يحيى محمد
سواء اخذنا بنظرية التمثيل او بنظرية المشاكلة، فلا فرق في انهما منبعثان معاً عن نفس الشائبة التقليدية من منطق التوليد الوجودي. فبالرغم من الاختلاف البيّن بينهما، وافتراق احداهما عن الاخرى في المسلك والاتجاه، الا ان من الممكن ادراك الجامع المشترك الذي يجمعهما، فهما يشتركان معاً في نفس المرجعية المعول عليها في الفهم والتفسير والتوليد، وهي مرجعية منطق التوليد الوجودي المتمثل بالسنخية.
وكمقارنة بين النظريتين، نلاحظ ان نظرية التمثيل تعد العينة الدينية ظلاً للرؤية الفلسفية وحكاية لها، وذلك من حيث ان الاولى تعبر عن هذه الاخيرة بالمثالات والرموز المجازية. اما نظرية المشاكلة فهي وان كانت تقر مثل هذه السنخية الا انها تأخذ الامور على حقيقتها من دون مجاز، اذ تعد العينة الدينية والوجود الخارجي العيني كلاهما من سنخ الوجود العقلي تبعاً للقبلية الوجودية، وبذلك تصبح الحقيقة الدينية مفضية الى نفس الدلالة التي تكنها الحكمة العقلية بلا تعارض ولا تضاد. وبالتالي فان هناك ثلاثة كتب بعضها من سنخ البعض الاخر، فهناك كتاب تدويني وآخر تكويني وثالث عقلي. واستناداً لهذه الكتب المعتبرة يمكن ان نميز بين الاتجاهين الانفي الذكر. فنظرية التمثيل لا تختلف عن نظرية المشاكلة في جعل الكتاب التكويني على سنخ الكتاب العقلي، لكنها بالنسبة الى الكتاب التدويني فرغم انها تعده محاكياً للكتاب العقلي في الشبه والظلية، الا انها لا تقر له بحمل الحقائق، وانما تعده مصدر التشبيهات والرموز المجازية الدالة على حقائق غيرها. في حين ان نظرية المشاكلة تجعل من تلك الكتب حقائق بعضها مستنسخ من البعض الاخر. وعليه فبحسب هذه النظرية يزول الحاجز الذي وضعه الاتجاه الاول امام مفرزات الموضوعة الدينية، اذ اصبح كل من العينتين الدينية والوجودية ذا دلالة على واقع الامر كما هو. لذا فكل ما تقوله العينة الدينية يعد عين الحقيقة من غير منافات مع الحقائق الاخرى التي تشاكلها وتتطابق معها تبعاً لمنطق السنخية.
فمثلاً ان الفلاسفة كانوا مضطرين لتأويل الصفات الالهية التشبيهية كصفتي السمع والبصر، مثلما جاء في قوله تعالى: {إن الله سميع بصير} الحج/61، اذ عدوا ذلك مما يعود الى العلم الصوري تبعاً لنظرية التمثيل. فابن سينا مثلاً فسّر سمعه وبصره بانه عالم بالمسموعات وعالم بالمبصرات، وكونه خبيراً انه عالم ببواطن الاشياء، وكونه شهيداً انه عالم بظواهر الاشياء، وكونه محصياً انه عالم بالمعدودات، وكونه لطيفاً انه عالم بدقائق الاشياء، وفي جميع الاحوال يظل علمه واحداً لا يتعدد وإن اختلفت اسماؤه[i]. وقد رأى ابن رشد ان علة تأويل الفلاسفة للسمع والبصر الى العلم؛ هي كي لا يلزم عن وصفه بهما ان يكون ذا نفس، واعتبر ان الله وصف نفسه بهما تنبيهاً على انه تعالى لا يفوته نوع من انواع العلوم والمعارف[ii]. في حين انه بحسب نظرية المشاكلة فان تلك الصفات تؤخذ على معانيها الحقيقية، ومن ذلك ان صدر المتألهين خالف من سبقه من الفلاسفة المشائين ومن على شاكلتهم، كالفارابيين والطوسي وابن رشد وغيرهم، اذ اعتبر ان لله سمعاً وبصراً هما غير العلم، حيث انهما عبارة عن شهود المسموعات والمبصرات، فهذا الشهود هو السمع والبصر. ولا شك ان هذا الرأي يتوسط بين اولئك الذين اولوا صفتي السمع والبصر الى العلم كالذي عليه المشاؤون، وبين اولئك الذين عكسوا القضية فأولوا العلم الى البصر كما هو الحال مع السهروردي، ذلك ان صدر المتألهين يثبت الامرين معاً[iii]، الامر الذي يتفق مع نظرية المشاكلة.
وعليه انه اذا كان من مقتضيات نظرية التمثيل رفض ظاهر النص والاخذ بالباطن من خلال التأويل؛ فان الامر مع نظرية المشاكلة مختلف، اذ لا يوجد فصل بين الظاهر والباطن، فالمثال عندها عين الممثول ظاهراً وباطناً. في حين بحسب النظرية الاولى فان المثال غير الممثول ظاهراً وباطناً على حد سواء.
