-
ع
+

بين الفهم المجمل والمفصل للدين

يحيى محمد 

 يلقى البحث في النص الديني تفصيلاً وايغالاً لدى العلماء المسلمين، وهو ما يبعث على المزيد من الإجمالات والتشابهات؛ سواء كان التفصيل والإيغال داخل النصوص المبينة، أو النصوص المتشابهة، أو حتى ضمن ما يتفرع عنهما من قياسات وإجتهادات لا تأخذ الواقع والمقاصد بعين الاعتبار. ففي جميع الأحوال هناك تعميق لحالة التشابه، سواء كان التشابه مصدره النص، أو كان مصدره التفريعات من الممارسات الإجتهادية البعيدة عن منطق الواقع والوجدان والمقاصد.

وبعبارة أخرى نحن نقف أمام منهج ساد وأفضى إلى خطأ تاريخي جسيم. ذلك ان الوظيفة الرئيسة لهذا المنهج - والذي نطلق عليه منهج الفهم المفصل - هو البحث والتنقيب عن المزيد من المفصلات عبر التدقيقات الفقهية اللغوية في النص، حيث الامعان أكثر فأكثر لانتزاع ما يبعث على كثرة الخلاف والمعارضات، وما يترتب على ذلك من إجتهادات وقياسات عارضة.

ولايضاح هذا الخلل لا بد من استعراض عدد من الأمثلة والنماذج الفقهية التي اشبعها الفقهاء إجتهاداً وتفصيلاً، ومن ثم مزيداً من التشابه. فمن ذلك التكثير والاهتمام المبالغ به حول قضايا جزئية مثل الطهارة والنجاسة والاغسال والوضوء وغيرها مما اختلف حولها الكثير من الفقهاء بحسب معالجاتهم المعهودة من التفصيل دون الحفاظ على يقين المجملات المبينة.

فمثلاً ان مسح الرأس في الوضوء هو من المبين الذي اتفق عليه الفقهاء، لكن بسبب منهجهم المفصل قاموا بتوسيع الدائرة إلى سلسلة من التفريعات الخلافية المتشابهة. فقد اختلفوا في القدر المجزئ منه. فذهب البعض إلى ان الواجب مسحه كله، وبعض آخر إلى مسح جزء منه، ثم اختلفوا في مقدار هذا الجزء، فبعضهم حدده بالثلث، واخر بالثلثين وثالث بالربع. كما ان منهم من رأى استحباب البدء بمقدم الرأس فقال بأن يمرر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ. واختار آخرون ان يبدأ من مؤخر الرأس وليس من مقدمه. كما واختلفوا في مسح الاذنين هل هو سنة أو فريضة، أو لا هذا ولا ذاك، وهل يجدد لهما الماء أم لا؟ ومثل ذلك اختلفوا في المسح على العمامة، حيث اجازه بعضهم ومنعه اخرون[1] .

وعلى هذه الشاكلة ما ظهر من تكثير المسائل حول السواك، فقد روي، كما في الصحيحين، أن النبي قال: (لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)[2] . فعلى قول الكواكبي ان هذا الحديث مع صراحته الضمنية الدالة بأن السواك لا يتجاوز حد الندب، الا ان اكثرية الفقهاء جعلوه سنة، وخصصه بعضهم بعود الاراك، وعمم بعضهم الاصبع وغيره بشرط عدم الادماء. وفصّل بعضهم أنه اذا قصر عن شبر، وقيل فتر، كان مخالفاً للسنة، وتفنن آخرون بأن من السنة ان تكون فتحته مقدار نصف الابهام ولا يزيد عن غلظ اصبع. وأوضح بعضهم كيفية استعماله فقال: يسند بباطن رأس الخنصر، ويمسك باصابع الوسطى، ويدعم بالابهام قائماً. وفصّل بعض آخر ان يبدأ بادخاله مبلولاً في الشدق الايمن، ثم يراوحه ثلاثاً، ثم يتفل، وقيل يتمضمض، ثم يراوحه ويتمضمض ثانية، وهكذا يفعل مرة ثالثة. وبحث بعض آخر في ان هذه المضمضة هل تكفي عن سنّة المضمضة في الوضوء أم لا؟ ومن قال لا تكفي احتجّ بنقصان الغرغرة. واختلف الفقهاء في اوقات استعماله في اليوم مرة أو عند كل وضوء أو عند تلاوة القرآن ايضاً، حتى صار بعضهم يتبرك بعود الاراك يخللون به الفم يابساً، وبعضهم يعدّ له كثيراً من الخواص؛ منها أنه اذا وضع قائماً يركبه الشيطان، وخالف البعض فقال: بل اذا أُلقي يورث لمستعمله الجذام. وكثير من العامة يتوهم فيحسب السواك بالاراك من شعائر دين الإسلام. إلى غير هذا من مباحث التشديد والتشويش المؤديين إلى ترك الدين، على عكس مراد الشرع الذي يقصد تنظيف الفم كيفما كان[3] .

