يحيى محمد
طبقاً لمسلك الفهم المجمل تكون دائرة المبين في الدين دائرة ضيقة جداً. لكن في قبالها تصبح دائرة الاجتهاد بحسب مبادئ الفهم الديني (من الواقع والوجدان العقلي والمقاصد) دائرة واسعة بلا حدود. لكن بقدر ما تُضيّق دائرة الدين بقدر ما يُضمن الصواب، والعكس بالعكس. ويكفي ذلك من الفائدة ما لا تُقدّر بثمن.
ومن حيث الأساس يمتاز الاجتهاد لدى مسلك الفهم المجمل بانه اجتهاد في الواقع المفتوح لا النص، خلافاً للاجتهاد القائم على مسلك الفهم المفصل، حيث انه اجتهاد في النص لا الواقع. ومعلوم ان النتائج التي تسفر عن الاخير ليست مجرد نتائج معرفية فحسب، بل تلتبس بالثوب المقدس رغم أنها لا تتعدى دائرة الظن والإحتمال في الغالب. في حين إن ما يترتب على الإجتهاد لدى مسلك الفهم المجمل يخلو من مثل هذا الثوب؛ لكونه يعتمد في التفصيل على الواقع لا النص، وبالتالي فهو أكثر تواضعاً من الإجتهاد القائم على مسلك الفهم المفصل.
ولإبراز مظاهر الاختلاف بين الاجتهادين؛ نشير إلى ما يلي:
1ـ إن الاجتهاد الواقعي أوسع قدرة في التعامل مع قضايا الواقع وحقائقه المتغيرة، مع احتفاظه بالمكانة التي عليها النص ومجملاته المبينة، خلافاً للاجتهاد النصي الذي لا يمتلك قدرة واسعة على التعامل مع قضايا الواقع باتساق، لكثرة اصطدامه بالواقع، وتراجعه بعد كل صِدام.
2ـ إن البحث وفقاً للاجتهاد الواقعي يتخذ صورة التزاوج بين المجمل النصي والمفصل الواقعي، إذ يقوم هذا الأخير بفتح المجملات المغلقة في النص، خلافاً لما تقوم به إطروحة الاجتهاد النصي من البحث في نفس سياق النص اجمالاً وتفصيلاً.
3ـ إن الاجتهاد النصي هو مفصل متشابه ترد فيه الإحتمالات التي لا ترقى إلى القطع أو الإطمئنان. في حين ليس بممتنع على الاجتهاد الواقعي بلوغ درجة القطع أو الإطمئنان.
4ـ طبقاً للاجتهاد الواقعي فإن ما يتم التوصل إليه من نتائج؛ لا يصح أن نعزوه إلى الشرع وحكم الله تعالى، لا ظاهراً ولا واقعاً، إلا عندما يكون الأمر قطعياً بحسب الوجدان العقلي دون أدنى ريب.
5ـ إذا كانت المساند التراثية تؤكد لنا بأن فهم النص لا يسعه بحال ان يغطي مجالات الواقع المفتوح، فلا غنى في القبال عن ممارسة الإجتهاد الواقعي مع هدي المقاصد.
6ـ غالباً ما يكون الإجتهاد الواقعي أقوى ترجيحاً من الإجتهاد النصي إن لم يفضِ إلى القطع. فبالخبرة والتجربة ومرور الزمن يكون أكثر قابلية على الإقتراب من الحقيقة، خلافاً لما عليه الإجتهاد النصي، لإعتبارين مهمين كما يلي:
أولاً: إن العملية المعرفية في حالة ظنون الإجتهاد الواقعي تمر عادة بطرق قريبة وقصيرة للكشف عن الحقيقة، إذ يسهل عليها مراجعة قضايا البحث طبقاً لما تعتمده من مولدات قائمة على خبرة الواقع وهدي الموجهات العامة للنص. في حين تتأسس العملية المعرفية في حالة الظنون النصية البيانية على سلسلة طويلة ومعقدة من الطرق الاستدلالية؛ بما تتضمن من مدارات إحتمالية متشعبة، الأمر الذي يجعلها أقلّ قوة وجاذبية مقارنة بما تتصف به الظنون الخبروية للواقع.
