يحيى محمد
مثلما قدّمنا تاطيراً منهجياً لتراثنا المعرفي؛ أضفنا تأطيراً آخر لعلوم الطبيعة فعزوناها في (منهج العلم والفهم الديني) الى ثلاثة نُظم مختلفة، هي النظام الاجرائي والافتراضي والتخميني الميتافيزيائي.
فالنظام الاجرائي يعتمد على التجربة والإستقراء من دون افتراضات معلقة وميتافيزيقية. فهو يعمل على استخلاص النتائج التي تدل عليها المشاهدات والتجارب ومن ثم انتزاعها وتجريدها وبالتالي تعميمها ضمن قوانين عامة، وبعد ذلك يتم إختبارها ليعرف مدى صدقها وكفاءتها. وقد تتخذ هذه القوانين صيغة رياضية محددة، والمثال النموذجي لهذا النظام نظرية نيوتن كما تتمثل في قانون الجاذبية الرياضي.
وهو بذلك يخالف ما لجأ إليه النظام الثاني الإفتراضي في تعويله على الإفتراضات والتجارب الخيالية، بل والصيغ الرياضية المفترضة. وقد برز هذا التوجه بداية القرن العشرين كما يظهر لدى نظرية النسبية وميكانيكا الكوانتم، وما زال قائماً حتى يومنا هذا.
مع هذا فان النظام الثاني لم يأت ليطيح بالأول، فقد نجد فيه بقايا ما للأول أحياناً، حتى ان نظرية النسبية لأينشتاين قامت على فرضية الجاذبية لنيوتن وان فسرتها تفسيراً مختلفاً، كما أنها استندت إلى بعض فروضات هذه النظرية لا سيما ما يتعلق بمبدأ العطالة (القصور الذاتي) أو القانون الأول للجاذبية ضمن ما يعرف بالنظرية النسبية الخاصة. وبالتالي يظهر أحياناً ان هناك شيئاً من التداخل بين النظامين، وهو ان النظام الأول لا يخلو من تضمنه لبعض الفروض التي يتأسس عليها الطابع الإستنباطي، كالقانون الأول لنيوتن، ولو من غير إدراك له، إذ كان نيوتن يصف إستنتاجاته بأنها إستقرائية بحتة من غير فروض. لكن تظل هذه الفروض ضيقة لا تقارن بالطلاقة التي صنعها النظام الثاني، اذ يمتاز هذا الاخير بعنصر الإفتراضات الحدسية والخيال والتأويلات الرياضية المفتوحة والبعيدة عن التجارب المباشرة. وهو يعتمد رغم ذلك على أفق الانتظار للإرصاد والتجارب.
وللنظام الثاني منهجان متعاكسان بحسب السير المعرفي والسلوك، أحدهما قائم على الخيال، والآخر على الرياضيات، والغالب فيهما التشابك والاندماج والمزاوجة. فالأول يمتاز بالتأمل الخيالي وبقدر واسع من الحرية واطلاق العنان للخيال دون الإعتماد على منهج محدد في تكوين الفروض، مثلما يتمثل في نسبية أينشتاين. أما الآخر فهو صوري رياضي مجرد، وقد بدأ مع ماكسويل، ثم تُوّج لدى الكوانتم الموجية. وكثيراً ما يتداخل المنهجان، لكن من الناحية الإبستيمية يبدأ المنهج الخيالي بالخيال والتأمل ليصنع صورة تأويلية هرمنوطيقية حول الواقع الفيزيائي، ومن ثم يلبسها أخيراً القالب الرياضي المناسب، فيصبح الناتج هو ما سميناه المنهج (الخيالي-الرياضي). وعلى عكس ذلك المنهج الرياضي، فهو يبدأ بالبعد الصوري الرياضي لينتهي إلى صورة خيالية هرمنوطيقية، واطلقنا عليه المنهج (الرياضي-الخيالي). وبالتالي فالمنهج الأول يبدأ بمقدمات تخيلية حول الواقع الفيزيائي لينتهي إلى نتائج رياضية، في حين يقوم المنهج الثاني بشكل معاكس عادة، وهو أنه يبدأ بمقدمات رياضية لينتهي إلى نتائج خيالية، وأحياناً يحصل تشابك بين الحالين بحيث يكون التطور هو بناء متراكم من التصورات الخيالية والرياضية بعضها قائم على البعض الآخر. لكن من الناحية المبدئية نلاحظ بأن الأول يبدأ من الهرمنوطيقا لينتهي إلى الإبستمولوجيا، في حين يبدأ الثاني من الإبستمولوجيا لينتهي إلى الهرمنوطيقا. والحقيقة ان كليهما يمارسان نوعين مختلفين من الهرمنة أو التأويل.
وما زال هذا النظام قائماً رغم انه خلّف نظاماً ثالثاً أخذ ينافسه ويزاحمه، وهو النظام التخميني الميتافيزيائي، فهذا الأخير يتبنى كلا المنهجين الذي يقوم عليهما النظام الثاني، أي المنهج (الخيالي-الرياضي) والمنهج (الرياضي-الخيالي)، سوى انه أخذ يتعلق بموضوعات غير قابلة للإختبار والتحقيق، وهي أقرب إلى القضايا الفلسفية منها إلى العلمية. ويلاحظ ان عامل الإفتراض وارد في كلا النظامين الثاني والثالث، وهو ما يجعلهما غارقين في مسبح التأويل المفتوح والهرمنوطيقا خلافاً للنظام الأول.
وعموماً ان هذه النُظم لا يتقاطع بعضها مع البعض الآخر. فالنظام الثاني يضيف شيئاً جديداً لا يرد في الأول، كما إن النظام الثالث هو الآخر يضيف شيئاً جديداً غير وارد لدى الأول والثاني.