يحيى محمد
لدى تحليلنا لبنية نظام الفلسفة والعرفان وجدنا ان من الممكن ارجاعه الى أساس موحد قادر على انتاج القضايا الاعتقادية لهذا النظام كأصل مولد سميناه «مبدأ السنخية». وقد استغرق هذا العمل من التحليل كتاب (النظام الوجودي) مع قسم كبير من (نُظم التراث)، حيث تتبعنا نشأة المبدأ المشار اليه وتطوراتها التاريخية والدور الذي لعبه في الربط بين شقي هذا النظام الوجودي، ثم اعقبنا ذلك بتفصيل العلاقة التي تربطه بمفاصل الرؤية الوجودية وما ترتب عليها من فهمٍ للإشكاليات الدينية.
فبحسب النهج الفلسفي ثمة تقابل مضايف بين الوجود والماهية، فلا وجود من غير ماهية، ولا ماهية من غير وجود، وان هذا الأمر يمكن تقريره من حيث التقابل الحاصل بين الوجود والأعيان الثابتة، حيث حاجة كل منهما للآخر، فلا الوجود يمكنه ان يكون وجوداً بدونها، ولا هي يمكنها ان تكون بدونه. وهذا المعنى من التقابل هو الذي فرض مسألة سريان الوجود وظهور الأعيان بالوجود، ومن ثم القول بوحدة الوجود ووجوب الكل تبعاً لمبدأ السنخية.
كذلك يوجد تبادل في العلاقة الإدراكية بين المبدأ الحق والآخر، فأحدهما يعبّر عن قرينه تعبير صورة المرآة عن مقابلها. وان أصل هذه العلاقة يعود إلى ما يحمله المبدأ الحق من صور الأشياء كلها. فإذا كان المبدأ الحق هو مرآة ترى فيه صور جميع الأشياء، فإن الأشياء هي أيضاً تتجلى فيها صورة الحق، وان مشاهدة أحدهما تعني مشاهدة الآخر، وكذا فإن العلم بأحدهما هو في حد ذاته علم بالآخر، وذلك تبعاً للسنخية. وصيغت قاعدتان بهذا الصدد، إحداهما هي ان (بسيط الحقيقة كل الأشياء)، والأخرى هي ان (العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول)، وكلاهما يستمدان مشروعيتهما من مبدأ السنخية. وتبعاً لهما لا بد ان تكون ماهيات الأشياء مع كثرتها موجودة بوجود واحد، والحق يعقلها بعقل واحد هو كون وجوده نفس عاقليته، فهذا الوجود هو بعينه علم بالأشياء التي هي عين ذاته.
كما تم تقرير أن الإدراك يساوق الوجود، فحيث هناك وجود هناك إدراك، والعكس صحيح. لكن حيث ان للوجود مراتب مختلفة ومتفاضلة؛ لذا كان للإدراك مراتب مختلفة ومتفاضلة أيضاً. فالإدراك منبسط بانبساط الوجود، حيث الوجود إدراك، والإدراك وجود. وان هذه العملية الإدراكية من الوجود هي السبب في تنزيل المراتب، وهي السبب في التفاضل بينها، فالتنزيل هو تنزيل إدراكي. ويتخذ التنزيل مراتب هرمية محددة، فيبدأ من الأكمل فالأكمل طبقاً لقاعدة (الإمكان الأشرف)، سواء كان ذلك لدى الفلاسفة أم العرفاء. ولدى الفلاسفة فإن التنزيل يتوقف على ما تحدده قاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد). وكل ذلك قائم من حيث التحليل على مبدأ السنخية.
وإن عملية الخلق والتكوين لدى هذه الرؤية (الوجودية) ليست منفصلة ومستقلة عن العشق والتشبه تبعاً لهذا المبدأ. ولدى العرفاء انه لولا الحب والعشق ما تكوّن شيء من الأشياء. فالحب هو علة التكوين، وانه سار في كل شيء من الوجود، وان تكوين الأشياء وحركتها قد فسرت لدى الفلاسفة على نحوين، أحدهما تبعاً لدور العلة الفاعلة التي يتبعها المعلول، والآخر بأنها نتاج تشبه المعلول للعلة وشوقه وإدراكه لها.