من ناحية أخرى تضلّع أصحاب منهج الفهم المفصل بالتفنن والتدقيق في الألفاظ الحرفية، الأمر الذي زاد من طائلة المتشابه لكثرة الإحتمالات التي تسفر عن هذه العملية المخلة بالمقاصد. فمثلاً ذكر ابن القيم الجوزية ما يقارب عشرين مذهباً مختلفاً حول قضية في غاية الجزئية لها علاقة بالطلاق، وهي فيما لو قال الزوج لزوجته: أنتِ عليّ حرام[4]. وصوّر البعض وهو بصدد بحث هذه المسألة (الطلاق) بأن الذي يطلع على كتب الفقهاء >يندهش عندما يرى اشتغالهم بتأويل الألفاظ والتفنن في فهم معانيها في ذاتها، بقطع النظر عن الاشخاص، وعندهم متى ذُكر اللفظ تم الأثر الشرعي. ولهذا قصروا ابحاثهم جميعها على الكلمات والحروف وامتلأت الكتب بالاشتغال بفهم: طلقتك، وانت طالق، وانت مطلقة، وعليّ الطلاق، وطلقت رجلك أو رأسك أو عرقك، وما اشبه ذلك، وصارت المسألة مسألة بحث في اللفظ والتركيب<[5] .

ويفرض هذا المنهج مزيداً من المشاكل بغير حل. فالتدقيقات اللغوية وتشقيقات النصوص والتنطع والتفريع كلها موارد تزيد من دائرة الشبهات والإحتمالات. وكل ما تصنعه هذه الطريقة من تخصيص وتقييد، وما على هذه الشاكلة من عمليات تعود إلى التوفيق في الصيغ اللغوية المتعارضة، إنما يبعدها عن جوهر العلاج الصحيح، وهو الرجوع إلى الفاعلية التي ينشط فيها كل من الوجدان والواقع والمقاصد. وقد ينطبق على الفقهاء مقولة بعض الفلاسفة: إن ما تربحونه من ناحية الدقة إنما تخسرونه من ناحية الموضوعية[6] .

ومن آفات هذا المنهج هو أنه يسفر عن اتباع طروحات يشهد الوجدان بأنها مخالفة لروح الديانة واهدافها السامية، كإطروحة المذهبية وترجيح الفرقة على الوحدة، وهي من اعظم الامراض المزمنة التي تفشّت بين المسلمين، واصبح من المتعذر علاجها؛ ما لم يتم التخلي عن المنهج المذكور وابداله بمنهج الفهم المجمل. فالعلاقة التي تربط بين المنهج الأول وبين تحقق الطائفية وما يترتب عليها من نزعة عدائية؛ هي علاقة تأثير مضطرد، فكلما زاد ايغال المنهج في التفصيل؛ كلما زاد تحقق الطائفية، بل وزاد التشاحن والصدام. وعلى خلاف ذلك ما ينشأ عن الالتزام بمسلك الفهم المجمل؛ الذي يعمل على احياء روح الديانة والحفاظ على بيانها. في حين لا تعبّر التفصيلات الظنية عن هذه الروح ولا تكشف عنها. وقد قال الله تعالى: ((ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)) آل عمران/105، وقال ايضاً: ((ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون)) الروم/32، كما قال: ((ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)) الانعام/159. حتى ان عدداً من القدماء اعترف بما آل اليه أمر العلماء من التفرق حسب اختلاف آرائهم وتأويلاتهم ومحاولة كل منهم نصرة مذهبه تقليداً والرد على المخالفين، وبذلك ينطبق عليهم المعنى المستوحى من مثل هذه الآيات الكريمة، ومن ذلك ما قاله الفخر الرازي: >واقول انك اذا انصفت علمت ان أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة<. كما سبق للغزالي ان أشار إلى مثل هذا المعنى من سوء حال العلماء في الاختلاف والتفرق[7] .

وكدلالة على ما سبق، التأثير الذي سببه منهج الفهم المفصل في الخلاف المتفاقم حول القضايا العقائدية، وعلى رأسها مسألة التوحيد. فرغم ان النصوص حولها كثيرة؛ الا أنها بادية الإجمال، وهذا ما جعل العلماء لا يكتفون بالفهم المجمل للمسألة، بل سعوا وأجهدوا أنفسهم في البحث عن التفاصيل والتقاط ما أمكن لدعم طروحاتهم حول الكيفية التي عليها هذه المسألة. وبالتالي فاننا نجد التوحيد لدى المعتزلة هو غير التوحيد عند الأشاعرة، وعند هؤلاء هو غيره عند الفلاسفة وكذا الصوفية، بل حتى عند السلفية نجده مورداً للاختلاف والتباين، رغم ان جميع هذه الفرق تتفق على المعنى العام من التوحيد وهو عدم وجود شريك لله تعالى، وأنه لم ينشأ من كائن آخر غيره ولا له ولد يخلفه. فتلك هي الصفات السلبية التي يتفق عليها الجميع، أما الصفات الايجابية فهي مجملة بالمرة؛ كعلمه وقدرته وذاته وحياته. ولا شك ان كل تفصيل لهذه الصفات يفضي إلى الخلاف وتعدد الرؤى، وغالباً ما يدعو إلى التنازع والتضليل والتكفير.

