من المشاكل التي جرى الجدل حولها بين العقليين - ومنهم الفلاسفة - وخصومهم البيانيين ما يعرف بمشكلة الصفات الالهية، كالسمع والبصر والغضب والضحك والفرح والاستواء والاستهزاء والمكر والتعجب والمجيء والهرولة واليد والقدم والعين والوجه، وما الى ذلك من اوصاف مذكورة في القرآن والحديث. فاذا كان موقف الفلاسفة التقليديين من هذه الاوصاف او الصفات هو التأويل بحملها على المجاز ضمن نظريتهم المعروفة بالتمثيل، واحياناً الانكار عندما يكون النص رواية وحديثاً، فان ما قدمته الاطروحة الجديدة شيئاً يختلف عن ذلك كلياً. فهي لم تجد نفسها مضطرة الى مثل هذه الممارسات من انكار تلك الاوصاف او تأويلها، فعلى العكس رأت ان النصوص حول تلك الاوصاف تدعم ما تريد تثبيته بحسب منطق السنخية او القبلية الوجودية، وهو همزة الوصل الذي عانق فيه العرفاء والفلاسفة الجدد اصحاب الحديث والبيان. فعوالم الوجود بحسب القبلية الوجودية متطابقة، بعضها من سنخ البعض الاخر، وبالتالي فما من صفة نراها في عالمنا السفلي هذا الا وهي موجودة في العالم العلوي - وكذا الالهي - بأبهى واجمل صورة. وبعبارة اخرى ان لتلك الاوصاف مراتب وجودية بعضها له ذلك الشأن الرفيع كما هو في عالم الاله، والذي على سنخه ظهر ما نراه من صفات الخلق في عالمنا الارضي، رغم البون الشاسع بين العالمين، مما يجعل العالم الالهي لا مثيل له ولا نظير. وبالتالي فمثلما ان هذا العالم يحمل تلك الاوصاف التي هي من نفس حقيقة الاوصاف الخلقية، الا انه يظل ليس كمثله شيء، مثلما جاء في بعض الايات من وصف الذات الالهية.
هكذا فان باستطاعة الاطروحة الجديدة ان تحل مشكلة التعارض في النصوص المتعلقة بالعالم العلوي. فشتان بين قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء))، وكذا ((لا تدركه الابصار))، وبين قول الحق: ((هو الاول والاخر والظاهر والباطن))، ((الرحمن على العرش استوى))، ((وجاء ربك والملك صفاً صفاً))، ((وهو الله في السماوات وفي الارض))... الخ.
فما ابلغ هذا التعارض بين هذين الصنفين من الايات، الامر الذي حدا باصحاب السلف من المحدثين ان لا يفرطوا في شيء من تلك الايات، اذ شعروا ان المنطق يفرض عليهم ان لا يفوتوا بعض الايات لحساب البعض الاخر، وليس ذلك ممكناً الا بالعمل على الاخذ بجميع ظواهر تلك الايات المتعارضة. هكذا اوحى لهم منطق التعامل مع الايات، حتى توصلوا الى فكرة كون الحق لا يخلو من ذهاب ومجيء وعلو وارتفاع ويد واستواء وفرح وتعجب ومكر واستهزاء.. الخ، ولكن من غير مثيل ولا شبيه لصراحة قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)).
وكذا هو الحال مع اتجاه الاطروحة الجديدة للرؤية الوجودية، فوجود عوالم متناسقة ومتشاكلة في الوجود يسّرَ العمل على التفسير الحرفي للايات من دون حاجة للمجاز والتأويل، فلماذا لا يكون لله تعالى ذهاب ومجيء واستواء وعلو ويد وقدم وعين ووجه... الخ، كما ويتصف في الحال ذاته بانه ((ليس كمثل شيء))، حيث فيه نفي للمثل لا المثال، وشتان بين الامرين.
