-
ع
+

مراتب تشريع العقل في قبال النص

يحيى محمد

 ظهر بين العقل والنص نوعاً من التنافس، كالذي تبلور لدى موقف الدائرة العقلية من الأخير، إذ يحمل هذا الموقف تشريعاً عقلياً في قبال تشريع النص والبيان، كما هو واضح من الممارسة التي أظهرها الإتجاه العقلي في فهمه للخطاب. رغم أن هذا الفهم لم يقصد التحديد الإيجابي لنوع الحقيقة التي يكنّها الخطاب أو النص كما يفعل النظام الوجودي، بل اكتفى بتحديد المعنى السلبي للفهم، بإفتراض تشابه النص وجهل حقيقته. فهو غير معني بمعرفة هذه الحقيقة الخافية، بل معني بنفي ظاهر النص عندما يكون مصادماً لتشريع العقل وأحكامه القبلية.

وبعبارة أخرى، رغم ما يبديه الإتجاه العقلي من تحديد ايجابي لفهم الخطاب، إلا أنه لا يقطع بذلك ولا يقصده. فغايته تحديد الفهم من الناحية السلبية، بفهم النص على أي نحو كان، شرط أن لا يصادم ما يشرعه العقل القبلي من أحكام مختلفة، وعلى رأسها الأحكام المعيارية. فقد نصّ الهمداني على هذا المعنى، عبر ما قرره من وجود وجوه عديدة تبرر المتشابهات في القرآن دون أن يحصر ذلك في وجه محدد[1].

كما نقل الهمداني في (فرق وطبقات المعتزلة) بأن الخياط سأل جعفر بن بشر المعتزلي عن معنى قوله تعالى: ((يظل من يشاء ويهدي من يشاء))، وعن (الختم والطبع)، فقال في جوابه: «أنا مبادر إلى حاجة، ولكني أُلقي إليك جملة تعمل عليها، إعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها، ولا أن ينهى عن قاذورة ثم يدخل فيها، وتأول الآيات بعد هذا كيف شئت»[2].

فالعبارة الأخيرة «وتأول الآيات بعد هذا كيف شئت» تعني ولا شك بأن فهم النص عند الإتجاه العقلي لا يبتغي إثبات ما يريده الخطاب من معنى، بل يكتفي بنفي ما يعارض العقل القبلي من تشريع وأحكام. وهذا ما جعل البعض يتصور بأن الطريقة العقلية تتفق مع ما يريده السلف، وأن الخلاف بينهما لفظي، فكلاهما لا يريد أن ينساق لتحديد المعنى، بل يكفي لديهما نفي الظاهر من النص. وكما قال العلامة البناني في حاشيته على (شرح المحلي على جمع الجوامع) وهو بصدد قضية تأويل الآيات والأحاديث: «الظاهر أن السلف لا يخالفون في إحتمال تلك الآيات والأحاديث لتلك المعاني التي حملها عليها الخلف - أصحاب الدائرة العقلية -، فهي عند الفريقين محتملة لتلك المعاني. غير أن السلف تركوا حملها عليها احتياطاً والخلف ارتكبوا الحمل عليها على سبيل الإحتمال لا القطع»[3]. ونفس الشيء فيما جاء عن الكوثري في تعليقه على (تبيين كذب المفتري) لإبن عساكر[4].

لكن هذا الحال يصدق على جماعة من السلف، فهم منقسمون إلى عدة طوائف كما عرفنا، ومنهم من كان يذهب إلى نفس المعنى الذي قرّبه إبن تيمية، ويشهد على ذلك بأن الأشعري بالرغم من إتجاهه العقلي إلا أنه كان يدعو إلى نفس ما دعا إليه إبن تيمية فيما بعد، وذلك بخصوص الموقف من الصفات الإلهية كما وردت في النص الديني من القرآن والحديث.

