاة والصوم والحج وما اليها.
أما من حيث الباطن فهو توثيق الصلة للنفس بين العبد وربه، وذلك بكثرة الذكر في القلب على الدوام، مثلما اشار اليه المولى جل وعلا بقوله: ((واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة)) الاعراف/205، وقوله ايضاً: ((ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم)) الحشر/19.
التعقل:
وظاهره الممارسة الاستكشافية في اكتساب العلم والمعرفة لفهم الظواهر الوجودية ومنها طبيعة الإنسان ومنشؤه ومصيره. إذ يمكن توظيف هذه الممارسة لصالح الإنسان بنحو من التثبت والتيقن قدر الامكان، والا فالعلم بالنظر والترجيح من غير هوى ولا تقليد. وفي القرآن الكريم عدد كبير من الآيات تشير إلى هذا المعنى من التعقل، يكفينا منها ذكراً قوله تعالى: ((ولا تقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كلٌّ اولئك كان عنه مسئولاً)) الاسراء/36، ((ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علمٌ فلِمَ تحاجون فيما ليس لكم به علم)) آل عمران/66، ((واذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لَو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)) البقرة/170، ((وبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أُلو الألباب)) الزمر/17ـ18، ((أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت، وإلى السماء كيف رُفعت، وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى الأرض كيف سُطحت)) الغاشية/17ـ20.
أما باطن التعقل فهو الممارسة الاستكشافية المبنية على النظر الوجداني لمعرفة الحقائق ومعاينتها. وهي عملية تتأسس عليها ظاهرة التعقل الخارجي كأصل معرفي، لكنها تُكمل ايضاً ما يبدأ به هذا التعقل ولا تلغيه، بل تعمقه بالاحساس الباطني والمعاينة المباشرة للمعرفة الالهامية بنوع من التأمل والاستبطان. وبعضهم يشير إلى هذا المعنى مستشهداً بقوله تعالى: ((واتقوا الله ويعلمكم الله)) البقرة/282.
التحرر:
وظاهره التجرد عن كل ما يعيق حركة الإنسان الكمالية في الحياة من الاستعباد والاستغلال والكسل والاتكال والخمول واتباع التقاليد والأعراف المنحرفة أو التي لا خير فيها، وما إلى ذلك.
أما باطنه فهو التجرد عن الأحوال النفسية السيئة التي تعمل على استعباد المرء واستنفاد طاقته وتضليله، كالأهواء المضلة والشهوات المميتة وحُجب التقليد المانعة من معرفة الحق والسلوك اليه. ولا يأتي هذا التجرد الا بقطع الصلة عن هذه الأحوال عبر المجاهدة النفسية، وقد جاء في الأثر أن أعظم الجهاد جهاد النفس.
التخلق:
وظاهره العمل بمكارم الأخلاق من العدل والرحمة والتسامح والتواضع والتودد وحسن التعامل مع الطبيعة وتسخير الأشياء وما اليها. وقد جاء في الحديث: (إنما الدين المعاملة).
أما باطنه فهو العمل بما اصطلح عليه أهل الكشف والأحوال بالتخلية والتحلية. أي التخلي عن الطباع والصفات النفسية السيئة واحلال محلها ما يقابلها من حسن الطباع وطيب الصفات. وهو ما يشار اليه بالتخلق بأخلاق الله مثلما جاء في الحديث، واليه اشارة بعض تفاسير الآية: ((ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها)) الاعراف/180.
التوحد:
وظاهره السعي نحو اقامة ما أمكن من رابطة الأخوة وتعميق العلاقات بين أفراد المجتمع البشري، عبر التعاون والتآلف لما فيه خير وصلاح الجميع. وقد جاء في حده الأدنى ما أشار اليه قوله تعالى: ((يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم)) الحجرات/13. أما في حده الأعلى فقد جاء قوله تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا..)) آل عمران/103، ويشار اليه في بعض تفاسير الآية: (( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، الا من رحم ربك، ولذلك خلقهم)) هود/118ـ119.
وتجدر الإشارة إلى أن أغلب المذاهب الإسلامية ظلت ـ وللأسف ـ تعمل طوال تاريخها على خلاف هذا المقصد بالفرقة ونفي الإعتراف بشرعية الآخر، توسعة وتضييقاً، سواء في عقائده أو عباداته الخاصة، متجاهلة أنها مذاهب إجتهادية على حد سواء. هذا من حيث الظاهر، أما من حيث الباطن فقلّ ما تجد فيها من يعمل بميزان التوحيد لمصادر الاحساس والشعور والارادة؛ بجعل حالها موضع الإنصاف مقارنة بما عليه الآخر.
التكمل:
وظاهره إكمال جميع ظواهر الأحوال السابقة، أما باطنه فإكمال بواطنها من غير حد ولا انقطاع. فمصدر التكمل هو اشباع الباطن وتحريكه، ومنه تنبعث حركة إكمال الظاهر. واليه الإشارة بقوله تعالى: ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ))الرعد/11. ومنه يعلم ان الحركة باتجاه الكمال غير منتهية، واليه يشار في بعض تفاسير الآية: ((يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)) الانشقاق/6 .
***
يتبين مما سبق النقاط الثلاث التالية:
1 ـ تعتبر علاقة الباطن هي العلاقة الهامة في كل ما مرّ علينا من الأحوال السابقة، وذلك لما لها من تأثير على حركة الظاهر. فمع أن للحركة الأخيرة دورها المقابل في التأثير؛ لكن يظل العامل الحاسم في الحركة عائداً للباطن. وتنطبق هذه الحقيقة على جميع تلك الأحوال بما فيها حال التعقل، فلولا التعقل الباطني لمصادر المعرفة الأولية لما امكن تشكيل سائر المعارف المناطة بالتعقل الخارجي، كذلك فهو يكمل ما يبدأ به هذا الاخير، على ما اشرنا اليه آنفاً.
2 ـ إن العلاقة بين الأحوال السابقة هي علاقة توظيف وتأثير متبادل، فبعضها يوظف البعض الآخر ويؤثر عليه بفعل الحركة الباطنية.
3 ـ إنه بفعل تلك الأحوال تكون حركة الإنسان حركة تكاملية غير متناهية؛ باعتبارها تتجه نحو المطلق أو الكمال.
2 ـ المقاصد بين حق الله وحق الإنسان
مثلما رجح الأصوليون رتب المقاصد بعضها على بعض، معتبرين الضرورات أهمها جميعاً؛ فانهم فعلوا الشيء ذاته مع أصناف الضرورات، فقدموا الدين على ما سواه، ثم أتْبعوه بالنفس فالعقل وهكذا. ومع ان تقديم الدين على النفس لا يعد قضية محسومة لدى كافة الأصوليين، فبعضهم يرى العكس هو الصحيح[23]، إلا أن أغلب العلماء ذهبوا إلى تفضيل الأول على الثاني ومن ثم على سائر المصالح الأخرى قاطبة، مستدلين على ذلك بالجهاد، حيث يضحى بالنفوس من أجل حماية الدين وحفظه[24]. فالجهاد واجب وحق لله ليس للانسان فيه من خيرة، سيما وأنه عبادة يلزم عندها تحقق نية القربة، على ما فيه من مصلحة فائقة للمجتمع.
وتستند عملية ترجيح الدين على غيره من المصالح لدى الأصوليون إلى نظرية (حق الله) المطلق في قبال ما يُسمى بـ (حق العبد) مجازاً، إذ لا حق له عندهم في واقع الأمر. فهم يفرقون شكلياً بين الحقين تبعاً لمسألة جواز الاختيار للعبد وعدمه. فبخصوص حق الله نجد حالتين كما يلي:
1 ـ التعبدات الدينية التي هي من حق الله تعالى لعدم جواز اختيار العبد فيها بسبب عدم معقولية المعنى. إذ المعنى – هنا - موقوف الاعتبار لا يجوز تجاوزه أو اجراء القياس عليه.
2 ـ المصالح البشرية كما حددها الله تعالى في إلزام الناس على الامتثال لها من غير خيرة لهم في ذلك.
فسواء التعبدات أو المصالح البشرية التي لا خيرة للناس فيها؛ كلها تعد بنظر الأصوليين راجعة إلى حق الله.
أما حق العبد فينحصر في المصالح التي أُجيز له فيها الاختيار فحسب. فمثلاً ان ديون الأفراد بعضهم لبعض تعد من حقوق العباد، إذ يجوز لهم اسقاطها والتنازل عنها، بينما الجهاد وعقود الربا والغرر هي من حقوق الله ولا اختيار للعباد فيها رغم أنها تتعلق بمصالحهم العامة.
على هذا يصبح تعريف حق الله ـ كما يذكر الشاطبي ـ بأنه عبارة عن كل (ما فُهم من الشرع أنه لا خيرة فيه للمكلف، كان له معنى معقول أو غير معقول). أما حق العبد فهو (ما كان راجعاً إلى مصالحه في الدنيا)[25].