واعتماداً على هذا المنطق تمسك هذا الاتجاه بالايات التي ظاهرها التشبيه ونهى عن تأويلها، كقوله تعالى: ((هل ينظرون الا ان تأتيهم الملائكة او يأتي ربك او يأتي بعض آيات ربك))، ((فاينما تولوا فثم وجه الله، وان الله واسع عليم))، ((وكان الله بكل شيء محيطاً))، ((واحاط بما لديهم))، ((وهو الله في السماوات والارض))، ((هو الاول والاخر والظاهر والباطن))، ((كل شيء هالك الا وجهه))، ((ونحن اقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون))، ((ولله ما في السماوات وما في الارض))، ((ولله ملك السماوات والارض))، ((الا له الخلق والامر))، ((ولله المشرق والمغرب)). فقد حُملت هذه الايات على ظاهرها بلا تأويل.
اذن فقد استهدفت الاطروحة الجديدة للمبنى الفلسفي جعل الاوصاف الدينية حقة لا تحتاج الى تحريف النص وحمله على المجاز والتشبيه. فالفهم عندها قائم بحسب هذه الاوصاف الظاهرة التي يدل عليها اللفظ الحرفي مثلما هو متبع لدى اهل البيان واصحاب الظاهر. او يمكن القول ان هذه النتيجة هي على غرار تلك التي توصل اليها المحدّثون واهل السلف ومن والاهم رغم بعض جوانب الاختلاف، كما هو الحال مع الامام احمد بن حنبل وابي الحسن الاشعري وابن تيمية وابن القيم الجوزية وغيرهم. فهؤلاء جميعاً مقرّون بأن للحق تلك الاوصاف وإن كانت غير معلومة الكيف تبعاً لقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)) .
وعلى العموم، يكاد الاتجاه الجديد يصل الى نفس منطق المحدثين، كالذي صرح به صدر المتألهين من حيث انطباق القبلية الوجودية على ظواهر القرآن والحديث. فبحسب منطق السنخية يستلزم ان تكون عوالم الوجود متطابقة ومتشاكلة، وبالتالي كان من السهل فهم تفسير ما يتعلق بعالم الغيب الموصوف في النصوص الدينية تبعاً لهذا التشاكل والتسانخ، حيث ما من شيء محسوس في الطبيعة يذكره النص الديني - كالقرآن الكريم - الا ويكون اشعاراً لما موجود في الاخرة والعالم الالهي تبعاً لمشاكلات الوجود ومشابهاته. وهو الاسلوب الذي استخدمه الغزالي في (القسطاس المستقيم) وأقرّه صدر المتألهين بالاعتراف والتأييد ، فوفّق في تطبيقه بحيث يرضي ما عليه اصحاب الفلسفة والذوق، وما عليه اصحاب السلف والحديث، مما يفضي الى ان تكون النتيجة بين مذهب الفلاسفة العرفاء وبين مذهب السلف المحدثين متقاربة الى حد كبير، رغم ما بينهما من عداء وتضاد يجعل الصلح بينهما غير ممكن.
هكذا نحن امام نظرية استطاعت ان تقضي على مذهب المثال والتمثيل للفلاسفة التقليديين من أمثال الفارابي وابن سينا ونصير الدين الطوسي وغيرهم. وهي نظرية نادى لها الغزالي في عدد من كتبه، وتتصف بأنها تتطابق تماماً مع القبلية الوجودية، اذ تفيد بأن هناك عوالم متشابهة بعضها يفوق البعض الاخر من حيث الكمال، وكل ما يذكره الشرع من اشياء كالنور والميزان والعين واليد والتردد والاستهزاء وغير ذلك، فان لها حقائق متطابقة ومختلفة في الكمال. لهذا نطلق على هذه الاطروحة (نظرية المشاكلة)، وذلك لأنها تستند في اليات فهمها للنص الديني تبعاً للتصورات القبلية الخاصة في المشاكلات الوجودية او السنخية.
