يحيى محمد
لقد قسّمنا المنظومات المعرفية الى قسمين: مفتوحة ومغلقة. فكل منظومة تتقبل المعايير الخارجية المتفق عليها كمعيار الواقع ومنطق الاحتمالات تعتبر مفتوحة، وإلا فهي مغلقة، مما يجعلها موضع جدل ونقاش لا ينتهي، لعدم القدرة على تمحيصها بنحو محايد وبعيد عن الإعتبارات المعرفية الخاصة. والحوار فيها يصبح كحوار الصم والطرشان.
لذلك يمكن في حالات معينة اجراء تحقيق غير مباشر على المنظومات المغلقة واختبارها بمنطق الاحتمالات، وهو ذات المنطق الموظف للتحقيق في المنظومات المفتوحة. لكن يشترط في ذلك أن تكون لها القابلية على التجزئة والتفكيك، بحيث يمكن تقسيمها إلى منظومتين: مفتوحة ومغلقة، فنستعين بالأولى على الثانية، بأن نكشف عن حقيقة ما تتضمنه المنظومة المفتوحة من قيم معرفية لنطبقها على المنظومة المغلقة، على شاكلة إختبار الغائب بالشاهد. وكلما كانت المنظومتان متفقتين على أصول مشتركة أو طرق استدلالية متقاربة فذلك يجعل من التحقيق أكثر دقة.
أما المنظومات التامة الإغلاق، أي تلك التي لا يتوفر فيها عنصر القابلية على التفكيك ولا يمكن اجتزاء منظومة مفتوحة منها، فسوف لا يمكن إخضاعها للتحقيق، سواء المباشر منه أو غير المباشر. لكن توجد طريقة أخرى للتعامل معها، وهي أيضاً قائمة على منطق القيم الاحتمالية.
ويمكن تقديم نموذجين على اختبار المنظومات المغلقة القابلة للتفكيك، أحدهما مقتبس من علم الرواية والحديث، والآخر من منظومة الفلسفة التقليدية.
فمثلاً روى أصحاب الصحاح في الوسط السني عن بعض المكثرين الكثير من الروايات المتعلقة بالجوانب الفقهية والعقائدية والإخبارية العلمية، ومثل ذلك فعل الكليني في الوسط الشيعي، إذ اعتمد على عدد من المكثرين من مشايخه في رواية الكثير من الأحاديث المتعلقة بتلك الجوانب. ومع ذلك فقد كان الغالب في الروايات المتعلقة بالجانب العلمي مصاباً بالاسطورة والبعد عن الحقيقة. لهذا فإن القيمة الاحتمالية لسائر الروايات المعنية بالجوانب العقائدية والفقهية ستتأثر سلباً بهذه النتيجة.
أما ما يخص المنظومة الفلسفية الوجودية، فيمكن تفكيكها إلى أربع منظومات: منطقية ورياضية وطبيعية وميتافيزيقية. وتعد الأخيرة مغلقة، إذ لا يمكن التحقيق فيها مباشرة خلافاً للمنظومات الثلاث الأخرى. وأقرب المنظومات التي تساعدنا على الكشف عنها هي منظومة العلوم الطبيعية، فهي تشترك مع المنظومة الميتافيزيقية بكونها تتحدث عن الأمور الخارجية، خلافاً للمنظومتين المتبقيتين، كما إن هناك نوعاً من الاشتراك بينهما، فأحياناً تتحدث المنظومة الطبيعية عن أمور غير محسوسة مثلما هو الحال مع المنظومة الميتافيزيقية، كما قد تتحدث عن أمور لم تكن الوسائل القديمة كفيلة بفحصها وإختبارها بدقة، وكل ذلك قد يسهّل علينا تعريضها للكشف والتحقيق، بفضل العلوم الحديثة.
هكذا فأقرب المنظومات التي تساعد على التحقيق في المنظومة الميتافيزيقية المغلقة هي المنظومة الطبيعية، لا سيما في القضايا غير المحسوسة أو تلك التي لم تتضح منها التجارب المباشرة، حيث يمكن اخضاعها لقاعدة أفق التوقع والانتظار، خصوصاً إذا ما كان الاستدلال عليها يقارب في روحه الاستدلال على القضايا الميتافيزيقية، كما هو الحال في المسائل الخاصة بالأفلاك السماوية، أو المسائل الأرضية غير الخاضعة للتجريب المباشر.
إذ تشكل القضايا الطبيعية لوازم تساعدنا على رفع درجة احتمال المنظومة الميتافيزيقية أو خفضها، وحيث نعلم مثلاً إن المنظومة الطبيعية لم تكن صادقة في أغلب ما قدمته؛ فإن ذلك سيبعث على الشك فيما يتعلق بالمنظومة الميتافيزيقية، لكن هذه الأمور تجري ضمن إعتبارات منطقية، فكلما كانت الأدلة المقدمة في القضايا الطبيعية تتقارب روحاً مع الأدلة المستخدمة في القضايا الميتافيزيقية، كلما كانت القيمة الاحتمالية أكثر دقة. كما لا بد من لحاظ ان النتائج الاحتمالية التي نحصل عليها لا تختص بفكرة ما أو أخرى، بل لها علاقة بالثقة فيما يطرح من أفكار، أي أن لها علاقة بروح التفكير ومنهجه. فهذه الروح هي التي تتعرض للإختبار ويقام عليها التقييم المعرفي. فهي الفرضية المطروحة للتحقيق غير المباشر بما يشابه الكشف عن النظريات العلمية، بإعتبارها لا تخضع للتحقيق المباشر، بل يجري التحقيق مع لوازمها القابلة للتنبؤ أو أفق التوقع والانتظار.