يحيى محمد
تتشكل المعرفة الموضوعية من ثلاثة عناصر متفاعلة، أحدها القبليات المعرفية، وثانيها الادراك الاستنطاقي، وثالثها الشيء في ذاته. وتتم عملية انتاج المعرفة (كشيء لذاتنا) من خلال التأثير المشترك لكل من القبليات والشيء في ذاته عبر آلية الادراك. فما يحصل هو ان تعمل القبليات على تصوير (ما في ذاته) ليتشكل (ما لذاتنا).
وللقبليات أقسام تراكبية؛ بعضها قائم على البعض الآخر، وهي تنقسم من حيث البدء - منطقياً - إلى صورية وتصديقية، وتتفرع الأخيرة إلى قبليات منضبطة وأخرى غير منضبطة، وتنقسم المنضبطة إلى أصناف ثانوية لإعتبارات مختلفة، مثل ان تنشأ عنها قبليات محايدة وأخرى غير محايدة، وعن الأخيرة قبليات مشتركة وخاصة..
1ـ القبليات الصورية: حدسية وجهازية
للقبليات الصورية شكلان: أحدهما يعبّر عن الحساسية الصورية كما تتمثل في قالبي الزمان والمكان، إذ لا يمكن إدراك الحوادث الخارجية بلا زمان ومكان. وبالتالي فهما من القبليات الصورية، لأن أي تصور للحوادث لا يتم إلا من خلال تضمنهما، كالذي تحدّث عنه الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت، كذلك صورة الواقع المجمل، فنحن ندرك هذا الوجود سلفاً، بما يتضمن الأشياء مجملاً، دون أن نستمده من الواقع الامبيريقي. فالإحساس به قالب من قوالب التركيب الذهني، وحدس حسي محض يهيء لنا حدوس الأشياء المفصلة، وسجن ذاتي نتقوقع فيه مادام الوعي فينا سارياً.
أما الشكل الثاني فيعبّر عن الإطار العام لجهاز الحس الصوري الذي يتم به تشكيل الصور المدركة بهيئة معينة دون أخرى، سواء تمّ تشكيل هذه الصور ابتداءً عبر المعطيات الحسية المتفرقة، أو بعد تجميعها وتشكيلها وفق صورة شخصية واحدة.
إن في الرؤية الحسية المباشرة يحصل ما نسميه (الحدس الصوري)، وهو قبلي وبعدي، كحدس الوجود والواقع الموضوعي العام والمكان والزمان، ومثل ذلك صور الحس الخارجي. فهذه الرؤية تفرض نفسها علينا من دون تفكير، فهي تعبّر عن اتحاد مباشر بين الذات والوجود من دون حجاب، أو هي رؤية مرآتية متحدة، فالواقع الموضوعي مثلاً مشهود لدينا في مرآة المكان الثلاثية الأبعاد. لذلك تشكل هذه الرؤية المرآتية المتحدة حدساً صورياً في قبال ما نسميه (الحدس التصديقي) الناشئ ذاتياَ وتلقائياً بعد الملاحظة أو التفكير، كحدس الرياضيات ومبدأ السببية العامة وغيرهما من الحدوس التي قد تكون قبلية أو بعدية كما في الحدوس العلمية.
على أن القضية المعرفية الواحدة تنطوي على جانبين متحدين ومختلفين، فالأول منهما معرفي بحت (إبستيمي)، أما الآخر فهو موضوعي إذ يتوقف على طبيعة الموضوع المدرك. فكل قضية معرفية يتداخل فيها هذان الجانبان، أحدهما يعبّر عن المفهوم المعرفي الإبستيمي الصرف، وهو مفهوم منطوٍ على ذاته ومعلّق لا يشير - في حد ذاته - إلى شيء ما، فيما يشير الآخر إلى الموضوع المدرك تبعاً للإعتقاد بأن لهذه المعرفة نوعاً من المصداقية دون أوهام أو أضغاث أحلام، فهذه المعرفة متجهة لا يرد فيها التوقف والتعليق، حتى وإن تبين فيما بعد أنها خاطئة كاذبة.
ويمثل الجانب الأول الرؤية المباشرة الحضورية لماهية الشيء المقصود فعلاً وجهاً لوجه، أو هو الظاهرة الفينومينولوجية المعلقة بين هلالين كما يعبر عنها الفيلسوف الالماني هوسرل، أو يمثل عين العيان الذوقي كما يعبر عنه العرفاء.
فمن هذه الرؤية المرآتية المباشرة للشيء تبدأ المعرفة والكشف من دون توقف على شيء آخر سوى جهاز الحس الصوري، وهو الجهاز الذي يلتقط الصور وفق خبراتنا الماضية، أي انه يتقبل الصور المتوقعة دون غيرها، فتكون رؤيته للعالم تأويلية.
ومع ان المعرفة الصورية لا تمثل قضايا معينة، إلا انها أساس تكوين القضايا، أو ان عليها تنبني هذه القضايا بالتحول من الحالة الصورية إلى حالة الحكم والتصديق، فتفقد بذلك عيانيتها ومباشرتها لما تتعلق به من حضور ورؤية مباشرة. فهناك جسر للتحول من الرؤية المرآتية المباشرة إلى التصديق، وهو الجسر الذي أطلقنا عليه في إحدى الدراسات (السببية الإعتقادية).