فمثلاً ان اطلاق النور على الحق تعالى، كما في اية النور، هو اطلاق حقيقي كما يصرح بذلك صدر المتألهين، لا بمعنى ان الحق هو هذا النور الحسي، اذ يطلق على النور المحسوس هذا اللفظ لكونه ظاهراً بذاته ومظهراً لغيره، أما خصوص كونه محسوساً ومظهراً للمبصرات فليس له دخالة في معنى لفظ (النور) باطلاق، لكونه احد مصاديق هذا اللفظ. لذلك سبق للشهرزوري في رسالته للنفس ان اعتبر نور الشمس مثالاً حقيقياً للنور الربوبي الالهي . وبالتالي فان من مصاديق (النور) هو الحق، باعتبار انه ظاهر بذاته ومظهر لغيره من الموجودات جميعاً، وهو الامر الذي يبرر ما اطلقه الاشراقيون عليه بنور الانوار، وان المجردات العقلية التالية عنه هي انوار محضة متحدة في الحقيقة ومختلفة في الشدة والضعف والكمال والنقص، حيث تتسلسل هذه الانوار وتنتهي في شدتها الى اعلى درجة، تلك التي يطلق عليها نور الانوار، وبالتالي فهي تمثل لمعان هذا النور، كما وتنتهي من حيث الضعف والنقصان الى هذا النور المحسوس المفتقر للاجسام. اذن فالنور متفاوت في الكمال والنقص، ومتدرج في الشدة والضعف، واطلاقه على الذوات النورية على سبيل التشكيك. فهو من هذه الناحية لا يختلف عن الوجود، حيث انه هو الاخر يطلق على ذات الحق، وانه ظاهر وموجود بذاته ومظهر وموجد لغيره، كما انه متفاوت في الشدة والضعف، ويتصف بصفة التشكيك على ما يراه ذلك الحكيم. ولا شك ان استخدام النور والوجود لدى الاشراقيين يكاد يكون استخداماً واحداً من غير اختلاف، وكأن احدهما مشتق من الاخر، او ان احدهما يرادف الاخر، رغم ان الوجود له معنى كوني، وان النور له معنى الذات والماهية، او انه من جنس الطبائع للاشياء.
ومن الامثلة الآخرى التي ترد بهذا الصدد لفظة الماء، اذ جاء في قوله تعالى: ((وكان عرشه على الماء))، فالماء - هنا - يعد ماء صورياً حقيقياً، ويعنى به ماء الحياة الساري في جميع الموجودات، سريان الماء او الروح في الاجسام، مثلما يمكن استظهاره في قوله تعالى: ((وجعلنا من الماء كل شيء حي))، فالماء هو كناية عن الحياة السارية في كل شيء من الممكنات الموجودة . وعند البعض ان هذا الماء هو ماء الوجود وسر الحق المعبود، باعتبار انه لا يمكن ان يكون الماء المحسوس الذي نشربه هو سبب كل شيء حي مع انه احد العناصر الاربعة المتكونة في عالم ما تحت القمر، فكيف يمكن ان يكون مصدر تكوّن حياة الموجودات وفيها من العوالي العقلية والنفسية والفلكية الحية؟ فلو اخذنا بهذا الفرض لكان ذلك يتناقض مع حقائق الوجود ومراتبه، وبالتالي لا بد ان يقصد منه معنى الوجود باعتباره اشمل عنصر يسعه ان يكون علة لتكوين حياة الموجودات بأسرها.