مع هذا فالملاحظ في قضية التوحيد أنها قضية غيبية لا يمكن معالجة تفاصيلها من خلال الواقع، الأمر الذي يختلف عن القضايا المرتبطة بالواقع المباشر كتلك المتعلقة بالقضايا الفقهية.

 

الفهم المجمل والسلوك السلفي 

اول ما يلاحظ بهذا الصدد هو ان القرآن الكريم بشهادة السلف اكتفى بما نزّله من مجملات، وأنه بخصوص الأحكام نهى عن التنطع والالحاح في السؤال. فعدد آيات الأحكام في الكتاب قليلة جداً قياساً مع غيرها من الايات، والبعض يرى أنها لا تتجاوز المائة أو المائة والخمسين[8] ، أو الثلاث مائة آية. الأمر الذي يتنافى مع الممارسة التي لجأ اليها الفقهاء في البحث اللغوي من اجل تكثير صور التكليف والأحكام. وقد ورد ان بعض الاعراب كان يأتي النبي فيعلمه امور دينه في مجلس واحد فقط. مما يكشف عن ان مدار الأحكام التكليفية المنصوصة هي في غاية الضيق، وان ما ألفه الفقهاء من التدقيقات والتنطعات لا يعدّ مطلباً دينياً. والكثير من الروايات تفيد هذا المعنى، ومن ذلك الباب الذي عنونه البخاري في صحيحه (ما يكره من كثرة السؤال) وقد جاء فيه ما روي عن النبي (ص): >إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرّم من أجل مسألته<[9] .

على أن هناك تفاوتاً في الارتباط بمسلك الفهم المفصل وكيفيته لدى الإتجاهات المعرفية. فهناك الإتجاه الذي يرى كل شيء محدداً بالنص جملة وتفصيلاً، ويمنع العناصر الأخرى من الدور الفاعل لتحديد الفهم. فمثلاً يرى ابن حزم بأن الله تعالى قد أحكم شريعته وأبان كل شيء مما يحتاجه البشر ودلّ عليه بالبيان والظاهر، وأنه لا شيء من الدين وجميع احكامه الا وقد نصّ عليه بالتفصيل، فلا حاجة بأحد إلى القياس وغيره من موارد الإجتهاد، خصوصاً وقد أمر الله تعالى بالرد اليه والى رسوله عند الاختلاف والتنازع. وبالتالي فإن دين الله - عند ابن حزم - كامل ليس بناقص، وأنه لا يبدل ولا ينقص ولا يحتاج إلى ما يزيد عليه تفصيلاً، وهو يتحدد بكتاب الله وما بيّنه النبي الأكرم، وبلّغه الينا اولي الأمر منّا، وعدا ذلك ليس من الدين بشيء[10]. ومثله ما صرح به الفيض الكاشاني من الإخباريين في الساحة الشيعية، إذ اعتبر ان الكتاب والعترة كافيان لتعليم الامة معالم دينها ولا حاجة لأحد في ان يجتهد برأيه في الأحكام، أو يعمل بالقياس والإستحسان، وان يضع اصولاً فقهية وطرق استنباطات ظنية[11] .

وفي قبال الإتجاه السابق استند أغلب العلماء إلى القياس وسائر موارد الإجتهاد ليتجاوزا بها إشكالية الفهم المجمل، معتبرين التفصيل في تغطية القضايا لا يتم بمجرد النص وحده، لهذا اضافوا له عدداً من مبادئ الإجتهاد إدراكاً منهم بأن النصوص مهما كانت فانها تظل محدودة لا تغطي مباشرة كل قضايا الواقع، وبعضهم اعترف بتناهي النصوص وحدوديتها في قبال الوقائع غير المتناهية. مع ما يلاحظ من ان بعض الفقهاء جانب الصواب فأخذ يجعل من أحكام العبادات والحلال والحرام محلاً للقياس. وبذلك زاد الفقهاء من المسائل حتى >جعلوها تكاليفاً لا تحتمل<[12]. وأمعن المتأخرون في التفصيل، سواء اعتمدوا على النص مباشرة أو غير مباشرة، وكانوا أشد ايغالاً من اسلافهم في تبني مسلك الفهم المفصل، إذ جعلوا من عبارات شيوخهم وائمتهم نصوصاً يستنبطون منها الأحكام مثلما يستنبطون ذلك من نصوص الشرع، فأخذوا يقيمون القياس على القياس، والإجتهاد على الإجتهاد، حتى صارت الأحكام المنسوبة للشرع تتضاعف مع الزمن باطراد[13] .

مع هذا ادرك اغلب العلماء في الساحتين السنية والشيعية انسداد العلم، أي العجز عن الوصول إلى القطع في التفاصيل الدينية. وبعضهم اعترف حتى بانسداد الطريق لهذا العلم، لغياب القرائن الدالة على الإطمئنان بمؤدى الأخبار المنقولة؛ من أمثال الوحيد البهبهاني والمحقق القمي وصاحب الرياض وغيرهم[14]. وهو أمر يتسق مع منطق الفهم المجمل. لكنهم رغم ذلك ظلوا محافظين على مسلكهم التقليدي من الفهم المفصل، وكان يمكن لهذا الإعتراف أن يفضي إلى تغيير حاسم وجذري في اسلوب الفهم والتفكير، بعيداً عن المناهج التقليدية المتعارف عليها، وذلك بإدخال عناصر جديدة لها دورها الفاعل في تحديد النتائج المعرفية المرتقبة.