كذلك انه اذا كانت نظرية التمثيل تعد العينة الدينية اقناعية خطابية جاءت لتراعي مدارك الجمهور واذهان الناس الضعيفة، فان الامر مع نظرية المشاكلة يختلف، حيث لا يوجد مجاز ولا خداع ولا تضليل كالذي تفضي اليه النظرية الاولى، خاصة انها بحسب رؤية صدر المتألهين تبعث على تضليل الاتقياء والصالحين وترميهم في عذاب الجحيم، كما سبق ان عرفنا. الامر الذي يلزم عندها ان يكون ظاهر النص وباطنه يعبران عن حقيقة واحدة، لكن هذه الحقيقة كما يمكن ان تكون حسية طبيعية فانها تكون الهية او عقلية او مثالية غير طبيعية. واذا كان اصحاب نظرية التمثيل لا يفهمون من المعنى الظاهر غير تلك الدلالة الحسية الطبيعية، فان غيرهم من اصحاب نظرية المشاكلة يعدون هذا المعنى ينطبق ايضاً على ما هو اعمق من تلك الدلالة، اي ان هناك دلالة عقلية ومثالية والهية هي اعمق من الدلالة الحسية، وان كانت جميع الدلالات تعبر عن ظاهر النص بمعناه العام غير القابل للتحديد من حيث الاصل، اي ان الظاهر لا يكشف الا عن ذلك الذي يعبر عن روح المعنى المشترك، وهو المعنى المجمل الذي لا يتحدد بأي من تلك الدلالات. وبالتالي كان لزاماً على نظرية التمثيل ان تقوم بتأويل الظاهر باعتبارها تتوقف عند دلالته الحسية دون ان تذهب بعيداً في اصل الدلالة التي يبديها الظاهر والتي هي غير مقيدة بحس وعقل وخيال او مثال، فكل منها يمكن ان يعبر عن هذا الظاهر. أما تعيين حقيقة امر هذا الظاهر فذلك يعتمد على الباطن. فالباطن يعين الظاهر دون ان يلغيه، والفارق بينهما، بحسب نظرية المشاكلة، هو ان الظاهر رغم كونه يمثل المعنى الحقيقي للممثول، الا انه لا يعبر عنه تعبيره التام غير المنقوص، او انه لا يكشف عن هويته الوجودية، بل يظل محتفظاً بروح ماهيته العامة او الاصلية، ويبقى ان تعيين طبيعة هذا الظاهر والكشف عن هويته الوجودية انما يتم بحسب ما عليه الباطن، وبالتالي كان الظاهر قنطرة للعبور الى الباطن، وكان الباطن هو الذي يعطي الحقيقة بتمامها وتفصيلها، او انه هو الذي يحدد مكانة الحقيقة من حيث الوجود، مثلما ان الظاهر يحددها بحسب الماهية. او يمكن القول ان الظاهر يحدد الحقيقة كما هي بصرف النظر عن طبيعة وجودها الخارجي، فهو بالتالي كاشف عن الحقيقة بما هي معرفية، وان الباطن يتولى الكشف عن الحقيقة بما تعبر عن وجودها الخارجي. فالحقيقة في الظاهر هي حقيقة معرفية، وهي في الباطن حقيقة وجودية انطولوجية، وان كلا الحقيقتين متطابقتان تطابق الماهية والوجود، وان الاختلاف بينهما هو اختلاف التعيين؛ كاختلاف التصور والتصديق بحسب التقسيم المنطقي، اذ حقيقة الظاهر لا تعين ما عليه الوجود الخارجي للحقيقة، وان الباطن هو الذي يعمل على تعيين هذه الحقيقة، وان العلاقة بين الظاهر والباطن تظل خاضعة تحت فعل ما يُعرف لدى العرفاء بمبدأ الاعتبار، او العبور من الظاهر الى الباطن لوجود المناسبة المشتركة بينهما، كالذي تفرضه القبلية الوجودية بحسب منطق السنخية.
ايضاً انه اذا كانت نظرية التمثيل مضطرة الى نفي صفات اليقين والبرهان والحقيقة عن العينة الدينية، طالما تعدها اقناعية غرضها مخاطبة العوام، فان نظرية المشاكلة ليست مضطرة الى هذا النفي، بل على العكس انها تجد التطابق بين مفرزات العينتين الوجودية والدينية من دون اختلاف، وهو الامر الذي اكد عليه صدر المتألهين بقوله: >حاشا الشريعة الحقة الالهية البيضاء ان تكون احكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية، وتباً لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنة<[iv]. فهما بنظر فيلسوفنا عبارة عن حقيقتين متحابتين ومتراضيتين من دون تخاصم، حيث يعبران عن حقيقة واحدة. وهذه هي وجهة النظر التي جاءت على شاكلة ما سبق اليه ابن رشد في قوله بأخوة الشريعة للحكمة وصحبتهما وفق الحب بالطبع والغريزة. فكل منهما كان ينزع نحو التقرب من الحقيقتين الوجودية والدينية، وإن افضى هذا الامر الى التلفيق في الكثير من الاحيان.
[i] ابن سينا: رسالة العرشية، ضمن رسائل ابن سينا، مصدر سابق، ص251.
[ii] تهافت التهافت، ص454.
[iii] الاسفار، ج6، ص422-423.
[iv] الاسفار، ج8، ص303.