على ان عيب التقسيم الآنف الذكر ليس بما تضمّنه من فصل بين ما يعود إلى أمر الله وما يعود إلى اختيار البشر، وانما إلى المبررات التي غلفته. فالجمع بين التعبدات والحقوق البشرية التي لا خيرة للناس فيها ضمن دائرة حق الله؛ وإن كان صحيحاً بحسب موجبات التقسيم ومبرراته، الا أن خطأه يكمن في شكلية التقسيم، وذلك لنكرانه حقوق البشر في المصالح، سواء كان لهم في ذلك خيرة أو بلا خيرة، مما يتسق مع نظرية الحسن والقبح الشرعيين كما أدلى بها الأشاعرة، إذ لا اعتبار للمصلحة الا بما جعلها الله مصلحة؛ لما يملكه من الحق المطلق. الأمر الذي يتساوى فيه التعبد مع المصالح البشرية بلا أدنى فرق، فكلاهما يصبحان من التعبدات المقررة من قبل الله وحقه المطلق، وبه ينتفي التقسيم أساساً، إذ لا يكون أحدهما قسيماً للآخر، بل قسماً له وفرعاً عليه. وقد أكد الشاطبي هذا التصور، إذ أدرك أن الحقين المفترضين في التقسيم هما عبارة عن حق واحد، هو حق الله (لأن ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقاً له باثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقاً لذلك بحكم الاصل.. فأما ما هو لله صرفاً فلا مقال فيه للعبد، وأما ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار من حيث جعل الله له ذلك، لا من جهة أنه مستقل بالاختيار)[26].
هكذا طبقاً لهذا النظر تكون المصالح الإنسانية مجرد تعبدات لا دخل للعقل فيها ولا حكم، بل المصلحة مصلحة بفعل اعتبار الشارع لا غير؛ على ما أشار إلى ذلك الشاطبي بنفسه[27].
من هنا كان لا بد من دفع هذا الإشكال كما ورد لدى النظرية السابقة التي تسقط العقل من الاعتبار وتتنكر للحقوق الإنسانية لتردها إلى حقوق إلهية صرفة، وذلك بأنْ نميز بين الحقين الإلهي والإنساني، لا بحسب مبدأ الاختيار كما في الطريقة السابقة، وانما بحسب ما يناسب كل منهما من المرتبة الوجودية. فالحق الإلهي لا يتعدى التعبد الذي طالبنا به الباري تعالى لما منّ علينا من النعم الوافرة. أما الحق الإنساني فينحصر في الطلب الذي يحقق فيه البشر مصالحهم الحقيقية المدركة بالعقل والمعنى، سواء كان مصدر إدراكها الشرع أو العقل أو الواقع. فالتقابل بين الحقين هو تقابل بين تجلي الأثر الحياتي الدنيوي بمعناه الايجابي من جلب المصالح المعتبرة ودرء المفاسد وتقويم الحياة الإنسانية - الفردية منها والاجتماعية - تقويماً صالحاً وسليماً، وبين ظهور الأثر الغيبي الأخروي وحق الطاعة من حيث أنه حق لله باعتباره الإله الخالق المنعم.
لكن يلاحظ حول ما سبق النقاط الأربع التالية:
1 ـ إن المقصود بحق الله هو ذاته حق طاعته وعبادته كما شاء ان يختار من غير حق للسؤال والاستشكال: ((ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون)) الانبياء/23 . أما ما يُقصد بحق العبد فهو نفس تحقيق مصالحه وتسديد حاجاته بما يناسب وجوده التكويني. وبالتالي فالتقابل بين ما يسمى بحق الله وحق الإنسان هو ذاته التقابل المعبر عنه بحق الطاعة والمصلحة. ونقصد بالمصلحة هنا مصلحته في الدنيا، لأن مصلحة الآخرة مقررة وثابتة بفعل الامتثال بالحقين. وبعبارة أخرى أنه اذا كانت مصلحة الدنيا قسيمة لحق الطاعة، فإن الحال مع مصلحة الآخرة شيء مختلف، فهي نتاج الإمتثال لكلا القسمين؛ حق الطاعة والمصلحة الدنيوية.
2 ـ اذا كنّا قد اعتبرنا المصلحة من الحقوق العائدة للانسان، فلا يعني ذلك ان مطلق المصالح التي يتنعم بها هي من حقه في قبال حق الله، فأغلب المصالح الإنسانية هي نِعم تكميلية شاء الله تعالى أن يمنّ بها على الإنسان. لكن لما كانت فائدتها تعود عليه فقد اعتبرناها من حقه بنحو من المجاز تمييزاً لما هو عائد لله تعالى وحده، وهو التعبد أو حق الطاعة.
3 ـ ان التقسيم الآنف الذكر منهجي ونسبي، فقد يتضمن الحكم الواحد جوانب تعود إلى حق الطاعة، وجوانب أخرى تعود إلى المصلحة. وقد يطغى حق الطاعة على المصلحة أو العكس، تبعاً للاعتبارات النسبية، وأكبر شاهد على ذلك الصلاة، فهي عبادة وحق لله، رغم أنها تحقق – في الوقت ذاته – الكثير من المصالح المعتبرة لحياة الإنسان؛ مثل اصلاحها للمجتمع بنهيها عن الفحشاء والمنكر، كما في قوله تعالى: ((ان الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر)) العنكبوت/45، وورد في الحديث قول النبي (ص): (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله الا بعداً). الأمر الذي يجعل من الصلاة ليست عبادة صرفة، وإنما وسيلة ايضاً لتحقيق المصالح التي يتطلع لها الإنسان. والحال ذاته ينطبق على العبادات الأخرى مثل الزكاة والجهاد والحج والصيام، رغم ان بعضها يتجلى فيه الجانب المصلحي ويطغى عليه مقارنة بالتعبد، كالزكاة والجهاد.
وعليه فالعلاقة بين الحقين ليست علاقة تنافر وتضاد، طالما كان بينهما تداخل نسبي. فمصلحة الإنسان هي ايضاً من الحقوق التي يريدها الله تعالى ويأمر بها، وهي من هذه الناحية تدخل ضمن اعتبار حق الطاعة، وإن كانت في حد ذاتها مطلباً انسانياً. وكذا بخصوص حق الطاعة الذي تتحقق به فائدة تقويم الإنسان وصلاحه في الدنيا. الأمر الذي يجعل للأحكام الشرعية وجهين، أحدهما عبادي والآخر حضاري. فحيث أنها دالة على أمر الله ومولويته ووجوب طاعته والإمتثال لأوامره فإنها من هذه الحيثية عبادية. لكن حيث ان غرضها مصلحة الإنسان وتسديد حاجاته وكمالاته فإنها تكون حضارية.
والملاحظ ان النصوص الإسلامية تارة تؤكد على الحيثية الأولى، وأخرى على الثانية، وثالثة تجمع بين الحيثيتين. ففي قول المولى عز وجل: ((إن الحكم الا لله أمر ألا تعبدوا الا إياه)) يوسف/40؛ دلالة على الحيثية الأولى. أما في قوله تعالى: ((من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)) النحل/97؛ فدلالة على الحيثية الثانية. بينما في قوله تعالى: ((شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)) الشورى/13، وقوله: ((فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً)) الكهف/11؛ نجد الدلالة على الجمع بين الحيثيتين الآنفتي الذكر.
4 ـ من الناحية المعرفية إن التقسيم السابق يعكس صورة الاختلاف المنهجي لفهم الإشكاليات الدينية، فقد تصاغ المعرفة بنسغ نازل من أعلى إلى أسفل، أو العكس. والفارق بين المنهجين هو أن الأول يعول على النص في فهمه للواقع وحلّه للإشكاليات الدينية. في حين ينطلق الثاني من الواقع لفهم النص وحل تلك الإشكاليات. وتعتمد النظرية التقليدية على النهج الاول؛ بجعل النص هو المحدد المطلق لمجالات حقوق الله والعباد تبعاً لمبدأ جواز الاختيار وعدمه القاضي بالنهج النزولي من النص إلى الواقع، أو تنزيل النص على الواقع فهماً وتطبيقاً، مما يتسق مع نظرية الأشاعرة في التحسين والتقبيح. بينما في التقسيم الذي اخترناه يكون الواقع هو الذي يطلعنا على مصالح الإنسان بغض النظر عن إشارات النص، وبالتالي فهو ركن أساس في المنهجة، ففي الأصل أن انطلاق الحركة الإدراكية هي من تحت إلى فوق، أو من الواقع إلى النص. مع ما يلاحظ ان حالات الصعود والنزول كلاهما ضروري دون ان يُتخذ من ذلك قالب مذهبي جامد، لكن الحسم الأساس إنما يعود إلى طبيعة ما يراه كل من المنهجين المتعاكسين. وهما في الحقيقة يفضيان إلى نتائج متخالفة.