 

مقارنة بين المسلكين المجمل والمفصل 

يمكن تشخيص الفروق بين الفهمين المجمل والمفصل بحسب النقاط التالية:

1 ـ ان الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالمقاصد. فالفهم المجمل يتسق معها من غير معارضة، في حين يعمق الفهم المفصل حالة الإنفصال والتعارض معها. وهذه النقطة هي من أهم الإشكالات التي تواجه الفهم الاخير، فهو لا يدع مجالاً للأخذ بالمقاصد؛ طالما ان الأخذ بأحدهما يفضي إلى التعارض مع الآخر. وهو ما يفسر كيف أن موقف المنظرين للمقاصد هو موقف يمتاز بالتبرير لا التشريع. فهم لا يتجاوزون اضفاء الدلالة المقصدية على المفصلات. ومع ان هذا الاضفاء يعد خطوة صحيحة؛ لكن الوقوف عندها يوقع في التناقض. فالمفصلات إما ان تكون دالة على المقاصد، وبالتالي تكون الأخيرة حاكمة على الأولى بإعتبارها الغاية المطلوبة، مما يبرر التشريع بحسبها، أو أنها غير دالة على ذلك، وهو ما يبرر ثبات العمل بالمفصلات.

فالذين نظّروا للمقاصد اعترفوا بما للمفصلات البيانية من مقاصد؛ لكنهم حصروا العمل بالاولى واخفوا دلالة ما تعنيه الثانية من غلبة وحاكمية على الأولى بما فيها تلك التي تتصف بالمعارضة معها. فالعمل الثابت بالمفصل لا يتسق ومقالة المقاصد مادامت تغايرات الواقع لا تنتهي بحد معين. في حين ليس الأمر كذلك عند التعويل على الفهم المجمل؛ طالما أنه يمتلك أكثر من طرف، الأمر الذي يقبل التوجيه بحسب ما تفرضه نظرية المقاصد دون تعارض. وبالتالي كان بمقدور الفهم المجمل ان يجنبنا الكثير من موارد الخلاف والمعارضة، وذلك من حيث الإجتهاد في الواقع وعلاقته بالمقاصد، إلى الدرجة التي تصبح التخصيصات والتقييدات والناسخ والمنسوخ كلها ساحة مفتوحة بانفتاح الواقع حضوراً واستشرافاً.

هكذا يقضي العمل بالفهم المجمل على حالة التعارض التي تحصل بين النص من جهة، وبين الواقع والمقاصد والعقل من جهة ثانية. فحين يصادفنا تعارض من هذا النوع نعلم أو نتوقع ان هناك التباساً وتشابهاً قد حصل بخصوص فهمنا للنص، مما يقتضي حلّه عبر الواقع أو الوجدان. فمثلاً لو ان حكم النص اسفر عن بعض الاضرار المحسوبة دون توقع ما يقابلها من استشراف للمصالح العقلائية؛ فإن ذلك يجعلنا نعتبر اللبس ليس في ذات الواقع أو الضرر الملحق؛ بقدر ما هو لبس في فهم النص، مما يستدعي علاجه بصيغة أخرى مفصلة تبعاً لما تمدنا به الخبرة الموضوعية للواقع وهدي المقاصد. ولو لم نفعل ذلك لأوقعنا النص في تناقض مع مقاصد التشريع والواقع وما ينطوي عليه من مصالح عامة. وبالتالي فإنه لا يمكن قطع الصلة بين النص من جهة، وبين العناصر الأخرى الفاعلة من جهة ثانية. أو ان قطع الصلة بينهما ليس له مبرر، فالحقيقة لا يمكنها ان تضاد حقيقة أخرى للموضوع الواحد، وأن ما يتصور بأنه نوع من التضاد والمنافاة بين النص من جهة، والعقل والواقع من جهة أخرى، إنما هو تضاد ظاهري يوحي بوجود التشابه في النص حتى لو كان واضحاً وصريحاً.

 

2 ـ ان الفهمين السابقين يفترقان تبعاً لطريقة معالجة قضايا الواقع. فالمسلك المجمل يولي الواقع أهمية كبرى للمعالجة والتأثير والتفصيل، فهو عنده محل بحث وفحص ومراجعة من غير انقطاع، خلافاً لما يعمل به الفهم المفصل الذي يحد من تأثير الواقع ولا يوليه الكثير من الاعتبار.

