يحيى محمد
للأشاعرة نظام عقلي ينافس نظام الإعتزال، كما يشهد على ذلك آخر المحاورات التي جرت بين الأشعري واستاذه أبي علي الجبائي والتي كانت سبباً في الانفصال بينهما ومن ثم الإعلان عن التشريع العقلي الجديد. وقبل ذلك جرى العديد من الحوارات بين التلميذ واستاذه، وجميعها يبدي ذلك التناقض الذي أصاب العقل المعياري.
فمن ذلك سأل الأشعري استاذه الجبائي عما إذا كانت تسمية الله تعالى (عاقلاً) جائزة أم لا؟
فأجاب الأخير بأن ذلك غير جائز، معللاً الأمر بأن العقل مشتق من العقال، وهو المانع، والمنع في حق الله محال، فامتنع الإطلاق.
لكن الأشعري أجابه بالقول: على قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيماً، لأن هذا الإسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج.. فإذا كان اللفظ مشتقاً من المنع، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق الحكيم عليه.
فقال الجبائي: فلِمَ منعت انتَ أن يسمى الله سبحانه عاقلاً، وأجزت أن يسمى حكيماً؟
أجابه الأشعري: أن طريقي في مآخذ الأسماء هو الإذن الشرعي دون القياس اللغوي، فأطلقت حكيماً لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلاً لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته[1].
لكن محاورة الأشعري الأخيرة هي أهم المحاورات التي جرت بينه وبين الجبائي. فقد سأل الشيخ الأشعري استاذه الجبائي قائلاً: أيها الشيخ ما قولك في ثلاثة، مؤمن وكافر وصبي؟
فأجاب الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة.
فقال الأشعري: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟
أجاب الجبائي: لا، يقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها. فقال الأشعري: فإن قال: التقصير ليس مني فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن.
أجاب الجبائي: يقول له الله: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت ولعوقبت فراعيت مصلحتك وأمتك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.
فرد الشيخ: فلو قال الكافر: يا رب، علمتَ حاله كما علمت حالي، فهلا راعيت مصلحتي مثله؟!
فانقطع الجبائي[2]...
وعلى هذه الشاكلة وردت محاورة قصيرة أخرى تبرز الصراع في النظام التشريعي للعقل لدى كل من الأشاعرة والمعتزلة. فقد صادف أن تقابل القاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي مع أبي اسحاق الاسفراييني الأشعري، فقال الأول للغمز بالثاني: «سبحان الذي تنزّه عن الفحشاء»، فردّ عليه الأخير: «سبحان الذي لا يجري في ملكه إلا ما يشاء»[3].
بل شبيه بهذه المحاورة جاء ذكرها قبل ولادة الأشاعرة بزمن طويل. فقد روي أنه حدث بين غيلان الدمشقي وهو من القدرية، وبين خصمه ربيعة، إذ قال لربيعة: «أأنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى؟»، فأجابه ربيعة: «أأنت الذي تزعم أن الله يعصى قسراً؟»[4].
وتستمد طاقة هذا الصراع من الإختلاف الحاصل في دينامو التفكير، والمتمثل بالاصل المولّد كتأسيس قبلي للنظر. وبه يتأسس غالب الصراع والتنافس الحاصل حول فهم الخطاب الديني.
لكن كما لاحظنا بأن الأشاعرة، كما في مذهب الأشعري، منقسمة على ذاتها بين البيان والعقل، فهي بيانية من حيث معالجتها المعيارية للمشكل الوجودي المتمثل بالصفات الإلهية، لكنها عقلية من حيث تبنيها لنوع العلاقة الرابطة بين المكلِّف والمكلَّف. وعليه يتميز الأصل المولّد لديها بالتحليل الخاص لتلك العلاقة، فالصراع العقلي بينها وبين منافسها الآخر ضمن الدائرة العقلية يخضع إلى هذا الإعتبار مما يحملانه من أصل مولّد وظيفته تشكيل الرؤية والإنتاج المعرفي المنظم ومن ثم فهم النص أو الخطاب.