ولو غضضنا الطرف عن الحسم لأي من المنهجين وما يفضيان اليه من نتائج متغايرة؛ نلاحظ أننا إزاء عمليتين إحداهما تكمل الأخرى، فهما يعبّران عن مفهومين يمكن اختزالهما بهاتين المقولتين: (تديين الواقع) و(توقيع الدين). حيث يراد بالأولى اضفاء صبغة الدين على الواقع، أو انزال طبق الغيب على عالم الشهادة. أما الثانية فهي على العكس، إذ تعني اضفاء صبغة الواقع على الدين، وذلك بتصعيد لوح عالم الشهادة إلى فوق وجعل الواقع يتحول إلى نوع من الديانة؛ فينشأ لدينا ما نصطلح عليه (ديانة الواقع). والعمليتان مطلوبتان، فهدف الأولى جعل الدين واقعاً، في حين أن هدف الثانية هو جعل الواقع ديناً، والمصالحة بينهما لا تتم الا عبر جدل التنزيل والتصعيد.. أي تنزيل طبق الغيب والدين من جهة، وتصعيد لوح عالم الشهادة والواقع من جهة أخرى.
عود على بدء
على ضوء ما سبق يمكن تقسيم مقاصد الشريعة إلى نوعين يتعاكسان منهجاً، لكنهما يؤطران السلوك التكليفي للانسان بتمامه؛ أحدهما مقاصد الطاعة المعبر عنها بحق الله، والاخر مقاصد المصلحة المعبر عنها بحق العبد أو الإنسان. وتبعاً لما سلف ينبغي أن يتخذ منهج حق الله السلوك النزولي من النص إلى الواقع، إذ لا يدرك هذا الحق الا بوحي من النص. في حين يتخذ المنهج الآخر - وهو منهج المصلحة - السلوك المعاكس بالصعود من الواقع إلى النص، إذ يراعى دراسة الواقع ويقرر على ضوئها ما يتفق وحاجة الإنسان. وقد دلّ الذكر الحكيم باشارات إلى كلا النوعين من المقاصد، ومن ذلك دلالة آيتين هامتين تكشفان عن بعض ما يتضمنه النوعان. فقد جاء في احداهما قوله تعالى: ((وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون))، وكذا ما ورد عن النبي (ص) قوله: (حق الله على العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)[28]. وبه يعلم ان الله تعالى استهدف حق الطاعة كمقصد من مقاصد الشرع والخلق معاً. أما في الآية الأخرى فقد جاء قوله تعالى: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)) الحديد/25، ويسنده ما ورد عن النبي (ص) قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقوله ايضاً (إنما الدين المعاملة). ويعلم من ذلك ان المصالح الحقوقية هي من المقاصد الاساسية التي نصّت عليها الشريعة وراعتها بالاعتبار. وبالتالي فإن حق الطاعة والمصلحة يعدان مقصدين اساسيين نصّت عليهما الشريعة بالاقرار والتوكيد.
على ان العلاقة بين المقصدين هي علاقة تكاملية لا يستغني فيها الواحد عن الآخر، لا كما كرسته نظرية الأشاعرة في رد المصلحة إلى حق الطاعة، ولا كما آلت اليه نظريات الغربيين بنفي الحق الأخير ونكرانه. إذ لا يتسق إلغاء المصلحة مع ما عليه مجريات أمور الحياة وسنن الوجود، كما أن قطع الصلة عن حق الطاعة يجعل الحياة عبئاً ثقيلاً، لكونه يفضي إلى الانقطاع عن عالم الغيب وامداداته الروحية، مما يشكل خطورة على مصالح الإنسان - وهو الحبل الآخر من المقاصد - وما يترتب عليه من حرمان تحقيق الاشباع للمقاصد الغائية السالفة الذكر. لهذا نجد الأحكام الشرعية تجامع وتداخل بين المقصدين، اذا ما استثنينا عدداً قليلاً من الأحكام التعبدية المحضة التي لا يدرك معنى المصلحة فيها كلياً.
ومع أن المقصدين أحدهما يكمل الاخر، الا انهما قد يتزاحمان عند مورد الامتثال للأحكام، فيكون أحدهما معارضاً للآخر. الأمر الذي يتطلب الإجابة عن السؤال حول أيهما أرجح عند التعارض في النظر الشرعي، فهل أن واضع التشريع رجح كفة الحق الإلهي على الإنساني، أم العكس هو الصحيح؟ وهل أن الشريعة قدمت البعد العبادي على الحضاري، أم أنها قدمت الأخير على الأول؟
مع أن من الصحيح في الوقت نفسه أن يقال بأن التعارض المذكور هو في حد ذاته يعبر عن تعارض أفراد البعد الواحد، سواء كان عبادياً أو حضارياً، طالما ان كل حكم ينطوي على التداخل والجمع بين البعدين. فلو تعارض الحكمان لنشأ التزاحم والمعارضة بين أفراد البعد الواحد فضلاً عن البعدين. مع هذا فإن الغالب من البعدين في أحد الحكمين المتزاحمين هو غير الآخر، لذا يظل السؤال وارداً حول أيهما نأخذ وأيهما ندع؟
وبدون شك إن الإجابة المبدئية عن السؤال المطروح لا تتحدد الا بمعرفة أي منهما أهم من الآخر؟ لذا يصح ان ينقلب السؤال المذكور إلى صيغة أخرى مباشرة كالتالي:
هل خُلق الإنسان لأجل العبادة بتوفية حق الطاعة، أو شُرعت العبادة لأجل الإنسان؟ وهل البشر في خدمة الوحي، أم العكس هو الصحيح؟ فهنا نلحظ ان العلاقة بينهما تحولت إلى رابطة الوسيلة بالغاية، ولما كانت الغاية أهم من الوسيلة؛ لذا أنها تتقدم عليها عند تزاحم التعارضات، وطبقاً للقاعدة الأصولية فإنه (يُغتفر في الوسائل ما لا يُغتفر في المقاصد)[29].
لكن مَن منهما الغاية ومَن الوسيلة، سيما أنهما يندكان ببعضهما في أغلب الأحكام؟
للإجابة على ذلك لا بد من مراعاة النقاط التالية:
1 ـ يلاحظ ان أغلب الأحكام تصطبغ بالصبغة الحضارية، فيما تنحسر الأحكام العبادية بعدد قليل. فمن ذلك حرمة الاعتداء والكذب والغيبة والنفاق والحاق الضرر بالنفس والآخرين، ومكافحة الظلم وبسط العدل وفرض الزكاة وقمع الاجرام والقصاص وشرط العدل في الحاكم والقاضي والشهادة وسد الذرائع إلى الفساد وضمان الضرر الملحق بالغير وحماية الحقوق ووجوب التراضي في العقود ومسؤولية الإنسان على فعله وتحريم الربا والقمار وبيع الغرر... الخ. وقد جعل الفقهاء - بهذا الصدد - جملة من نصوص الشارع كقواعد فقهية ثابتة، منها: (انما الاعمال بالنيات)، (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، (الولد للفراش)، (ان الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، (المسلمون على شروطهم)، (القاتل لا يرث)، (لا يقضي القاضي وهو غضبان)، (لا ضرر ولا ضرار).. وغير ذلك مما يدخل في سلامة أمر العباد وتحقيق مصالحهم. يضاف اليه وجود قواعد فقهية أخرى استخلصها الفقهاء من وحي الشريعة والتي منها قاعدة: العادة محكّمة، دليل الشيء في الأمور الباطنة يقوم مقامه، الحاجة تنزل منزلة الضرورة، المشقة توجب التخفيف، دفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب، الشرط خلاف ما يقتضيه العقد مبطل له، الأمور بمقاصدها والتي يتفرع عنها قاعدة: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للالفاظ والمباني... الخ [30].
2 ـ كما يلاحظ ان اغلب المقاصد العامة للشريعة هي مقاصد حضارية، بما في ذلك المقاصد الضرورية والغائية. فباستثناء التعبد تجد سائر المقاصد الأخرى كلها تتضمن عنوان المصلحة. وهي بحسب المنهجة التي وضعناها - على ما سبق - لا تدخل ضمن دائرة مقصد حق الطاعة.
3 ـ ليكن في معلومنا ان الجانب العبادي من الدين يرتهن فعله بشروط حضارية أو مصلحية؛ لولاها ما صحّ التعبد ولا قام. فالصلاة والصوم والحج وغيرها من العبادات – مثلاً - تسقط أو تخفف عندما لا تكون هناك استطاعة أو يحصل منها الحرج والعسر الشديد. الأمر الذي يجعل من تلك الشروط مقدمة وحاكمة على غيرها من التعبديات، كما يشار إلى ذلك بقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) الحاكمة على سائر الأحكام الأخرى. أي أن الضرر لا يجتمع مع العمل بالعبادة فترجح مصلحة دفعه على بقية الأحكام، وقد جاء في قوله تعالى: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج)) الحج/78، واشتهر على الالسن مقولة (مراعاة الابدان خير من مراعاة الأديان)[31]. واذا أضفنا إلى ذلك ما سبق أن توصلنا اليه من شرعية تقديم المصلحة على سائر الأحكام المعارضة كما نبّه عليه الطوفي؛ فلن يبقى شك في اعتبار المصلحة هي الغاية والأهم من حيث النظر الشرعي مقارنة مع حق الطاعة[32].