وكما يرى صدر المتألهين، ان القرآن مشحون بذكر الامثلة للامور التي حقايقها موجودة في علم الله، وامثالها موجودة في هذا العالم تبعاً لهذه النظرية من المشاكلة، فمن السهل ان نفهم بحسبها نصوصاً مثل قوله تعالى: ((يد الله فوق ايديهم))، وقوله ((اولئك كتب في قلوبهم الايمان))، ومثل قول النبي (ص): (قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن). وينتهي الى أن (الحق عند اهل الله هو حمل الايات والاحاديث على مفهوماتها الاصلية من غير صرف وتأويل، كما ذهب اليه محققوا الاسلام وائمة الحديث). واقرّ بأن (الاصل في منهج الراسخين في العلم هو ابقاء ظواهر الالفاظ على معانيها الاصلية من غير تصرف فيها، لكن مع تحقيق تلك المعاني وتلخيصها عن الامور الزائدة وعدم الاحتجاب عن روح المعنى بسبب غلبة احكام بعض خصوصياتها على النفس واعتيادها بحصر كل معنى على هيئة مخصوصة له، يتمثل ذلك المعنى بها للنفس في هذه النشأة، فلفظ الميزان مثلاً موضوع لما يوزن به الشيء مطلقاً. فهو امر مطلق يشمل المحسوس منه والمتخيل والمعقول، فذلك المعنى الشامل روح معناه وملاكه من ان يشترط فيه تخصيصه بهيئة مخصوصة، فكل ما يقاس به الشيء بأي خصوصية كانت، حسية او عقلية، يتحقق فيه الميزان ويصدق عليه معنى لفظه).
وبحسب صدر المتألهين فان معظم آيات القرآن هي أمثال تذكر للناس لتشير الى ما تتضمنه نظرية المشاكلة من اعتبارات ما للوصف الظاهر في النص من مراتب متعددة ومتكاملة في الوجود. وبالتأكيد ان هذا العارف يعتبر ايات الامثال تنبه وتشير الى هذا المعنى، مثل قوله تعالى: ((وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون))، وقوله: ((ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون)).
مع ما يلاحظ ان ايات ضرب الامثال قد وظفت للدلالة على كلا النظريتين: التمثيل والمشاكلة. اذ وظفتها الاولى لتدل بها على ضرورة الاخذ بالباطن وترك الظاهر كلية، باعتبار أن هذا الاخير لا يمثل عندها سوى الرمز الذي يوحي الى الحقيقة المرموز اليها، او المثال الذي يخفي حقيقة ما بباطنه. فالظاهر - اذن - عبارة عن همزة وصل تربط المثال بممثوله والرمز بمرموزه. أما نظرية المشاكلة فقد وظفت هذه الايات من حيث التعويل على ظاهر النص واقراره، لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ما لدى هذا الظاهر من لفظ له معان متعددة ومتشاكلة يصح من خلالها اقرار الحقائق العليا من غير تأويل. فيكون الظاهر هو اللفظ المشترك العام الذي يحمل نظائر المعنى وامثالها على ما فيها من تفاوت في القوة والكمال. أما الحقيقة المرادة من هذا الظاهر فهي تلك الامثال الباطنة التي تنتزع من ذلك الظاهر العام. فسواء استخدمت الامثال بحسب ما يبدو عليها من معنى حسي، او معنى اخر صوري مجرد عن الحس الطبيعي، فان كل ذلك يعد من النظائر والامثال التي تتفاوت فيما بينها بحسب المشاكلة، لذلك فان اخذ المعنى الظاهر بحسب ما عليه الحقيقة الباطنة من المعاني الصورية المجردة لا يعد من التأويل بشيء.
على انه يمكن لنظرية المشاكلة ان ترضي الفيلسوف مثلما يمكنها ان ترضي العارف، وان لها قرباً من النزعة الافلوطينية، وتستمد مبرراتها الوجودية من منطق السنخية. فبحسب هذا المولد المعرفي يتحتم ان تكون العوالم الوجودية متشابهة ومتشاكلة؛ وذلك بحمل الاشرف منها جميع المعاني الموجودة في الاخس على وجه الطف واكمل. فكل ما في العالم السفلي انما يتبع العالم العلوي على صورة المثال والظل بحسب ما يسانخه او يشاكله ويواطئه.