كما انهما يفترقان من حيث المنزلة المعرفية التي يحتلها النص عندهما. فالنص لدى المسلك المجمل له صفة توجيه الفكر، ولدى المسلك المفصل له صفة تكوين الفكر. أي ان الأول يتعامل مع النص بوصفه موجهاً أكثر منه مكوناً، على خلاف الآخر الذي يتعامل معه بوصفه مكوناً أكثر منه موجهاً. ولا شك ان الخلاف بين الحالين ينعكس على الموقف من الواقع. فالذي يولي النص صفة التكوين لا يجعل للواقع مكاناً. والذي يمنحه صفة التوجيه يحتاج إلى كتلة معرفية تكوينية تمارس عليها سمة التوجيه، وهو لا يجدها غنية الا في الواقع. مع لحاظ الأمر النسبي بين التوجيه والتكوين، إذ التوجيه لا يخلو من تكوين مهما بدا ضعيفاً، كما ان التكوين هو الآخر لا يخلو بدوره من توجيه وان قلّ[15].

كما انهما يفترقان بحسب التخفيف من حالات الخلاف المعرفي والعلمي. فالخلاف المعرفي بحسب الفهم المفصل يكاد يكون كما هو من غير تناقص، بل غالباً ما يزداد كلما كثر الرجوع إلى التدقيقات اللغوية وإحتمالاتها، وليس الأمر كذلك مع الفهم المجمل، إذ الرجوع إلى الواقع وإن كان لا يقضي على الخلاف عادة، الا أنه يمكن تخفيفه وربما ازالته عبر امتداد الزمن.

ويؤيد هذا المعنى ما ذكره الطوفي من شواهد عديدة لما حصل من عداء وتنافر بين المذاهب الفقهية تبعاً للنهج الذي اتبعوه، ثم أنه قال: >إن بعض أهل الذمة ربما أراد الإسلام فيمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء ظناً منه أنهم يخطئون.. لهذا قال الله تعالى: ((الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً)) أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً.. ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) على ما تقرر؛ لإتحد طريق الحكم وانتهى الخلاف، فلم يكن ذلك شبهة في امتناع من أراد الإسلام من أهل الذمة وغيرهم<[16].

 

3 ـ إن الفهمين السابقين يفترقان بحسب اضفاء القداسة على نتائجهما الإجتهادية. فالنتاج عند الفهم المجمل يجعل القداسة تلوح المجملات المستلهمة من النصوص ولا يولي للمفصلات الظنية مثل هذا الاعتبار. وهو خلاف ما يقوم به الفهم المفصل من جعل القداسة مبسوطة على المجملات المعلومة والمفصلات الظنية بلا فارق جذري بين المجموعتين.

كذلك فبقدر ما يضيّق الفهم المجمل حدود دائرة النص وما يترتب عليها من قداسة؛ بقدر ما ينفتح على الواقع بهدي المقاصد. وعلى العكس منه يعمل الفهم المفصل، إذ بقدر ما ينفتح على النص ويستلهم منه القداسة حتى في المفصلات الظنية؛ بقدر ما يبتعد عن الواقع واعتباراته. فالإجتهاد لدى الفهم المفصل هو إجتهاد في النص. بينما الإجتهاد في الفهم المجمل هو إجتهاد في الواقع المفتوح. وان النتائج التي تسفر عن الإجتهاد في الفهم المفصل ليست مجرد نتائج معرفية فحسب، بل تلتبس مع ما يضفى عليها من ثوب مقدس، رغم أنها لا تتعدى دائرة الظن والإحتمال في الغالب، الأمر الذي يسهل توظيفها، كما ويصعب معارضتها من الناحية الايديولوجية، وواقعنا اليوم زاخر بهذا المعنى المعبِّر. في حين ان ما يترتب على الإجتهاد لدى الفهم المجمل يخلو من مثل هذا الثوب؛ لكونه يعتمد على الواقع لا النص، وبالتالي فهو أكثر تواضعاً من الإجتهاد القائم على الفهم المفصل.

هكذا فبفعل الفهم المجمل يمكن القضاء على الكهنوت المبتدع عبر منهج الفهم المفصل، والذي ينسب كل ما هو إجتهادي إلى أحكام الشريعة الإلهية، ومن ثم تلبيسه ثوب المقدس. وبطبيعة الحال قد تتفاوت قداسة هذا المقدس وكذا طبيعة الكهنوت القائم عليه. في حين يتقارب الناس في فهمهم للقضايا الدينية وفقاً للنهج المجمل، شبيه بما كان عليه الأمر زمن الرسالة. فرغم اختلاف المدارك العقلية للصحابة الا ان ذلك لم يشكل عائقاً في ارتباطهم المباشر بالدين بعيداً عن الوساطة الكهنوتية، ويعود السبب في ذلك إلى سماحة الدين وسهولته. وقد كان الإجتهاد نافذاً بخصوص الواقع دون النص. ومعلوم ان التفكير في الواقع لا يبعث على خلق القداسة وما يترتب عليها من الوساطة الكهنوتية التي تتوسط بين الناس والدين.

ولا شك ان ما ذكرناه حول الفهم المجمل يقرّب بين الاتجاهات التي تتنافس في طروحاتها حول طبيعة النظام السياسي، فاذا كان أصحاب التيارات الإسلامية لا يملكون برنامجاً متكاملاً للفعل والتنفيذ، وكانوا مختلفين في برامجهم السياسية، فذلك سيدعو إلى التسامح من جانب، كما أنه يدعو إلى تفعيل فهم الواقع أكثر فأكثر، لغرض فك اشكاليات مجملات النص، وجعل الإجتهاد دائراً في ميادين الواقع المختلفة، مع أخذ اعتبار التظلل بالموجهات الكلية للنص وعلى رأسها المقاصد.