4 ـ لكن قد يقال ان حق الطاعة مرجح على المصلحة بدلالة ان الشرع أجاز ان يغفر للعبد كل ذنب كما في قوله تعالى: ((قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً)) الزمر/53، واستثنى من ذلك الشرك كما في قوله تعالى: (( إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)) النساء/48 و116. بمعنى أنه الزم العبد بالايمان بالتوحيد الزاماً يفوق غيره من الواجبات والمصالح.
والجواب هو ان الإيمان بالتوحيد لا يدخل ضمن دائرة حق الطاعة، ذلك لأن هذا الحق ليس له من مبرر إلا الإيمان بالتوحيد ذاته، لذا فلو دخل الأول في الثاني لحصل الدور. يضاف إلى ان من غير المعقول أن تتعارض المصلحة مع الايمان بالتوحيد لينشأ من ذلك الترجيح. ناهيك عن ان هذا الايمان هو من العوامل الهامة التي تساهم في تحقيق مصالح الإنسان؛ كتحريره وتخليقه وتوحيده وتعقيله وتكميله[33]. فضلاً عن ان النظر إلى الآيات التي تتوعد مرتكبي جرائم القتل والفساد في الأرض مما لها علاقة مباشرة بمصلحة الإنسان لا تقل صرامة عما توعدت به الآية السالفة عن الشرك.
هكذا نخلص إلى ان المصلحة تعدّ من زاوية نظر الشرع أهم وارجح من حق الطاعة. وهي نتيجة تخالف ما استقرت عليه الطريقة التقليدية، مما جعلها لا تبدي اهتماماً بدراسة الواقع ومعالجة حاجاته ومتطلباته. فليست هناك اشكالية صريحة للواقع في الفقه واصوله، بل ان الأمر يغيب حتى عن علم الكلام الذي نعلم مدى تأثيره على الدراسات الفقهية والاصولية. إذ لم يتجاوز اهتمام العلماء في الغالب حدود منهج حق الطاعة، وهو ما يفسره استغراقهم العميق في البحث عن الشكليات الحرفية للنص وما يترتب عليها من إجتهادات لا علاقة لها بمساهمة الواقع؛ الا عند الضرورة وضغط الحاجة.
هذا هو مسلك الفقهاء في دفاعهم عن الصور الحرفية للنص. وكذا هو حال التفكير السلفي طبقاً لمقولة (انما امرنا ان نأخذ العلم من فوق)، ومثلها مقولة الأشاعرة الخاصة بالحسن والقبح الشرعيين التي عززت القطيعة مع الواقع، بل الحال ينطبق حتى على الدوائر الأخرى التي عولت على القاعدة العقلية للحسن والقبح، إذ لم تستثمر ذلك في الكشف عن الابعاد الواقعية للحاجات الإنسانية، بل وظفتها للأغراض الكلامية المعنية باثبات التكليف ووجود الله وصفاته وما اليها. أما في الفقه فتكاد تكون هذه القاعدة معطلة مقارنة بعمليات الاستثمار اللفظي الموغلة في النص. وهو أمر يكشف عن تعارض الطريقة التقليدية مع ما استهدفته الشريعة من مراعاة المصلحة وتحقيق مقاصدها وغاياتها.
بين الفهم المقصدي والتعبدي للدين
من الممكن للفكر الديني أن يجعل من نظرية الاستخلاف قاعدته للتحرك تبعاً للمقاصد، فهي جامعة لأصلين هامين على مستوى الاعتقاد والسلوك، هما الايمان بالله الواحد والعمل الصالح. فهي نظرية تستقطب عدداً من القضايا، هدفها بناء (الإنسان الصالح) وفقاً لمنظومة القيم، عبر الاطلاع على تجارب البشرية. فلو رجعنا إلى النص الديني، كما في القرآن الكريم، نجد أنه يستهدف هذين الأصلين دون قيد أو شرط، وبالتالي فإنه يستهدف بناء ذلك الإنسان، كما يدل عليه ما لا يحصى من التعاليم الدينية. فغرض وجود هذه التعاليم واضح، وهو العمل على جعل الإنسان صالحاً، سواء مع نفسه أو مع غيره من افراد المجتمع، وسواء مع الطبيعة أو مع الله تعالى.
ولا يتعلق مفهوم (الإنسان الصالح) هنا بالجانب الفردي للانسان، كما لا يتعلق بالمجتمع ككل، سيما أن الصورة الأخيرة لا تخلو من طوباوية من الصعب تحقيقها، ويبقى أن يتعلق المفهوم بالإمكانات الواقعية لعدد كبير من الأفراد والشرائح الاجتماعية التي تتقبل التغيير تبعاً لهذا المنطق الإنساني، كما لها القدرة على التأثير الايجابي وسط المجتمع استناداً الى ما تحمله من قوة في المنطق والقيم. وتتصف مقومات هذا الإنسان بأنها لا تميز بين عرق وعرق، ولا بين مذهب وآخر، ولا دين وآخر، ولا بين مسلم وغيره، الا بقدر ما يمتلك من عناصر ومقومات الصلاح، فهي نزعة انسانية عامة تستهدي بقوله جلّ وعلا: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم)) الحجرات/13.
وعلى الصعيد النظري تختلف أبعاد هذا التصور عن تصور الحضارة الغربية، حيث تطالب الأخيرة بأن يكون الإنسان حراً دون قيود ما لم يمس حريات الآخرين، وليس الأمر هكذا في التصور الديني الذي يطالب الإنسان ان يكون صالحاً، وان الحرية - ضمن حدود - لا تعد غاية في هذا الصدد، بل وسيلة حقة دونها يعجز الإنسان عن تحقيق مبتغاه من الصلاح المنشود.
كما يختلف التصور السابق عن الفهم التعبدي الذي يضفي على الوسائل والآليات الدينية صفة التعبد، فيرى العمل بالدين هو ذاته عبارة عن العمل بما هو جاهز من الآليات والوسائل الدينية بكل ما تتضمنه من تشريعات جزئية. وبالتالي فبحسب التصور الأخير لا يمكن فصل الدين عن آليات النُظم الاجتماعية المستنبطة من الأصول الدينية ومفاهيمها، وعلى رأسها آليات النُظم السياسية والاقتصادية والقانونية، والتي يكون غرضها تطبيق تلك الجاهزية من التشريعات.
وبحسب الفهم التعبدي للدين هناك مسألتان، إحداهما الآليات كوسائل، والأخرى الجاهزية من التشريعات الجزئية التي تلعب - في الغالب - دور الغاية لتلك الوسائل، والتي تمثل لديه عين الدين ذاته. ومنه يفهم قول الإمام الغزالي: «الملك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع»[34].
وكلا المسألتين معرضتان للنقد الذاتي. فاذا بدأنا بالغاية، فإن مفادها اعتبار الدين هو عين الجاهزية من التشريعات التي يراد تطبيقها عبر تلك الوسائل أو الآليات. فالدين هو الشريعة، والشريعة هي الدين. ومن الممكن ان تأخذ المسألة بعداً آخر، وهو اعتبار تطبيق تلك الجاهزية عين العدل، فكل ما يطرح خلاف تلك الجاهزية ليس من العدل ولا من الدين في شيء. فالشريعة هي العدل، والعدل هو الشريعة. وقد يعني هذا ان من غير الممكن الارتكاز على الوجدانيات العقلية لتقرير ما هو عدل وانصاف، وذلك تأثراً بالموقف الأشعري. وبالتالي لا توجد مراعاة لما يمكن ان تفضي اليه النتائج من تطبيق تلك الجاهزية من التشريعات، وما قد تفضي اليه الأمور خلاف الهدف المنشود، وهو بناء الإنسان الصالح. بل نحن على ثقة بأن التطبيق لا بد من أن يسفر عن نتائج هي خلاف العدل ومقاصد الدين، باعتبارهما ليسا لازمين عن تلك المفاصل الشرعية بالضرورة، بل الأمر يتوقف على طبيعة الواقع والظروف، وحيث ان هذين الأخيرين في حالة تغير مستمر؛ لذا فمن المحال أن تناسب تلك المفاصل طبيعة العدل والمقاصد على الدوام. فقد جاءت المفاصل الشرعية وفق ما كان عليه الواقع من أحوال، وبالتالي لا يعقل أن تكون ثابتة كثبات المقاصد، فهي ذات طبيعة اجرائية جزئية قد تتفق مع المقاصد أحياناً، وقد تتضارب معها أحياناً أخرى، وكل ذلك يعتمد على طبيعة الواقع وتغيراته غير المتناهية.