وبعبارة اخرى انه ما من شيء نراه ونتحسس به في عالمنا الكوني الا وله وجود اخر اليق في العالم العلوي، ومن ثم في الذات الالهية، حيث لا تخلو هذه الذات - كما يذكر صدر المتألهين - من ارض ولا سماء ولا بر ولا بحر ولا عرش ولا فرش، اذ ما من شيء في العالم الا وله في الله اصله، وما من شيء يظهر الا وله في الحضرة الالهية صورة تشاكله؛ بدونها لا يظهر اي شيء اطلاقاً، فحقيقة المعلول تنبعث من ذات العلة، فيكون كل ما في الكون عبارة عن ظل لما في العالم العقلي، وكل صورة معقولة هي على مثال ما في الحضرة الالهية. كذلك كل شيء يخلقه الله تعالى انما له نظير في الاخرة، وله نظير ايضاً في عالم الاسماء والصفات. ولا شك أن لهذه الفكرة اثر على اعتبار الوجود جسماني الهيئة، بما في ذلك الذات الالهية، اذ لا تخرج عن كونها جسماً ليست كالاجسام، حيث تفوقها درجة وكمالاً. وبالتالي فكل ما يذكره النص من الامور الشهودية والغيبية، كالشمس والقمر والليل والنهار، والعرش والكرسي واللوح، والجنة وما فيها من حور وقصور وانهار واشجار، وكذا النار وما فيها من مهل وحميم وزقوم وتصلية جحيم، فانها جميعاً غير قابلة للتأويل، بل تؤخذ على حقائقها ومعانيها، ذلك لان الله ما خلق شيئاً في عالم الصورة الا وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئاً في عالم المعنى او الاخرة الا وله حقيقة في عالم الحق، وما خلق شيئاً في العالمين الا وله مثال وانموذج في عالم الانسان .
لكن سواء اخذنا بنظرية التمثيل او بنظرية المشاكلة، فلا فرق في انهما منبعثان معاً عن نفس الشائبة التقليدية من منطق التوليد الوجودي. فبالرغم من الاختلاف البيّن بينهما، وافتراق احداهما عن الاخرى في المسلك والاتجاه، الا ان من الممكن ادراك الجامع المشترك الذي يجمعهما، فهما يشتركان معاً في نفس المرجعية المعول عليها في الفهم والتفسير والتوليد، وهي مرجعية منطق التوليد الوجودي الفلسفي المتمثل بالسنخية.
وكمقارنة بين النظريتين، نلاحظ ان نظرية التمثيل تعد العينة الدينية ظلاً للرؤية الفلسفية وحكاية لها، وذلك من حيث ان الاولى تعبر عن هذه الاخيرة بالمثالات والرموز المجازية. اما نظرية المشاكلة فهي وان كانت تقر مثل هذه السنخية الا انها تأخذ الامور على حقيقتها من دون مجاز، اذ تعد العينة الدينية والوجود الخارجي العيني كلاهما من سنخ الوجود العقلي تبعاً للقبلية الوجودية، وبذلك تصبح الحقيقة الدينية مفضية الى نفس الدلالة التي تكنها الحكمة العقلية بلا تعارض ولا تضاد. وبالتالي فان هناك ثلاثة كتب بعضها من سنخ البعض الاخر، فهناك كتاب تدويني وآخر تكويني وثالث عقلي. واستناداً لهذه الكتب المعتبرة يمكن ان نميز بين الاتجاهين الانفي الذكر. فنظرية التمثيل لا تختلف عن نظرية المشاكلة في جعل الكتاب التكويني على سنخ الكتاب العقلي، لكنها بالنسبة الى الكتاب التدويني فرغم انها تعده محاكياً للكتاب العقلي في الشبه والظلية، الا انها لا تقر له بحمل الحقائق، وانما تعده مصدر التشبيهات والرموز المجازية الدالة على حقائق غيرها. في حين ان نظرية المشاكلة تجعل من تلك الكتب حقائق بعضها مستنسخ من البعض الاخر. وعليه فبحسب هذه النظرية يزول الحاجز الذي وضعه الاتجاه الاول امام مفرزات الموضوعة الدينية، اذ اصبح كل من العينتين الدينية والوجودية ذا دلالة على واقع الامر كما هو. لذا فكل ما تقوله العينة الدينية يعد عين الحقيقة من غير منافات مع الحقائق الاخرى التي تشاكلها وتتطابق معها تبعاً لمنطق السنخية.