 

4 ـ ان الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالامة المسلمة. فالمسلك المجمل هو مسلك توحيدي خلافاً للمسلك المفصل الذي يعمل على التفريق والتنازع لإرتباطه بالمقدس حتى على مستوى الظنون المنبعثة عن المفصلات. الأمر الذي تتعارض فيه المقدسات الظنية، فيتولد الخلاف والصراع للإرتباط بهذه المدعيات.

كما انهما يفترقان من حيث التخفيف والتشديد وحدود التزامات الأفراد في قضايا الأحكام والعبادات. فالمسلك المجمل يميل إلى التخفيف والتقليل، خلافاً للمسلك المفصل الذي يتجه صوب التشديد والتوسيع. وقد اعتبر بعض المفكرين ان توسيع الفقهاء لدائرة الأحكام أدى إلى تضييق الدين على المسلمين تضييقاً أوقع الأمة في ارتباك عظيم، بحيث جعل المسلم لا يكاد يستطيع أن يعدّ نفسه مسلماً ناجياً لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته تبعاً لطلبات الفقهاء المتشددين الآخذين بالعزائم[17].

وعلى هذه الشاكلة أدان بعض آخر الفقهاء وأخذ يتهمهم بتضييع الدين لما شددوا الخناق فيه على المكلف بكثرة توسيعهم لقضايا الأحكام ومطالبتهم الالتزام بها، كما هو الحال مع تعليم أحكام الطهارة وغيرها من العبادات التي وضعوا لها المجلدات الكبيرة، فألحقت الضرر بالناس دون فائدة[18].

***

هكذا ان القول بالفهم المجمل يجعلنا نعيد صياغة الإجتهاد إن كان يُعد - في الأساس - إجتهاداً في النص أو الواقع؟

فاذا ما اتفقنا على أن المجمل بيّن؛ فإن المشكلة تظل دائرة بحدود المفصل الذي هو محل التشابه والإحتمال، وبالتالي فعلاج هذا المفصل إما ان يتم عبر النظر في النص ذاته كما هو مسلك الفقهاء، أو عبر النظر في الواقع وهدي المقاصد.

ولإبراز مظاهر الاختلاف بين المسلكين حول طبيعة المفصل؛ نشير الى الملاحظات التالية:

1  ـ إن المفصل الواقعي أوسع قدرة في التعامل مع قضايا الواقع وحقائقه المتغيرة، مع احتفاظه بالمكانة التي عليها النص ومجملاته المبينة، خلافاً للمفصل النصي الذي لا يمتلك قدرة واسعة على التعامل مع قضايا الواقع باتساق، لكثرة اصطدامه بالواقع، وتراجعه بعد كل صدام.

2  ـ إن البحث وفقاً للمفصل الواقعي يتخذ صورة التزاوج بين المجمل النصي والمفصل الواقعي، إذ يقوم هذا الأخير بفتح المجملات المغلقة في النص، خلافاً لما تقوم به إطروحة المفصل النصي من البحث في نفس سياق النص اجمالاً وتفصيلاً.

3 ـ إن المفصل النصي هو مفصل متشابه ترد فيه الإحتمالات التي لا ترقى إلى القطع أو الإطمئنان. في حين ليس بممتنع على المفصل الواقعي بلوغ درجة القطع أو الإطمئنان.

4 ـ طبقاً للمفصل الواقعي فإن ما يتم التوصل اليه من نتائج؛ لا يصح أن نعزوه إلى الشرع وحكم الله تعالى، لا ظاهراً ولا واقعاً، الا عندما يكون الأمر قطعياً بحسب الوجدان العقلي دون أدنى ريب. وهو يؤمن بالسلوك الذي كان عليه العديد من السلف الاوائل الذين لا يحرمون ولا يحللون الا بنص صريح، بل يقولون نكره ونستحسن[19].

واذا كانت المساند التراثية تؤكد لنا بأن فهم النص لا يسعه بحال ان يغطي مجالات الواقع المفتوح، فلا غنى في القبال عن ممارسة الإجتهاد في الواقع مع هدي المقاصد.

5 ـ غالباً ما يكون المفصل الواقعي أقوى ترجيحاً من المفصل النصي إن لم يفضِ إلى القطع. فبالخبرة والتجربة ومرور الزمن يكون أكثر قابلية على الإقتراب من الحقيقة، خلافاً لما عليه المفصل النصي، وذلك لإعتبارين مهمين كما يلي:

 

أولاً: إن العملية المعرفية في حالة ظنون المفصل الواقعي تمر بطرق قريبة وقصيرة للكشف عن الحقيقة، إذ يسهل عليها مراجعة قضايا البحث طبقاً لما تعتمده من مولدات قائمة على خبرة الواقع وهدي الموجهات العامة للنص. في حين تتأسس العملية المعرفية في حالة الظنون النصية البيانية على سلسلة طويلة ومعقدة من الطرق الاستدلالية؛ بما تتضمن من مدارات إحتمالية متشعبة، الأمر الذي يجعلها أقل قوة وجاذبية مقارنة مع ما تتصف به الظنون الخبروية للواقع.