إذاً لا يمكن للفهم السابق أن يقيم الدين من دون ان يعرّضه للتشويه والإلغاء. فإما أن يعبّر الدين عن مقاصده بغض النظر عن طبيعة ما تكون عليه التشريعات، أو يعبّر عن جاهزية التشريعات فحسب، أي دون أخذ اعتبار ما عليه المقاصد ذاتها، ومن المحال واقعاً ان يكون الدين جامعاً بين المقاصد وجاهزية التشريعات أو ثباتها، فالاهتمام بأحدهما يلغي الآخر ويهدمه. وبالتالي فإما ان نعمل على مراعاة المقاصد وعلى رأسها مبدأ العدل فنلغي الثبات والجاهزية من التشريعات، أو نعمل على مراعاة هذه الأخيرة فنلغي المقاصد والعدل، ومن ثم سوف يكون نظرنا للدين إما أن يمثل العدل والمقاصد، أو يمثل تلك الجاهزية الثابتة. ومن التعسف اعتبار الأخيرة عين العدل، فيصبح العدل صورياً بلا قيمة، كالذي ترمي اليه نظرية الأشاعرة بما يخالف العقل والوجدان.
هكذا فالمقاصد هي المعنية بتحديد ما هي التشريعات المناسبة وفق ما عليه الواقع المتغير، أما العكس فغير صحيح، بمعنى أن التشريعات ليست معنية بتحديد المقاصد. والتصور الآنف الذكر قام بقلب هذه المعادلة الوجدانية فأصبحت المطالبة بإقامة الدين تعني في الوقت ذاته إلغائه وتعطيله أو تشويهه.
واذا كان هذا الأمر ينطبق على ما اعتبر غاية، فإنه ينطبق على الآليات بالأولوية، فهي الأخرى لا يمكن اعتبارها تعبدية ولا توقيفية، بل كل ذلك يخضع لموجهات المقاصد بمراعاة ظروف الواقع وأحواله. صحيح أنه سواء من حيث الآليات أو التشريعات هناك صور لها قابلية أعظم على الثبات والاتساق مع المقاصد، لكنها في جميع الأحوال قليلة، وهي لا تتعالى على ظروف الواقع وتقلباته. وينطبق هذا الحال حتى على الصور التي يكثر فيها جوانب التعبد؛ كالصلاة والصيام.
أما بحسب الفهم المقصدي للدين، فلا توجد وسائل تعبدية ثابتة لتحقيق تلك المهمة السامية؛ غير العمل بالقيم الوجدانية والاخلاقية وترسيخ حالات الصلة بالله. فليس هناك تفصيل يتعلق بطبيعة آليات النظام السياسي فضلاً عن غيره من آليات النُظم الأخرى. فمثلاً لا يوجد هناك ما ينص على آليات التنصيب ولوائح الدستور العام وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذا صلاحيات الحاكم وشروط استمراريته في الحكم. فنحن نعلم - مثلاً - بأن عملية التنصيب التي جرت مع الخلفاء الراشدين بعضها يختلف عن البعض الآخر، فما جرى من تنصيب للخليفة الأول يختلف عما جرى مع الخليفة الثاني، وهما غير ما حدث مع الثالث، وكذا ان ما جرى مع الثلاثة مختلف عما جرى مع الرابع. ولم تكن جميع صور التنصيب السابقة قائمة على مبدأ الشورى، كما ان الأخيرة التي حدثت بفعل قرار الخليفة الثاني لم تكن بين جميع المؤمنين ولا جميع أهل الحل والعقد، وكذا يقال حول البيعة حيث لم تحدث على وتيرة واحدة، وبالتالي لا توجد هناك آليات ثابتة ومفصلة للتنصيب. والحال ذاته ينطبق على ما يتعلق بطبيعة العلاقة التي تحكم الحاكم بالمحكوم، ونعلم كم الفارق بين الطريقة التي سار عليها الخليفتان الأول والثاني، وبين ما أحدثه الخليفة الثالث من تغيير.
ومن حيث النصوص القطعية، يعترف بعض الفقهاء المعاصرين بأن المبادئ الدستورية في القرآن الكريم تعد قليلة للغاية. فالاستاذ عبد الوهاب خلاف يعتقد بأن نصوص القرآن قد اقتصرت على تقرير مبادئ اساسية ثلاثة عامة، وهي كل من الشورى ((والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)) الشورى/38، والعدل ((واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) النساء/58، والمساواة ((انما المؤمنون اخوة)) الحجرات/10[35]. مع ان للمبدئين الأول والأخير دلالة على كل من الشورى والمساواة بين المؤمنين فحسب، وهو أمر لا يتناسب والواقع الحديث للدولة. كما ان نصوص القرآن في القانون الاقتصادي قد اقتصرت على تقرير حق الفقير في مال الغني، وكذا حق الفقراء والمساكين في مال الدولة، حيث لهم سهم من الصدقات والغنائم والفيء. وعلى رأي الاستاذ خلاف لم تُفصَّل أحكام هذا البر بالفقراء؛ لتُفصِّل كل امة ما يناسبها[36]. وفي قانون العقوبات وتحقيق الجنايات اقتصرت نصوص القرآن على تحديد خمس عقوبات لخمس جرائم، هي: القتل والسرقة والسعي في الأرض بالفساد، والزنا، وقذف المحصنات، أما غيرها فهو - على رأي الاستاذ خلاف - متروك لولي الأمر[37].
وعلى الصعيد السياسي نحن نعلم بأن الأنبياء لم يُطلب منهم أن يكونوا قادة سياسيين، مثلما طُلب منهم التبليغ بدواعي النبوة والرسالة. أو أنهم غير مكلفين بهذا الأمر ما لم يبايعهم الناس، سيما أن بعض الأنبياء والرسل لم يتولوا هذه المهمة ولم يطلبوها[38]. لذا لو تخيلنا بأن الله بعث نبينا (ص) إلى دولة يحكمها حاكم أسلم على يديه، وليس إلى قبائل كثيرة متناثرة كما هو واقع ما شهدته شبه الجزيرة العربية، فهل نتصور أنه سيطالب بخلع الحاكم وتنصيب نفسه بحجة النبوة؟
كل ما يمكن قوله ان قيادة النبي للأمة على المستوى الاداري قد تمت بشكل تلقائي لعدم وجود زعامة مسبقة.
ويخطئ أصحاب الفهم التعبدي حينما يجعلون آليات النظام الديني السياسي، أو غيره من النُظم الاجتماعية، جزءاً متأصلاً في اللحمة الدينية لا تقبل الخلع والانفصال، حالها في ذلك كحال الصلاة والصيام إن لم يكن ابلغ منها، وكأنها الشعيرات النابتة في حجر الرخام (المرمر)، فمن المعروف أنه لا يمكن عزلها عنه بأيّ شكل من الأشكال ما لم يتم تهشيمه كاملاً. فهذا هو الفهم التعبدي الذي جرى اتخاذه بعناوين مثل عنوان الخلافة، وولاية الفقيه، وقبل ذلك الإمامة. وقد أصبح العنوان الأخير معطلاً لا فائدة ترجى منه سياسياً، والشيء ذاته فيما يخص شروطه الموضوعية، كشرط القرشية لدى الإتجاه السني، وشرط العصمة لدى الإتجاه الشيعي.
هكذا لمّا كان اختيار النظام السياسي ليس في حد ذاته مطلوباً، بل لِما يمكن ان يحققه من أهداف مرهونة بالحاجات الإنسانية، فإن ذلك يجعلنا أمام عدد من الخيارات الممكنة، ونرى ان خيارنا للنظام الذي يخدم إطروحة (الفهم المقصدي) يعتمد على ما يحمله هذا النظام من فقرات دستورية، وامكانات فعلية للتنفيذ، مع أخذ اعتبار الظروف الواقعية بعين الاعتبار.
وبعبارة أخرى، حيث أنه لا يوجد تصور محدد ثابت لآليات النُظم الاجتماعية يمكن رصده في طيات النص الديني، فهذا يعني ان هناك أشكالاً عديدة مفتوحة قابلة للتطبيق. وبالتالي فآليات هذه النُظم تختلف عما عليه سائر آليات القضايا الدينية التعبدية كالصلاة والصيام والحج وغيرها. ومن ثم فبقدر ما تكون آليات هذه النُظم باعثة على خلق أجواء مناسبة لبناء (الإنسان الصالح) بقدر ما تكون مطلوبة، وبقدر ما تفعل العكس بقدر ما تصبح مستبعدة. فمثلاً من الناحية السياسية، لا يمتنع ان يكون المطلوب نظاماً علمانياً عندما تثبت أفضليته في تهيئة مثل تلك الأجواء مقارنة بالنظام الديني. فالعبرة هنا بصلاح الوسيلة، وذلك لعدم وجود برنامج محدد، سواء من حيث النظر العلماني أو الديني.