فمثلاً ان الفلاسفة كانوا مضطرين لتأويل الصفات الالهية التشبيهية كصفتي السمع والبصر، مثلما جاء في قوله تعالى: ((إن الله سميع بصير))، اذ عدوا ذلك مما يعود الى العلم الصوري تبعاً لنظرية التمثيل. فابن سينا مثلاً فسّر سمعه وبصره بانه عالم بالمسموعات وعالم بالمبصرات، وكونه خبيراً انه عالم ببواطن الاشياء، وكونه شهيداً انه عالم بظواهر الاشياء، وكونه محصياً انه عالم بالمعدودات، وكونه لطيفاً انه عالم بدقائق الاشياء، وفي جميع الاحوال يظل علمه واحداً لا يتعدد وإن اختلفت اسماؤه . وقد رأى ابن رشد ان علة تأويل الفلاسفة للسمع والبصر الى العلم؛ هي كي لا يلزم عن وصفه بهما ان يكون ذا نفس، واعتبر ان الله وصف نفسه بهما تنبيهاً على انه تعالى لا يفوته نوع من انواع العلوم والمعارف. في حين انه بحسب نظرية المشاكلة فان تلك الصفات تؤخذ على معانيها الحقيقية، ومن ذلك ان صدر المتألهين خالف من سبقه من الفلاسفة المشائين ومن على شاكلتهم، كالفارابيين والطوسي وابن رشد وغيرهم، اذ اعتبر ان لله سمعاً وبصراً هما غير العلم، حيث انهما عبارة عن شهود المسموعات والمبصرات، فهذا الشهود هو السمع والبصر. ولا شك ان هذا الرأي يتوسط بين اولئك الذين اولوا صفتي السمع والبصر الى العلم كالذي عليه المشاؤون، وبين اولئك الذين عكسوا القضية فأولوا العلم الى البصر كما هو الحال مع السهروردي، ذلك ان صدر المتألهين يثبت الامرين معاً، الامر الذي يتفق مع نظرية المشاكلة.
وعليه انه اذا كان من مقتضيات نظرية التمثيل رفض ظاهر النص والاخذ بالباطن من خلال التأويل؛ فان الامر مع نظرية المشاكلة مختلف، اذ لا يوجد فصل بين الظاهر والباطن، فالمثال عندها عين الممثول ظاهراً وباطناً. في حين بحسب النظرية الاولى فان المثال غير الممثول ظاهراً وباطناً على حد سواء.