فمثلاً حينما يتأسس الحكم الظني طبقاً للعملية البيانية؛ فإن على الفقيه ان يراعي جملة امور لتفضي قضيته إلى المطلوب. فحيث ان مادته الرئيسة مستمدة من نصوص الحديث؛ وجب عليه ان يبحث في الشروط الخارجية لصحة النص قبل النظر في شروطه الداخلية؛ فيقوم بفحص السند للتعرف على سلسلة رجال الرواية، وهو في هذه المرحلة يسعى للحصول على نوع من الظن في وثاقة الجميع، مع الأخذ بعين الاعتبار ان السلسلة الطويلة تضعف من القيمة الإحتمالية لوثاقة الجميع، كذلك فإن التعامل غير المباشر في معرفة رجال السند هو الآخر يعمل على اضعاف هذه القيمة. وكل ذلك يواجهه الفقيه، إذ يلاقي أمامه سلسلة ليست قصيرة من الرواة، وهو من حيث التوثيق يعتمد على اخرين تناولوا تراجم الرجال بالإجمال المخل، سيما وأنه لم تكن بين الطرفين معاصرة واحتكاك مباشر. فالتوثيق غالباً ما يكون توثيقاً للغائب دون الحاضر. ناهيك عن أنه كلما طالت سلسلة الناقلين؛ كلما قوي إحتمال تغير المنقول من الرواية بالزيادة او النقصان. كما أن أغلب المنقول منقول بالمعنى وليس باللفظ، وهو عادة ما يكون مقطوع الصلة عن ملابسات الخبر، مما يبعث على إحتمال كون المراد؛ له خصوصية ظرفية غير قابلة للتعميم والاطلاق. فضلاً عن ان للفظ أحياناً وجوهاً من الإحتمالات، مع وجود ما يعارضه من نصوص أخرى هي بدورها تخضع إلى نفس ما مرّ علينا من تعقيدات إحتمالية. فكل ذلك لا يدع مجالاً لاحراز الثقة بالظن البياني عادة[20] .

فهناك تردد في سلامة نقل الخبر كما هو، وهناك تردد آخر في مضمونه ومعناه، وكذا في علاقته بغيره من النصوص؛ إن كانت علاقة نسخ أو تخصيص وتقييد أو غير ذلك من مشاكل متراكبة عديدة تتجمع على محور إضعاف القيمة المعرفية. إذ يصبح الظن الناتج في الحصيلة النهائية عبارة عن ضرب مجموعة كبيرة من الظنون والإحتمالات الواردة، كالتي صورناها قبل قليل، مع أنه كلما ازداد عدد أطراف الضرب في المحتملات كلما زاد ضعف النتيجة. ولا شك ان هذه الحصيلة لا تحدث - عادة - لدى الظنون الخبروية العقلائية، باعتبارها لا تمر بذلك الكم من التفريعات الإحتمالية التي يتوقف بعضها على البعض الآخر، فكثيراً ما يجري التعامل مع قضايا الواقع ضمن دلالات وبينات قابلة لمنح المزيد من الوضوح؛ طالما أنه يمكن النظر في هذه الدلالات والبينات بالتفصيل وبشكل مباشر أو شبه مباشر.

 

ثانياً: إن ظنون المفصل الواقعي تتقبل المراجعة والفحص والتحقيق بدرجة أقوى كثيراً مما عليه ظنون المفصل النصي. إذ من السهل معاودة الواقع ومراجعته عندما يمر بسلسلة من التغيرات والتغايرات. فكل تنويع جديد يعبر عن بيّنة ودلالة اضافية يمكن توظيفها في سلك الممارسة المعرفية، وبالتالي فإن لها أثراً على الحصيلة النهائية من العملية المعرفية. وهو أمر يختلف كلياً عما هو الحال بالنسبة للنظر في النص؛ لاتصافه بالمحدودية والثبات وعدم التغيير، وبالتالي فإن الخبرة المستمدة منه هي خبرة محدودة وثابتة، وان الدلالات المعطاة عنه هي دلالات لا تقبل الإضافة الجديدة باستثناء ما يمكن ان يستكشفه الباحث من جديد غير ملتفت اليه من قبل، وحتى في هذه الحالة فإن الغالب في الأمر يعود إلى فضل التأثر بحقائق الواقع في الكشف عن مضامين النص، كالذي يلاحظ في الاشارات المتعلقة بالعلوم الطبيعية والتي لم تُدرك في النص الا بعد ان شاعت الاكتشافات العلمية الحديثة في الغرب. الأمر الذي يعني بأن التوليد الخبروي، أو مراجعة الواقع، له دور في تصحيح الافكار والرؤى؛ سواء المستمدة من الواقع ذاته، أو تلك المستنبطة من النص عبر الآليات البيانية. في حين ليس بوسع البيان الماهوي ان يقوم بمثل هذا الدور في المراجعة المعتمدة على النص.