ومن الناحية النظرية يمكن ان نتصور نوعاً من الأفضلية في نظام يعتمد على الموجهات الدينية والوجدانية في صور التعامل مع الوقائع والأحداث، مع أخذ اعتبار الإجتهاد في الواقع بكل ملابساته والعمل طبقاً لمعطياته تحت حاكمية تلك الموجهات بما فيها المقاصد الدينية. لكن حيث ان الواقع ما زال يفتقر إلى مثل هذه الصورة، فإن الخيار لا يتم بمعزل عن لحاظ طبيعة البرامج المقدمة، والظروف التي تنفذ فيها، مع القدرة على التنفيذ. فالغرض هو كل ما يمكن ان يقربنا نحو بناء ذلك الهدف المنشود؛ سواء تمّ الأمر عبر وسيلة دينية أو وسائل أخرى قد تكون أنجع منها، سيما عندما تعمل على إشاعة الحريات العامة والمساواة بين الناس أمام القانون؛ لا فرق في ذلك بين الحاكم والمحكوم، وكذا عندما تفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، كذلك عندما تجعل العمل التربوي والتغييري في المجتمع ممكناً، الأمر الذي يشكل ارضاً خصبة للداعين إلى تكوين ذلك الإنسان: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)) النحل/125.
على أن علاقة (الإنسان الصالح) بالمقاصد الدينية هي علاقة ضرورية غير قابلة للانفكاك، فلا يمكن تصور أحدهما دون الآخر. فالغرض من الدين لا يحيد عن هذا المطلب النبيل. وليس الأمر كذلك مع آليات النُظم الاجتماعية وعلى رأسها النظام السياسي، حيث لا يمتنع ان يكون الدين محايداً ازاءها اذا ما استثنينا مطالبته بجملة من القيم والموجهات ذات العلاقة المباشرة بالغرض الديني الآنف الذكر. مما يعني أنه لا يوجد نظام محدد تفصيلي؛ سواء استعنّا بالنظريات الشيعية أو السنية. وبالتالي فليس هناك ما نعده من التعبديات كما يزعم أصحاب الفهم التعبدي، ولا توجد مؤشرات تشير إلى هذا المعنى من التعبد.
هكذا ليس هناك تضاد بالضرورة بين البرامج الاجتماعية - السياسية والاقتصادية وغيرها - لدى الفكرين الديني والعلماني. فالفارق بينهما يمكن ان يتحدد ببعض المصادر المعرفية، فالفكر الديني لا يمانع من الأخذ بجميع ما يعتمد عليه الفكر العلماني ويضيف اليه خصوصيته المتعلقة بالنص. وهو معنى كون هذا الفكر يتخذ طابع الجمع لا الطرح في الغالب. وبالتالي قد يحصل تقارب بين الرؤيتين في بعض الحالات، منها ما قد يحصل من تقارب عند اعتماد الرؤيتين على الاعتبارات العقلية والواقعية وغيرها من الاعتبارات العارضة لدى الفكر الديني. كما قد يحصل تقارب بين الرؤيتين في النتائج رغم اختلاف الاعتبارات المعتمدة لدى كل منهما، كإن يكون الإعتماد لدى الفكر الديني على الاعتبارات الذاتية (النص)، ولدى الفكر العلماني على العقل والواقع. مع هذا فالفوارق بينهما تظل متوقعة وكثيرة، لكن ذلك يحدث ايضاً بين البرامج المختلفة التي يقدمها ذات الفكر الديني بأطيافه المتنوعة، وكذا يحدث بين البرامج المختلفة التي يقدمها الفكر العلماني.
فمثلاً ينقسم النظام السياسي داخل الفكر الديني إلى نظام ديني استبدادي، والى نظام يعمل بالتعددية. وكذا هو حال ما يحصل داخل الفكر العلماني. وهذا يعني أن الخطأ وارد في البرامج والمشاريع المقترحة، سواء كانت دينية أو علمانية، وان صفة الإجتهاد لدى كل منهما قائمة، وأنه لا قدسية في الإجتهاد الديني، وان الأحكام الواردة فيه ليست أحكاماً لاهوتية أو إلهية بحتة، وكذا ان السلطة والسيادة ليست إلهية ثيوقراطية، بل لها طبيعة بشرية مصطبغة بالصبغة الدينية، وحصيلتها في النتيجة هي حصيلة بشرية قائمة على الفهم والإجتهاد، ومن ثم فهي قابلة للخطأ. وان الأفضلية بين الفكرين لا تتحدد بمجرد الانتماء، بل لا بد من معرفة طبيعة ما عليه البرامج؛ سواء كانت دينية أو علمانية. فللنزعتين عدد غير محدد من البرامج التطبيقية. وبالتالي قد يتفوق برنامج ديني على علماني، كما قد يحصل العكس، طالما ان المصادر والاعتبارات المعتمدة قد تتفاوت وتختلف فيما بينها، وقد يطغى بعضها على البعض الآخر، مما قد يختلف فيه الأمر من برنامج إلى اخر. فليس كل من يعول على النص يصيب الإجتهاد الصحيح، ومثل ذلك من يعول على العقل والواقع، وان الصواب صواب سواء كان مستمداً من النص أو غيره.
ويمكن القول ان الأنظمة الحديثة قاطبة لم توفق بعد إلى الصواب في تعاملها مع الشعوب المحكومة، وان الداء فيها متنوع، إذ قد يتمثل بإبتعادها عن الروح الدينية وقيمها السامية، كما قد يتمثل بإهمالها للموجهات الوجدانية المناطة بالممارسة والتطبيق؛ كالإخلال في العدالة والتمييز والاضطهاد، أو لكونها لا تعير اهمية للمقاصد الدينية واعتبارات الحقائق الواقعية. فلا يخلو نظام من انظمة الحكم الحديثة دون ان يمسه داء أو أكثر مما قدمنا. وبالتالي فهي لا تعبّر عن طموح (الإنسان الصالح) سواء كانت مصطبغة بالصبغة الدينية او العلمانية. وان المسؤولية الملقاة على عاتق النظام الديني كبيرة، باعتباره يمارس نوعين من الفهم والإجتهاد، أحدهما يتعلق بالنص، والآخر بالواقع، وان اغفال اهمية فهم هذا الأخير هو الداء المزمن الذي رافق التفكير الديني منذ نشأته والى يومنا هذا، وبالتالي فأزمة هذا النظام وفشله يعودان في الغالب إلى عدم الوعي بأهمية الواقع وعلاقته بالنص. لذلك تتفوق بعض التجارب العلمانية الغربية على مشروعاتنا السياسية. ومع ان لكل نواقصه، إلا أن الفوارق في النقص والخلل بين هذين النوعين من المشاريع والتجارب كبيرة للغاية. وقديماً قال ابن تيمية أيام الحملة المغولية، نقلاً عن بعض العلماء: إن «الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة». ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء)[39]. ومثل ذلك ما أفتى به الفقيه رضي الدين علي بن طاووس بتفضيل الحاكم العادل الكافر على المسلم الجائر، أيام السلطان هولاكو. وهو ما أيده بعض رواد الاصلاح الديني الحديث مثل الكواكبي[40]؛ مفضّلاً أن يحكمنا الملوك الغربيون عن أن يحكمنا الرؤساء المسلمون، معتبراً الأوائل أفضل من الآخرين وأولى منهم حكماً، شرعاً وعقلاً، لكونهم أقرب للعدل وأقدر على إعمار البلاد وترقية العباد ومن ثم تحقيق المصالح العامة. لذا اعتبر التشريع الغربي هو حبل الله لأنه بيد الأمة[41].
يبقى أن الخيار الديمقراطي هو الخيار المطلوب، وأن التيار الديني هو أقوى التيارات التي يمكنها توظيف هذا الخيار في مجتمعاتنا الإسلامية، إلى حدّ قد يفضي التحقيق فيه - دينياً - إلى اعتباره واجباً متعيناً قبال غيره من الخيارات، فهو خيار استراتيجي لا تكتيكي، فالمكسب فيه معلوم، سواء في الفوز أو الفشل، إذ هناك فرص حقيقية لتجنيد الطاقات في التوعية والتغيير الاجتماعي، وأن من الممكن الاستفادة من الحرية المتاحة وقابلية مجتمعاتنا لقبول الخطاب الديني أكثر من غيره[42].
ومن الغريب فعلاً أن يعرض أغلب الكتّاب الإسلاميين والكثير من حركات التيار الديني عن ذلك الخيار، بدل التهافت عليه. وهم إذ يفعلون ذلك فلتمسكهم ببعض ألوان الاستبداد الديني والسياسي، رغم ما يفضي اليه الأمر من تشويه سمعة الدين وفقدان الثقة وحالة الاحباط التي تصيب المجتمع جراء التطبيق، كالذي رأيناه في أكثر من مكان وتجربة.
نعلم ان هناك تحسساً للتيار الديني إزاء عدد من القضايا التي تتضمنها فكرة التعددية والخيار الديمقراطي، ومن ذلك الجلوس مع الاحزاب المعارضة في المجالس النيابية. وقد يجاب عليه بأن ذلك لا يكون أعظم من قبول النبي (ص) لصلح الحديبية مع ما فيه من بعض الخسارة المعنوية قبال الكسب الذي تضمنته المعاهدة. فما يحصل في المجالس النيابية من الخسارة المعنوية للطرف الديني، بل وجميع الأطراف، ليس بأعظم من تلك الحالة التفاوضية التي جرت بين النبي وخصومه من المشركين، ولا أعظم مما عاهد به النبي يهود المدينة المنورة وغيرهم، ضمن ما يُعرف بصحيفة المدينة التي لها طابع المواطنة والحقوق المدنية. وفي جميع الأحوال هناك مكسب تناله جميع الأطراف المتعارضة، وهو رفض العنف وتحويل الصراع مما يمكن ان يكون صراعاً دامياً إلى صراع التنافس حول التأثير لكسب المقاعد والأصوات.
