يحيى محمد
سبق ان قدمنا مسلكاً يتجاوز ظاهرة التمذهب بالمعنى الشائع. فليس كل من جاوز المذهب أو نقضه فقد تمذهب هو الآخر. ومع ان الطرح الجديد ليس بوسعه ان يتعالى عن صفة المذهبية بمعناها المطلق والعام؛ لكنه لم يأتِ في قبال مذهب آخر، بل في قبال جميع المذاهب الاسلامية قاطبة.
فما نطرحه يمثل منطقاً جديداً لا يعمل بنفس الآلية المشتركة بين المذاهب. ومن ثم يمكن تجاوز المذاهب من دون استثناء، في حين ان كل مذهب منها انما يعارض غيره من المذاهب في التفاصيل، لكنه لا يختلف عنها في النهج العام.
فللمذاهب إعتقاداتها المفصلة، وبعضها يعارض البعض الآخر، كما ان كلاً منها يدعي أنه يمثل الدين الحق، حتى أصبح المذهب ديناً، والدين مذهباً، وصار التفريق بينهما عسيراً للغاية. أما من حيث الحقيقة فالمذهب مذهب والدين دين. والدين لله والمذهب للبشر، فالدين مذهب إلهي، والمذهب دين بشري، فهما يفترقان. فالمذهب يجتهد، سواء في العقائد والأصول، أو في الفقه والفروع، رغم ان المذاهب لا تعترف بطابعها الاجتهادي على مستوى العقائد والأصول لتبرر لنفسها قطعية المسار وحقانية المسلك. فالمذهب يخطئ ويصيب، وبالتالي كان من الممكن نقده وتقويضه وإبداله بآخر، كما ننقد وننقض سائر أفكار البشر، في حين لا يجري هذا الحال مع الدين اذا ما اعترفنا بمصدره الإلهي.
وتعتمد نظرية التجاوز المذهبي على أمرين، هما النقد الجذري وتقديم البديل عن دائرة المذاهب دون الخضوع لسلطتها، فهو تعبير آخر عن اللامنتمي، فلا يمكن تطبيعه ضمن إطار مذهب ما من المذاهب الدينية المعروفة، فقد يتفق مع بعض المذاهب بأمر ويختلف معها بأمور، وبالتالي لا يمكن تحديده ضمن مذهب معين. والأهم من ذلك انه يخالف جميع المذاهب حول مسلك التفصيل الذي ابتدعوه واعتبروه جزءاً من الهوية الدينية بلا دليل، لا سيما وأن هذا التفصيل مشوب بالظنون، فلا يصح إحالة شيء ما إلى الهوية الدينية ما لم يكن قطعياً. فالدين مصدر للمجملات القطعية لا التفاصيل الظنية.
على ذلك فنحن أمام منطق جديد يبتعد عما تمارسه المذاهب الاسلامية من تقبل الظنون والاحتمالات في مزاولة اجتهاداتها الدينية. فالآيات القرآنية على كثرتها تجدها في الأعم الأغلب تتناول مسائل هامة وقليلة للغاية دون تفاصيل. ولو كان من الدين ما تنقله المذاهب؛ لكان من الأولى أن يشار اليه في القرآن بوضوح كوضوح ما أتى لأجله.