وبعبارة أخرى، إن للواقع معلمين استكشافيين، في حين ليس للنص سوى معلم استكشافي واحد تتم فيه المراجعة والبحث. كما ان هناك مجالين يتم التأثير عليهما بحسب الاستكشاف الاول، في حين ليس للثاني سوى مجال واحد يمكن التأثير عليه. وتوضيح ذلك كالتالي:

لما كان النص ثابتاً ومحدوداً؛ فكل ما يرجى منه هو استكشاف الدلالات التي يتضمنها دون انتظار المزيد، حيث لا يوجد غيره. كذلك لما كانت دلالات النص المتعلقة بالكشف عن الواقع تتصف غالباً بالإشارات المجملة؛ لذا فإن أي مراجعة له لا تكشف عما هو جديد في الواقع عادة. وبالتالي فإن هناك معلماً استكشافياً واحداً لدى النص، كما ان المراجعة الاستكشافية البيانية لا يتعدى تأثيرها المعرفي - عادة - حدود النص ذاته. في حين ان للواقع معلمين استكشافيين، أحدهما يتعلق بالدلالات المعطاة للحوادث الناجزة أو الحاضرة أمامنا، والآخر ما يضاف إلى ذلك من دلالات استشرافية ضمن أفق الإنتظار الخاصة بالحوادث المستقبلية الجديدة، أو التاريخية التي لم يتم استكشافها بعد.

واذا ما قارنّا بين حروف النص وحوادث الواقع؛ سنلاحظ ان الأولى تتصف بالحصر والحضور الكامل، وبالتالي فانها قابلة للاستثمار المعرفي دفعة واحدة، كما ان مراجعتها لا تتعدى سوى النظر فيها دون انتظار إضافة حرفية جديدة. في حين ان حوادث الواقع ليست محصورة امامنا بكاملها، فبعضها أصبح في عداد المعدوم وما زلنا نجهله ونطلب معرفته بصورة غير مباشرة، والبعض الآخر ننتظر قدومه، وبالتالي فإن الاستثمار المعرفي - في هذه الحالة - هو استثمار مضاعف مقارنة بما يحصل في حالة النص، وان المراجعة في حوادث الواقع تجري تارة باعادة النظر فيما سبق دراسته من غير إضافة معتمدة، واخرى فيما نستكشفه من عوالم تاريخية ومستقبلية تجعل مراجعتنا مستمرة الواقع ومؤثرة في أكثر من مجال، فهي تعمل على تغيير رؤانا فيما تم رصده من الواقع، كما ان لها تأثيراً على تغيير افكارنا المستنبطة من النص، بل وتغيير طريقة تعاملنا المعرفي معه.

هكذا يتضح ان لظنون المفصل الواقعي وثوقاً وقابلية للمراجعة والفحص هي أعظم وأوسع من تلك العائدة إلى ظنون المفصل النصي.

 



[1] انظر مثلاً: ابن رشد الحفيد: بداية المجتهد، ج1، ص15-18.

[2] صحيح البخاري، حديث 847 وحديث 1831 وحديث 6813. وصحيح مسلم، حديث 252.

[3] عبد الرحمن الكواكبي: أم القرى، الاعمال الكاملة للكواكبي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، 1995م، ص326-327.

[4] ابن القيم: اعلام الموقعين، ج3، ص65 وما بعدها.

[5] قاسم أمين: تحرير المرأة، مصدر سابق، ص404.

[6] هنري بوانكاري: قيمة العلم، ترجمة الميلودي شغموم، دار التنوير، بيروت، الطبعة الاولى، 1982م، ص19.

[7] رشيد رضا: تفسير المنار، ج4، ص49-50.

[8] أم القرى، ص336. والكواكبي: طبائع الاستبداد، ص508.

[9] صحيح البخاري، حديث 6859. وابن حجر العسقلاني: فتح الباري، ج13، ص226-227. وتهذيب الفروق، ج1، ص180.

[10] ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، ج8، ص2ـ3، وج1، ص10. والمحلى، ج1، ص52.

[11] الفيض الكاشاني: تسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة لثمرة المهجة، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث ـ مؤسسة البحوث والتحقيقات الثقافية، طهران، الطبعة الاولى، 1407هـ، ص22ـ23.

[12] المنار، ج5، ص219.

[13] لاحظ بهذا الصدد: المنار، ج6، ص166.

[14] محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة للأصول، مكتبة النجاح، طهران، الطبعة الثانية، ص93-94.

[15] للتفصيل انظر كتابنا: القطيعة بين المثقف والفقيه.

[16] نجم الدين الطوفي: رسالة في رعاية المصلحة، ص132ـ137.

[17] الكواكبي: أم القرى، ص344.

[18] الأعمال الكاملة للامام محمد عبده، حققها وقدم لها محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م، ج3، ص196.

[19] انظر الفصل الاول من كتابنا: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر.

[20] انظر بهذا الصدد ما يقوله المفكر محمد باقرالصدر في: اقتصادنا، دار التعارف، بيروت، الطبعة الحادية عشر، 1399هـ ـ1979م، ص417ـ418. كما انظر التفاصيل في كتابنا: مشكلة الحديث.

comments powered by Disqus