كما أن من القضايا التي يتحسس منها التيار الديني هو أنه يرى المشاركة في المجالس النيابية ما هي الا تعبير عن الرضوخ لتقبل (المنكر)؛ لما تحمله أطراف المعارضة من برامج علمانية. مع أنه يمكن الإجابة على هذه الحساسية بأن تلك المشاركة ليست بأعظم من تقبل الفرد المسلم للمنكر عندما يصعب تغييره فيعمل بأضعف الايمان، وهو الرفض القلبي، تبعاً للحديث النبوي: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان». فالجلوس على طاولة المجالس النيابية فيه حفظ لحياة الجماعة لا الفرد وحده، وان الخسارة المعنوية التي تطال الجميع يستعاض بها في القدرة على تغيير الأوساط الاجتماعية، وذلك لأن الخيار الديمقراطي مشروط بحماية الحريات العامة، ومنها الحرية الدينية والثقافية والاعلامية والسياسية.
تبقى الإشكالات التي توردها الحركات الدينية على التعددية السياسية كثيرة، أهمها أنها مناقضة لأصول الإسلام، فالإسلام يقر بالوحدة لا التعددية، وأنه لا يقر الا بحزب الله كجماعة دون غيره، وان الحرية في الإسلام مقيدة لا كما هو الحال في التعددية، وان المجالس النيابية وما تتضمنه من المعارضة لا تنسجم مع الفكرة الإسلامية الموحدة، وان الإسلام يعمل طبقاً للحق وليس بحسب الأكثرية، وان العمل بتعيين مدة الحكم يعد شرطاً ليس للاسلام فيه أصل، وان الإسلام يدعو إلى بيعة أهل الحل والعقد بعد التعيين، وعلى الأقل بين المؤمنين كافة، في حين ان الإنتخاب يكون من قبل الناس جميعاً دون تمايز... الخ.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك؛ ما كان يجمع عليه الفقهاء من عدم شرعية التعددية في الدولة الإسلامية، وتقييد المنصب الرئاسي بالشرط القرشي تارة وبالعصمة تارة أخرى. لكن الملاحظ بأن هذه الشروط والقيود أخذت تتراجع ولم يعد لها ذلك الصيت والأثر لعدم امكانية تحقيق بعضها، وصعوبة تحقيق البعض الآخر.
وتذكرنا الإشكالات السابقة بما كان يُطرح من إشكالات على التعددية العقائدية، تبعاً لمقولة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال، حيث ان الحق المختلف فيه واحد. لذا تعني التعددية المعرفية بأن جميع الفرق المختلفة باستثناء واحدة منها هي فرق ضالة إن لم تكن كافرة، وبالتالي فإن الإسلام لا يقر الا بواحدة، هي فرقة حزب الله، أو الجماعة التي تدعيها كل فرقة لنفسها[43]، وكذا ان الحرية الفكرية في المجال العقائدي غير مقبولة، وكثيراً ما يمنعها العلماء بأساليب مختلفة، كاسلوب الفتوى التي تأمر بحرق كتب أهل الضلال... الخ.
ومثلما أن الإشكالات في المجال العقائدي تفترض وجود عقائد ثابتة يمكن تحصيلها دون التباس، فكذا أن الإشكالات في المجال السياسي تفترض وجود برنامج ديني مثالي ناجح للتطبيق، وهو أصل الخلاف، إذ لا يوجد برنامج موحد يتفق عليه جميع أصحاب الحركات الإسلامية، فكل برنامج يقتضي الممارسة الإجتهادية مع النص، كالذي يجري في المجال العقائدي، يضاف إلى أنه حتى مع سلامة الإجتهاد وفق متطلباته الدينية، فذلك لا يفي بحل المشكل السياسي؛ للإلتباس الحاصل في الواقع المتغير، إذ لهذا الأخير أثره البالغ في نجاح المشروع السياسي أو فشله. وبالتالي فإننا نتعامل مع أطياف مختلفة، سواء في الحالة الدينية أو العلمانية.
ومن حيث التقارب في مواقف الفكر الديني إزاء القضايا العقدية والسياسية، يلاحظ ان الفرق الدينية كان لها طابعها الإجتهادي، رغم أنها تتنكر - في الغالب - لهذا الإجتهاد ولا تعترف به[44]. وهي وإن كانت تعددية من حيث الواقع الا أنها أحادية التصور؛ لا تجيز التعدد ولا تقبل للآخر الإختلاف، وبعضها يتهم البعض الآخر بالضلال والكفر، مع أنها ليست تعددية من حيث الواقع فحسب، بل متداخلة فيما بينها، سواء على صعيد المضمون الفكري، أو على نحو المنهج والطريقة[45].
كذلك فإن الحركات السياسية الدينية وإن كانت حركات إجتهادية وتعددية يتداخل بعضها مع البعض الآخر، الا أنها تتنكر لطابعها الإجتهادي وتنظر للأمور بعين واحدة دون أن تعترف بتعدديتها وتداخلها، سيما تلك التي تقسّمها الاعتبارات المذهبية. وهو الأمر الذي شهدناه في الفكر الديني على المستوى العقدي كالذي اشرنا اليه قبل قليل. ناهيك عن أنها تقتبس - أحياناً - الفكر الآخر عند الحاجة وتصبغ عليه ما تراه مناسباً من مرجعيتها الدينية، ومن ذلك قضية الديمقراطية التي قد تعني عندها مفهوم الشورى دون اختلاف.
هكذا ينبغي ان لا نربط مصير الدين بالقضية السياسية أو غيرها من النُظم الاجتماعية بقدر ربطه بالغاية التي استهدفها الدين ذاته. وبعبارة أخرى ان العبرة بالغايات لا الوسائل والآليات، الأمر الذي يجعل التصدي إلى جوانب التربية والفكر والتثقيف من الأولويات للعقل المسلم، أما التصدي للمسألة السياسية فهي من الأمور التابعة لتلك الجوانب، والعمل معها ينبغي ان يتخذ الكثير من الحيطة للخطورة التي تترتب عليها، سواء من الناحية الدينية أو الواقع الاجتماعي.
***
يبقى أن نشير إلى الشبهة التي تقول بأن الاعتماد على المقاصد لتأسيس الأحكام يعني الاعتماد على كليات مبهمة؛ فكيف يمكن تنزيلها إلى الواقع، فالعدالة مثلاً هي من المفاهيم الكلية، ويمكن أن يدعيها الشارد والوارد، والموافق والمخالف؟
كذلك ما هي ضمانات العمل بتغيير الأحكام وفقاً للشريعة الإسلامية، ومن له الحق بفعل ذلك؟
والجواب على الشبهة الأولى هو أن المقاصد وإن كانت كليات عامة عاجزة عن التطبيق بحسب ذاتها، الا أن ذلك لا يمنع من التعامل مع مصاديقها، مع لحاظ أن هذه المصاديق تارة تدخل ضمن دائرة الأمور الواضحة، بحيث لا يختلف حولها الوجدان العقلي بما هو وجدان نوعي، وأخرى ضمن المتشابهات، وبالتالي تخضع للنقاش والأخذ والرد. ومن الناحية المبدئية إن الإعتماد على دائرة الواضحات يكفي لتبرير العمل بتلك الكليات، فهذه الدائرة هي من جملة ما أنعم الله علينا الإستناد اليها وتمييزها عن غيرها، وهي تغطي جزءاً كبيراً مما نحتاج اليه في حياتنا.
أما ضمانات العمل بتغيير الأحكام وفق الشريعة الإلهية، فهي تعتمد على أمرين: نظري وتقني، فمن الناحية النظرية ان الضامن في ذلك هو الاستظلال بالمقاصد ذاتها، أما الأمر التقني في كيفية الاستظلال بالمقاصد فأقرب الصور التي تحقق ذلك هو العمل وفق الإجتهاد الجماعي المشترك بحسب الشروط والضوابط.
تقسيمات أخرى للمقاصد
مثلما سبق أن قسمنا المقاصد إلى نوعين يؤطران سلوك التكليف الإنساني، هما مقاصد حق الطاعة والمصلحة، فمن الممكن كذلك اجراء تقسيمات أخرى عليها، فتقسم مثلاً إلى مقاصد وسيلية واخرى غائية وثالثة شرطية ضرورية، مع الأخذ بنظر الاعتبار ما يكون بينها من حدود نسبية. فالاولى تعد من جانب غاية لبعض الأحكام، لكنها تعتبر من جانب آخر وسيلة لغاية أخرى، وهذه الاخيرة قد تكون بدورها شرطاً ضرورياً لتحقق غرض ثالث يتمثل بما سبق ان اطلقنا عليه المقاصد الغائية التي هي غاية التشريع قاطبة. فالقصد من أحكام الحدود - مثلاً - هو الردع، وهذا الغرض ليس في حد ذاته مقصداً غائياً، بل وسيلة لتحقيق مقصد آخر يشكل الغاية من الحدود، وهو حماية المجتمع وسلامته. لكن هذا الأخير بدوره يعتبر شرطاً ضرورياً لغاية أخرى بدونه يختل تحقيقها، وهي المسماة المقاصد الغائية.