2ـ القبليات التصديقية: منضبطة وغير منضبطة
تعتمد القبليات التصديقية على الصور والمعاني التي تجهزها القبليات الأولى (الصورية). وهي تنقسم إلى قسمين: منضبطة وغير منضبطة. ونقصد بالاخيرة انها قبليات ذاتوية (نفسية) لِما تتأثر به الذات بمختلف التأثيرات التكوينية والمكتسبة، أي تلك الناتجة عن العوامل النفسية والفسلجية والجينية والبيئية. فأغلب المعارف البشرية، ومنها الدينية، ليست محصنة من هذه التأثيرات. فبفعلها تتكون الميول النفسية وتمتزج مع القضايا المعرفية بغض النظر عن طبيعتها العلمية. وهذا الامتزاج أو الاتحاد يخفي - عادة - مظاهر تلك التأثيرات على المعرفة. وهي تتشكل وفق الصيرورة المعرفية ولا تستند الى قواعد محددة.
أما القبليات المنضبطة فتمثل الاساس الذي تُبنى عليه المعرفة بشتى اصنافها، وهو ما يجعلها تتميز عن غير المنضبطة. وتنقسم إلى منطقية محايدة، ومضمونية (غير محايدة). وتعبّر الأولى عن جهاز مركب للإدراك بعضه موظف للكشف عن العالم الخارجي من دون تحديد مسبق، إذ تتصف الممارسة الكشفية بالمنطقية والحياد بإعتبارها آليات، كما هو الحال مع مبدأ الإستقراء وإعتباراته الإحتمالية، فهو معيار كاشف عن الأشياء بلا تحديد سابق، لهذا يعد من المبادئ المنطقية لعدم تضمنه مادة الكشف. في حين تتصف القبليات المضمونية بكونها قضايا تحمل مضامين خاصة دون حياد، وهي تنقسم إلى ما هو مشترك بين الناس كافة مثل مبدأ السببية العامة، وما يخص طوائف منهم مثل القبليات المنظومية، وهي عين ما يسلّم به الباحث بنظام ما أو منهج ما من النُظم والمناهج الفكرية سلفاً. وثمة تقسيمات اخرى للقبليات المنضبطة اشرنا اليها في (علم الطريقة).
أخيراً يمكن تحديد القاعدة العامة التي تعمل على تمييز المعرفة العلمية الدقيقة عن غيرها استناداً الى تأثير تلك القبليات، فـ «كلما كان تأثير القبليات غير المنضبطة كبيراً؛ أصبحت المعرفة غير علمية بالقدر الذي تؤثر فيه هذه القبليات، والعكس بالعكس. كذلك كلما كان تأثير القبليات المشتركة كبيراً كلما ازدادت المعرفة دقة، وعلى العكس؛ كلما ضعف تأثير هذه القبليات كلما تقلصت دقة هذه المعرفة».
***
وينطبق ما سبق طرحه على الفهم الديني، وسنكتفي بتبيان قبلياته الصورية والتصديقية من دون تفاصيل فرعية، حيث يتعامل الذهن مع معنى النص بعنوانين؛ أحدهما «تصور المعنى» والآخر «حكم المعنى»، ولكل منهما قبلياته، كالذي يجري مع أصناف المعرفة الاخرى.
اذ تعمل القبليات الصورية للنص على اظهار المعنى في الذهن على شاكلة ما يحدث في حالة إدراك الأشياء الخارجية، ونسميه بالظهور المعنوي للنص، وهو ظهور ذاتي غير متوقف على الإرادة التصورية للذهن، وإن كان بامكان هذه الإرادة ان تدرّب نفسها لإحضار معاني صورية جديدة كالذي يحصل في حالة إدراك الواقع والتدرب على رؤيته رؤية جديدة مختلفة. في حين إن وظيفة القبليات التصديقية هي الحكم الذي من أبرز مصاديقه الفهم والقراءة، إذ تعتمد على ما يتحقق من الظهور المعنوي للنص. ويمتاز الحكم في هذه الوظيفة بأنه متوقف على الإرادة التصورية للذهن خلافاً لما يجري في ذلك الظهور.
ومن حيث الآلية يتوقف الظهور المعنوي للنص (ن ع) على كل من القبليات الصورية (ق ص) والنص المجهول (ن)، أي كما هو في ذاته. وبحسب التعبير الرياضي فان:
القبليات الصورية + النص المجهول ← الظهور المعنوي
ق ص + ن ← ن ع
أما الفهم (ف) أو القراءة فإنه يعتمد على هذه النتيجة المتمثلة بالظهور المعنوي للنص (ن ع) مضافاً إلى القبليات التصديقية والتي نرمز لها بـ (ق ت). وبحسب التعبير الرياضي المجمل فان:
القبليات التصديقية + الظهور المعنوي ← الفهم
ق ت + ن ع ← ف
لكن الفهم (ف) أو القراءة هو إما إشارة (ش) أو إيضاح للإشارة (ض)، لذا فبحسب التعبير الرياضي فإن الإشارة تتحدد كالتالي:
قبليات الإشارة + الظهور المعنوي ← الإشارة
ق ت ش + ن ع ← ش
أما الإيضاح (ض) فإنه يزيد على علاقة الإشارة السابقة بقبليات جديدة هي القبليات الإيضاحية أو التفسيرية، وبالتالي فالعلاقة الإيضاحية تكون كما يلي:
قبليات الإشارة + قبليات الإيضاح + الظهور المعنوي ← الإيضاح
ق ت ش + ق ت ض + ن ع ← ض
وإذا كان هناك نوع من الاندماج أو الاتحاد بين الإشارة والإيضاح كما يحصل احياناً؛ فإن قبلياتهما تكون غير متمايزة، الأمر الذي تنطبق عليه العلاقة الرياضية التالية:
2(القبليات التصديقية)+ الظهور المعنوي ← الإيضاح
2ق ت + ن ع ← ض