فمثلاً حينما يتأسس الحكم الظني طبقاً للعملية البيانية؛ فإن على الفقيه ان يراعي جملة أمور لتفضي قضيته إلى المطلوب. فحيث ان مادته الرئيسة مستمدة من نصوص الحديث؛ فسيواجه تردداً في سلامة نقل الخبر كما هو، وتردداً آخر في مضمونه ومعناه، وكذا في علاقته بغيره من النصوص؛ إن كانت علاقة نسخ أو تخصيص وتقييد أو غير ذلك من مشاكل متراكبة عديدة تتجمع على محور إضعاف القيمة المعرفية. إذ يصبح الظن الناتج في الحصيلة النهائية عبارة عن ضرب مجموعة كبيرة من الظنون والإحتمالات الواردة، مع أنه كلما ازداد عدد أطراف الضرب في المحتملات كلما زاد ضعف النتيجة. ولا شك ان هذه الحصيلة لا تحدث - عادة - لدى الظنون الخبروية العقلائية، باعتبارها لا تمر بذلك الكم من التفريعات الإحتمالية التي يتوقف بعضها على البعض الآخر، فكثيراً ما يجري التعامل مع قضايا الواقع ضمن دلالات وبينات قابلة لمنح المزيد من الوضوح؛ طالما أنه يمكن النظر في هذه الدلالات والبينات بالتفصيل وبشكل مباشر أو شبه مباشر.
ثانياً: إن للواقع معلمين استكشافيين، في حين ليس للنص سوى معلم استكشافي واحد تتم فيه المراجعة والبحث. كما إن هناك مجالين يتم التأثير عليهما بحسب الاستكشاف الاول، في حين ليس للثاني سوى مجال واحد يمكن التأثير عليه. وتوضيح ذلك كالتالي:
لما كان النص ثابتاً ومحدوداً؛ فكل ما يرجى منه هو استكشاف الدلالات التي يتضمنها دون انتظار المزيد، حيث لا يوجد غيره. كذلك لما كانت دلالات النص المتعلقة بالكشف عن الواقع تتصف غالباً بالإشارات المجملة؛ لذا فإن أي مراجعة له لا تكشف عما هو جديد في الواقع عادة. وبالتالي فإن هناك معلماً استكشافياً واحداً لدى النص، كما إن المراجعة الاستكشافية البيانية لا يتعدى تأثيرها المعرفي - عادة - حدود النص ذاته. في حين إن للواقع معلمين استكشافيين، أحدهما يتعلق بالدلالات المعطاة للحوادث الناجزة أو الحاضرة أمامنا، والآخر ما يضاف إلى ذلك من دلالات استشرافية ضمن أفق الإنتظار الخاصة بالحوادث المستقبلية الجديدة، أو التاريخية التي لم يتم استكشافها بعد.
واذا ما قارنّا بين حروف النص وحوادث الواقع؛ سنلاحظ ان الأولى تتصف بالحصر والحضور الكامل، وبالتالي فانها قابلة للاستثمار المعرفي دفعة واحدة، كما إن مراجعتها لا تتعدى سوى النظر فيها دون انتظار إضافة حرفية جديدة. في حين إن حوادث الواقع ليست محصورة أمامنا بكاملها، فبعضها أصبح في عداد المعدوم وما زلنا نجهله ونطلب معرفته بصورة غير مباشرة، والبعض الآخر ننتظر قدومه، وبالتالي فإن الاستثمار المعرفي - في هذه الحالة - هو استثمار مضاعف مقارنة بما يحصل في حالة النص، وان المراجعة في حوادث الواقع تجري تارة باعادة النظر فيما سبق دراسته من غير إضافة معتمدة، واخرى فيما نستكشفه من عوالم تاريخية ومستقبلية تجعل مراجعتنا مستمرة ومؤثرة في أكثر من مجال، فهي تعمل على تغيير رؤانا فيما تم رصده من الواقع، كما إن لها تأثيراً على تغيير افكارنا المستنبطة من النص، بل وتغيير طريقة تعاملنا المعرفي معه.
هكذا يتضح ان لظنون الإجتهاد الواقعي وثوقاً وقابلية للمراجعة والفحص هي أعظم وأوسع من تلك العائدة إلى ظنون الإجتهاد النصي.