وهنا يطرح إشكال، وهو أن الدائرة العقلية تنكر أن تكون تشريعاتها القبلية مصادمة لأحكام النص وتشريعاته، ومن ثم فليست هناك منافسة بين التشريعين العقلي والنصي، فالتشريع الأول لم يأتِ في قبال الثاني، وذلك لأن النص ليس دائرة من دوائر الفهم والتفكير، بل هو (موضوع) تتناوله الدوائر المعرفية بالفهم والتحديد، بما فيها الدائرة العقلية. وبالتالي لا يمكن أن يكون النص مطرحاً للتنافس والندية والصدام طالما أنه موضع للفهم فحسب، فالمسلمات المعتمدة لدى الدائرة العقلية في تشريعاتها القبلية جاءت في قبال الفهم الخاص الذي تمارسه بعض الدوائر المعرفية، كالدائرة البيانية المعتمدة على الظهور العرفي واللغوي دون مراعاة لأحكام العقل القبلية. مما يعني أن الصدام حاصل مع الدائرة البيانية وليس مع النص كنص.

مع هذا فالمنافسة التشريعية التي نقصدها بين العقل والنص تأتي بأربع مراتب مختلفة، وجميعها يصدق عليها شيء من المنافسة، وبعضها لا يتضمن الضدية والمنافاة بالضرورة. كما أنها لا تتنافى مع كون النص موضعاً للفهم، إذ أن ذلك لا يلغي أثر النص على هذا الأخير، حاله حال القبليات. فالفهم هو نتاج كل من القبليات والنص، وبحسب بعض قوانين الفهم؛ أنه كلما كان تأثير القبليات قوياً كلما ضعف تأثير النص، والعكس بالعكس[5].

فما يجعل المنافسة قائمة هو التأثير القوي للقبليات على الفهم. وبالتالي فهناك أربع مراتب للمنافسة، أدناها أن العقل يشرّع أحكامه القبلية فيصادف مصادقة ما يشرعه النص. والمنافسة هنا في التشريع لا الأحكام، فكلاهما له تشريعه وإن صادف المصادقة بينهما.

وأعلى من السابقة رتبة أن العقل يشرّع أحكامه فيما أن النص ساكت لم يرد فيه تشريع قط. وتبدو المنافسة – هنا - ليس بين التشريعين، إذ لم يظهر للنص تشريع، ومع ذلك فالمنافسة باقية بإعتبار أن ما شرعه العقل لم يأخذ بإعتبار ما نصّ عليه النص، وبالتالي فالمنافسة ضمنية.

وأكثر من ذلك درجة أن العقل يشرّع أحكاماً تخالف ما يبديه النص من ظواهر. وتبدو المنافسة هنا واضحة في التشريع، وإن لم تكن المنافاة بينهما قطعية. وبالتالي لا تنطوي هذه الحالة بالضرورة على الضدية والمنافاة بين أحكام التشريعين.

يبقى أعظمها درجة، وهي أن العقل يشرّع أحكاماً نعلم يقيناً بأنها جاءت مخالفة لأحكام النص.

هكذا يتضح بأن المنافسة بين العقل والنص، تارة تعبّر عن منافسة التشريع فحسب دون الأحكام، وثانية تعبّر عن أكثر من ذلك، وهي منافسة التشريع والأحكام معاً. كما أن هذه المنافسة تارة تعبّر عن المنافاة والضدية بين الأحكام للطرفين، سواء على نحو قطعي أو ظني، وأخرى تعبّر عن المصادقة وعدم المنافاة، فضلاً عن أنها في حالات معينة لا يبدو منها التعبير عن المصادقة ولا المنافاة.

 



[1]  انظر شرح الأصول الخمسة للهمداني.

[2]  عبد الجبار الهمداني: فرق وطبقات المعتزلة، دار المطبوعات الجامعية، 1972م، ص81.

[3]  حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع للسبكي، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج1، ص418. كذلك: إبن تيمية ليس سلفياً، ص9ـ10.

[4]  رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري، حاشية، ص120.

[5]  انظر التفصيل ضمن القانون الأول من قوانين الفهم لدى القسم الثالث من كتابنا: منطق فهم النص.

comments powered by Disqus