يحيى محمد
لدى تحليل مشكلة القضاء والقدر جمعنا بين الفكرتين المتعارضتين الجبر والاختيار بما يتفق مع الواقع والنص القرآني. فمثلما ترد دلالات كثيرة في القرآن الكريم تؤيد هاتين الفكرتين، كذلك يشير الواقع الى تلاحم الأمرين معاً، حيث لا اختيار من غير جبر، إذ تخضع عملية الاختيار لقانون الارتفاع والانخفاض المعاكس طبقاً لتفاعل الإرادة مع سنن الجبر الطبيعية، فتنخفض الإرادة مع زيادة الضغط المعاكس لهذه السنن، وبالعكس، كما هو واضح من السلوك القائم على العادة مقارنة بالسلوك الابتدائي، إذ تكون قوة الجبر في الأول مرتفعة طبقاً للعادة والتطبع، في الوقت الذي تكون نسبة الإرادة فيه منخفضة؛ ما لم يكن التطبع قائماً على الإرادة ذاتها، بينما تكون قوة الجبر في السلوك الابتدائي منخفضة قياساً بالأول، وعلى عكسها تصبح قوة الإرادة.
فالواقع يشهد على صور الإلجاء ضمن ما يعرف بالسنن الإجتماعية والكونية، ومن أبرزها سنن العادة والتطبع. فالذي يعتاد على ممارسة شيء يكون كالمجبر عليه، وكلما زاد الفعل كلما زاد الإعتياد والإلفة، الأمر الذي يؤثر على فعل الإرادة وقوتها. ولا يتوقف الحال عند هذا الحد، بل يحدث نوع آخر من الإلجاء يتصف بكونه من سنخ الشيء المعتاد عليه.
فثمة تطوران من الإلجاء؛ حيث تبدأ الممارسة بالتطور الكمي للفعل الذي يترتب عليه الإعتياد والتطبع، ومن ثم تفضي العملية إلى تطور كيفي، فتبدأ ممارسة أفعال أخرى تتسق مع تلك التي تم الإعتياد عليها، وهي بدورها قابلة للتحول إلى العادة والتطبع بفعل التكرار. وكل ذلك يتضمن الإلجاء.
وعليه فالإنسان محكوم بقدرين: إرادته من جهة، والسنن الكونية والإجتماعية من جهة ثانية.
وهذا ما غفل عنه علماء الكلام. فبهذين القدرين يمكن تفسير ما تشير إليه النصوص القرآنية دون حاجة للتأويل، لا سيما عند التعرض الى آيات الالجاء؛ كالمد في الطغيان، وزيادة الكفر ومرض النفاق في القلوب، وجعل الغشاوة، وتسليط الشياطين على الكافرين.. الخ، فكل ذلك جاء عقوبة لسوء الفعل والإختيار دون إلغاء الإرادة تماماً، فهو عبارة عن جزاء مرتب وفق ذات السنن الكونية في ضغطها على الإرادة وميولها، وهي حقيقة لا تتنافى مع العدل الإلهي.