ورغم أن دينامو التفكير لكلا هذين الإتجاهين العقليين يعبّر عن معيار واحد فحسب هو ما نطلق عليه فكرة (الحق)، لكن تحديدهما لهذا (الحق) مختلف كلياً. ففي حين يعتبر أحدهما هذا (الحق) كياناً معيارياً غير مشروط بشروط خارجة عن ذاته، يرى الآخر أن هذا (الحق) مشروط بهذه الشروط. ويمكن أن نعبّر عن الأصل المولّد للتحديد الأول بمنطق (الحق الذاتي)، وهو ما يحتمي به كل من المعتزلة والإمامية والزيدية ومن على شاكلتها، كأساس لتوليد النظر القبلي والإنتاج المعرفي المنظّم ومن بعده فهم النص أو الخطاب. أما الإتجاه الآخر فحيث أنه لا يعترف بمنطق (الحق) كشيء في ذاته، بل يراه مشروطاً ببعض الشروط المعيارية المتمثلة بنوع الملكية الحقيقية؛ إن كانت فردية أو مشتركة مشاعية، لذا نطلق عليه منطق (حق الملكية) أو الحق المشروط بالملكية. وهو المنطق الذي تبناه الأشاعرة، وقام الشيخ الأشعري بتبريره عقلياً، كما في قوله: «..الدليل على أن كل ما فعله - الله - فله فعله: أنه المالك القاهر الذي ليس بمملوك ولا فوقه مبيح ولا أمر ولا زاجر ولا حاظر... فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيء، إذ كان الشيء إنما يقبح منّا لأنا تجوزنا ما حدّ ورسم لنا وآتينا ما لم نملك باتيانه، فلما لم يكن الباري مملوكاً ولا تحت أمر لم يقبح منه شيء. فإن قال: فإنما يقبح الكذب لأنه قبحه، قيل له: أجل ولو حسّنه لكان حسناً، ولو أمر به لم يكن عليه إعتراض»[5].
فواضح من هذا النص أن التفكير العقلي لدى الأشاعرة قائم على تحديدها لطبيعة (الحق) وفقاً للملكية، وهو ما جعلنا نعتبر أصلها المولّد يتمثل بـ (الحق المشروط بالملكية) خلافاً لمنطق (الحق الذاتي) كما يتبناه خصومها التقليديون من المعتزلة وغيرها. لكن إستناداً إلى هذين الأصلين من التوليد المعرفي تتجلى مظاهر الإنتاج المعرفي ومن ثم يتجلى الصراع بين الإتجاهين على صعيد كل من الإنتاج المعرفي وفهم النص أو الخطاب.
[1] طبقات الشافعية الكبرى، ج3، ص357ـ358.
[2] طبقات الشافعية الكبرى، ج3، ص356. علماً بأن نفس مضمون هذه المحاورة ورد على لسان كل من الغزالي والشهرستاني، فقد قال الغزالي وهو ينقد المعتزلة: «إنا نريهم من أفعال الله تعالى ما يلزمهم الإعتراف به بأنه لا صلاح للعبيد فيه، فإنا نفرض ثلاثة اطفال مات أحدهم وهو مسلم في الصبا، وبلغ آخر وأسلم ومات مسلماً بالغاً، وبلغ الثالث كافراً ومات على الكفر، فإن العدل عندهم أن يخلد الكافر البالغ في النار، وأن يكون للبالغ المسلم في الجنة رتبة فوق رتبة الصبي المسلم، فإذا قال الصبي المسلم، يا رب لم حططت رتبتي عن رتبته؟ فيقول: لأنه بلغ فأطاعني وأنت لم تطعني بالعبادات بعد البلوغ، فيقول: يا رب لأنك أمتني قبل البلوغ فكان صلاحي في أن تمدني بالحياة حتى أبلغ فأطيع فانال رتبته فلِمَ حرمتني هذه الرتبة أبد الآبدين وكنت قادراً على أن توصلني؟ فلا يكون له جواب إلا أن يقول: علمت أنك لو بلغت لعصيت وما أطعت وتعرضت لعقابي وسخطي فرأيت هذه الرتبة النازلة أولى بك وأصلح لك من العقوبة. فينادي الكافر البالغ من الهاوية ويقول: يا رب أوَ علمتَ أني إذا بلغتُ كفرتُ فلو أمتني في الصبا وأنزلتني في تلك المنزلة النازلة لكان أحب اليّ من تخليد النار وأصلح لي، فلِمَ أحييتني وكان الموت خيراً لي؟ فلا يبقى له جواب البتة..» (الإقتصاد للغزالي، ص181ـ182. وشبيه به ما ذكره الشهرستاني في كتابه: نهاية الاقدام في علم الكلام، مكتبة المثنى في بغداد، ص409ـ410. كذلك: مرهم العلل المعضلة، ص128).
[3] الخوانساري: روضات الجنات، تحقيق اسد الله إسماعيليان، مكتبة إسماعيليان في قم، ج5، ص17.
[4] نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص341.
[5] اللمع للأشعري، ص117ـ118. كذلك: الباقلاني: التمهيد، تصحيح الأب رتشرد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية في بيروت، 1957م، ص341.