كذلك انه اذا كانت نظرية التمثيل تعد العينة الدينية اقناعية خطابية جاءت لتراعي مدارك الجمهور واذهان الناس الضعيفة، فان الامر مع نظرية المشاكلة يختلف، حيث لا يوجد مجاز ولا خداع ولا تضليل كالذي تفضي اليه النظرية الاولى، خاصة انها بحسب رؤية صدر المتألهين تبعث على تضليل الاتقياء والصالحين وترميهم في عذاب الجحيم. الامر الذي يلزم عندها ان يكون ظاهر النص وباطنه يعبران عن حقيقة واحدة، لكن هذه الحقيقة كما يمكن ان تكون حسية طبيعية فانها تكون الهية او عقلية او مثالية غير طبيعية. واذا كان اصحاب نظرية التمثيل لا يفهمون من المعنى الظاهر غير تلك الدلالة الحسية الطبيعية، فان غيرهم من اصحاب نظرية المشاكلة يعدون هذا المعنى ينطبق ايضاً على ما هو اعمق من تلك الدلالة، اي ان هناك دلالة عقلية ومثالية والهية هي اعمق من الدلالة الحسية، وان كانت جميع الدلالات تعبر عن ظاهر النص بمعناه العام غير القابل للتحديد من حيث الاصل، اي ان الظاهر لا يكشف الا عن ذلك الذي يعبر عن روح المعنى المشترك، وهو المعنى المجمل الذي لا يتحدد بأي من تلك الدلالات. وبالتالي كان لزاماً على نظرية التمثيل ان تقوم بتأويل الظاهر باعتبارها تتوقف عند دلالته الحسية دون ان تذهب بعيداً في اصل الدلالة التي يبديها الظاهر والتي هي غير مقيدة بحس وعقل وخيال او مثال، فكل منها يمكن ان يعبر عن هذا الظاهر. أما تعيين حقيقة امر هذا الظاهر فذلك يعتمد على الباطن. فالباطن يعين الظاهر دون ان يلغيه، والفارق بينهما، بحسب نظرية المشاكلة، هو ان الظاهر رغم كونه يمثل المعنى الحقيقي للممثول، الا انه لا يعبر عنه تعبيره التام غير المنقوص، او انه لا يكشف عن هويته الوجودية، بل يظل محتفظاً بروح ماهيته العامة او الاصلية، ويبقى ان تعيين طبيعة هذا الظاهر والكشف عن هويته الوجودية انما يتم بحسب ما عليه الباطن، وبالتالي كان الظاهر قنطرة للعبور الى الباطن، وكان الباطن هو الذي يعطي الحقيقة بتمامها وتفصيلها، او انه هو الذي يحدد مكانة الحقيقة من حيث الوجود، مثلما ان الظاهر يحددها بحسب الماهية. او يمكن القول ان الظاهر يحدد الحقيقة كما هي بصرف النظر عن طبيعة وجودها الخارجي، فهو بالتالي كاشف عن الحقيقة بما هي معرفية، وان الباطن يتولى الكشف عن الحقيقة بما تعبر عن وجودها الخارجي. فالحقيقة في الظاهر هي حقيقة معرفية، وهي في الباطن حقيقة وجودية انطولوجية، وان كلا الحقيقتين متطابقتان تطابق الماهية والوجود، وان الاختلاف بينهما هو اختلاف التعيين؛ كاختلاف التصور والتصديق بحسب التقسيم المنطقي، اذ حقيقة الظاهر لا تعين ما عليه الوجود الخارجي للحقيقة، وان الباطن هو الذي يعمل على تعيين هذه الحقيقة، وان العلاقة بين الظاهر والباطن تظل خاضعة تحت فعل ما يُعرف لدى العرفاء بمبدأ الاعتبار، او العبور من الظاهر الى الباطن لوجود المناسبة المشتركة بينهما، كالذي تفرضه القبلية الوجودية بحسب منطق السنخية.
ايضاً انه اذا كانت نظرية التمثيل مضطرة الى نفي صفات اليقين والبرهان والحقيقة عن العينة الدينية، طالما تعدها اقناعية غرضها مخاطبة العوام، فان نظرية المشاكلة ليست مضطرة الى هذا النفي، بل على العكس انها تجد التطابق بين مفرزات العينتين الوجودية والدينية من دون اختلاف، وهو الامر الذي اكد عليه صدر المتألهين بقوله: (حاشا الشريعة الحقة الالهية البيضاء ان تكون احكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية، وتباً لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنة). فهما بنظر فيلسوفنا عبارة عن حقيقتين متحابتين ومتراضيتين من دون تخاصم، حيث يعبران عن حقيقة واحدة. وهذه هي وجهة النظر التي جاءت على شاكلة ما سبق اليه ابن رشد في قوله بأخوة الشريعة للحكمة وصحبتهما وفق الحب بالطبع والغريزة. فكل منهما كان ينزع نحو التقرب من الحقيقتين الوجودية والدينية، وإن افضى هذا الامر الى التلفيق في الكثير من الاحيان.