ومن التقسيمات الأخرى للمقاصد هو أنها إما أن تكون خاصة أو عامة. فالأُولى تختص بعدد محدود من الابواب والأحكام بخلاف الثانية التي تتشعب لتطل على عدد كبير منها، كالعدل الذي هو من المقاصد الحقوقية. لذلك تندرج المقاصد الخاصة ضمن مقاصد الوسيلة لتحقيق الأغراض العامة. فمثلاً ان القصد من وجوب الضعفية في شهادة المرأة مقارنة بالرجل هو التثبت من الشهادة، وهو مقصد خاص غرضه تحقيق المقصد العام المتمثل بالحكم بالعدل.
[1] الجويني: البرهان في اصول الفقه، حققه وقدم له ووضع فهارسه عبد العظيم الديب، مطابع الدوحة الحديثة، الطبعة الاولى، 1399هـ، ج2، ص923 وما بعدها.
[2] المستصفى، ج1 ص287.
[3] الإحكام، ج3، ص240.
[4] الموافقات، ج1، ص83، وج2، ص16.
[5] ارشاد الفحول، ص216. وبدائع السلك في طبائع الملك، ج1، ص194-195. والقرافي: الذخيرة، المقدمة الثانية، الفصل الثالث، ضمن عنوان (في الدال على العلة)، شبكة المشكاة الالكترونية، لم تذكر ارقام صفحاته.
[6] يوسف حامد العالم: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، اميريكا، الطبعة الاولى، 1412هـ ـ 1991م، ص161.
[7] تاريخ المذاهب الإسلامية، ص309.
[8] محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، الاردن، الطبعة الثانية، 1421هـ ـ 2001م، ص305.
[9] الفخر الرازي: المحصول في اصول الفقه، تحقيق طه جابر فياض العلواني، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1412هـ، المعجم الفقهي الالكتروني، ج5، ص160.
[10] انظر المصادر السابقة فيما ذكرناه في مطلع الكتاب.
[11] تاريخ المذاهب الإسلامية، ص309.
[12] تاريخ المذاهب الإسلامية، ص308 و312.
[13] تاريخ المذاهب الإسلامية، ص309.
[14] عبد الوهاب خلاف: علم اصول الفقه، دار القلم، الكويت، الطبعة الاولى، 1397هـ ـ1977م، ص200-201. كذلك: المستصفى، ج1، ص287.
[15] الموافقات، ج2، ص17-18. وعلم اصول الفقه، ص203.
[16] الموافقات، ج2، ص11-12. وعلم اصول الفقه، ص202-204. ومصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص57-59.
[17] علم اصول الفقه، ص204-205.
[18] الموافقات، ج2، ص16-17.
[19] حاشية الموافقات، ج2، ص9.
[20] لهذا نرى المحقق القمي من الإمامية يعتبر المقاصد الخمسة للضرورات هي من أحكام العقل الخالية من المفسدة لذلك صانها الشارع الإسلامي (عن: الأصول العامة للفقه المقارن، ص403 ).
[21] الموافقات، ج2، ص315.
[22] نهج البلاغة، شرح محمد عبده، دار المعرفة، بيروت، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج3، ص45.
[23] حاشية الموافقات، ج2، ص10.
[24] الموافقات، ج2، ص299.
[25] انظر: الموافقات، ج2، ص318-319. كذلك: ابن الحسين المكي: تهذيب الفروق، وهو مطبوع في هامش كتاب الفروق للقرافي، نشر عالم الكتب، بيروت، ج1، ص157. وعلم اصول الفقه، ص210 وما بعدها. ومحمد جواد مغنية: حق الله وحق العبد، رسالة الإسلام، نشر الاستانة الرضوية، مشهد، 1411هـ ـ1991م، ج8، ص353-355.
[26] الموافقات، ج2، ص377-378.
[27] المصدر، ج2، ص315.
[28] تهذيب الفروق، ج1، ص157
[29] السيوطي: الاشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، دار احياء الكتب العربية، ص175.
[30] الموافقات، ج2، ص305-306. والفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج1، ص163-165، وج2، ص960 وما بعدها. ونضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية، ص74 و115 وما بعدها.
[31] حق الله وحق العبد، مصدر سابق، ص354
[32] يؤيد هذا المعنى جملة مما روي عن النبي (ص)، منها قوله: (هل أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: اصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) (ابو عيسى الترمذي: سنن الترمذي، المعجم الفقهي الالكتروني، ج4، ص73).
[33] ربط بعض المفكرين الغربيين بين الشرك وبين التخلف الذي ساد زمناً طويلاً دون استغلال الطبيعة علمياً؛ مما جعل طريقة القضاء على الشرك منطقية بهذا الاعتبار. فقد قال المؤرخ ارنولد توينبي بأن طاقات الطبيعة رغم أنها كانت موجودة دائماً على سطح الأرض، الا أنه لم يتم تسخيرها الا في الفترة الأخيرة. وهو يعد عقيدة الشرك - التي سادت زمناً طويلاً - عقبة كبرى وقفت أمام تسخير هذه الطاقات وحولتها إلى آلهة، حيث كان المشركون يقدسونها ويعبدونها بدلاً من تسخيرها. أما عقيدة التوحيد فهي التي جعلت الإنسان ينظر إلى الطاقات المذكورة بأنها مخلوقات مثله ومن ثم بدأ يفكر في تسخيرها (عن: وحيد الدين خان: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، ضمن القسم الثامن من كتاب: وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية والشبهات التي تثار حول تطبيقها، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1404هـ ـ1984م، ص301).
[34] الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، بيروت، ج1، ص17. ومن الجدير بالذكر ان هذا النص وما على شاكلته يُنسب إلى ملك الفرس الساسانيين اردشير خلال القرن الثالث بعد الميلاد، وقد اعتبر أحد المفكرين أنه رغم ما رددته أدبيات الفكر الإسلامي لهذا النص فإن الفكرة المنتزعة عنه فُهمت خلاف ما أراده لها واضع النص (اردشير). وعلى العموم يعتقد هذا المفكر بانه ليس لفكرة ذلك النص وما على شاكلته أصل ديني، بل مردها إلى اردشير الفارسي(محمد عابد الجابري: العقل الأخلاقي العربي، ضمن سلسلة نقد العقل العربي، ج٤، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الاولى، 2001م، ص155). مع ان العلاقة التي تربط الملك بالدين هي علاقة مبررة عقلياً، وذلك سواء فهمنا الدين بمعناه التعبدي كما هو سائد، أو فهمناه بالمعنى المقصدي كما ندعو اليه، وقد كانت السيرة منذ عهد النبي والخلفاء الراشدين قائمة على أحد هذين الفهمين، وتبعاً للفهم التعبدي فإن تلك السيرة قد جرت بحسب المعنى الذي يبدو من نص اردشير.
[35] مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص158. ويقترب من هذا الموقف ما ذهب اليه السيد محمد حسين الطباطبائي، فإعتبر أنه لا يوجد اطار معين ثابت للتشريع للسلطة والحكم في الإسلام مراعاة لتغير الظروف، اذا ما استثنينا بعض الاهداف العامة كمصلحة الإسلام والمسلمين، والوحدة العامة، والعقيدة التي توحدهم (الطباطبائي: مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، تعريب خالد توفيق، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الاولى، 1415هـ).
[36] مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص159.
[37] المصدر السابق، والصفحة ذاتها.
[38] انظر التفاصيل في كتابنا: مشكلة الحديث.
[39] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج28، ص146.
[40] عبد الرحمن الكواكبي: أم القرى، الاعمال الكاملة للكواكبي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، 1995م، ص293ـ295.
[41] الكواكبي: طبائع الاستبداد، المصدر السابق، ص523. كما لاحظ كتابنا: القطيعة بين المثقف والفقيه، القسم الاول.
[42] انظر مثلاً ما ترتب على ما آلت اليه حركة الاخوان المسلمين في مصر منذ اواسط الثمانينات بقبولها التعددية، وقد سبقتها حركة الإتجاه الإسلامي في تونس منذ 1981م والتي تغيّر اسمها إلى حركة النهضة سنة 1988م (لاحظ: راشد الغنوشي: الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، 1993م، ص257 وما بعدها).
[43] انظر بهذا الصدد الفصل الأول من: مدخل إلى فهم الإسلام.
[44] انظر: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، الفصل الأخير.
[45] انظر التفصيل في دراستنا: الفكر الإسلامي والفهم المقصدي والتعبدي للدين، مجلة الحياة الطيبة، العدد 15، 2004م.