يحيى محمد
يمثل الأصل المولد ركيزة أساسية من ركائز الجهاز المعرفي للتفكير، ويمكن تحديده بانه قضية قابلة لتفسير أكبر عدد ممكن من القضايا العائدة إلى ذات المنظومة المعرفية، سواء من حيث التوليد أو التوجيه أو الإتساق. وكأن الأصل المولّد يستبطن سائر المعارف الأخرى، وكأنه الماهية التي تتحدد بها التفاصيل، مثلما يتحدد من إسم افلاطون كل ما نعرفه عن هذا الرجل الحكيم.
وسبق أن حددنا هذه الركائز بكل من: المصدر المعرفي، والأداة المنهجية، والأصل المولد، والانتاج، واستنطاق الموضوع أو التعرّف عليه (كعلوم الطبيعة وفهم النص مثلاً).
وتعتبر الركائز الثلاث الأولى عناصر أساسية للجهاز المعرفي، وبعضها يتوقف على البعض الآخر ويستكمل به، ولكل منها وظيفته الخاصة، وبفعل هذا الترابط يتمكّن الجهاز المعرفي من القيام بوظيفته الكلية كما تتمثل بالعنصرين الآخرين، أي التوليد والاستنطاق. فالحال هنا أشبه بما يحصل مع الأجهزة والآلات الميكانيكية، حيث تتألف من عناصر مترابطة ولكل منها وظيفته الجزئية، ومن خلال هذا الترابط يقوم الجهاز بوظيفته الكلية، كما في التلفاز والراديو والسيارة... الخ.
ففي الفهم الديني - مثلاً - لولا المصدر المعرفي ما كان للأصل المولد أن يقوم بدوره من التوليد والفهم والإنتاج، ولا كان للأداة المنهجية أن تتكفل بتحديد النهج الذي تتم فيه عملية التوليد والاستكشاف. وكذا لولا الأداة المنهجية ما كان للمصدر المعرفي أن يكون مصدراً يُعتمد عليه في الفهم والتوليد، ولا كان للأصل المولد أن يقوم بدوره كمولّد لغيره. كذلك فإنه لولا هذا المولّد ما كان للفهم والتوليد أن يتم، فلا آلية معرفية ولا مصدر للتوليد. وفي جميع الأحوال لا تخلو أي ممارسة معرفية من أن تشترك في صنعها وتركيبها تلك المرتكزات الثلاثة، سواء عبّرت هذه الممارسة عن إستكشاف جديد للمعرفة، أو قامت بعملية الاستنطاق من الفهم والتفسير، أي سواء كانت توليدية أو توجيهية.
فمثلاً في معالجتنا للتراث المعرفي نجد ان المنظومات الرئيسة التي تعاملنا معها هي كل من الفلسفة والعرفان والفقه وما شاكله من الاتجاهات البيانية، إضافة إلى المدارس الكلامية كالمعتزلة والإمامية والأشاعرة. ولكل من هذه المنظومات والدوائر المعرفية قبلياتها المتعلقة بالمصدر والأداة والأصل المولد. فالدائرة الفلسفية تعتمد على العقل الوجودي كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى السنخية كأصل مولد. والدائرة العرفانية تعتمد على القلب الوجودي كمصدر، وعلى الكشف الذوقي كأداة، وعلى السنخية كمولد. أما الدائرة البيانية فتعتمد على النص الديني كمصدر، وعلى اللغة كأداة، وعلى الفهم العرفي كمولد. في حين ان المعتزلة والإمامية يعتمدان على العقل المعياري كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى منطق الحق الذاتي كمولد. كذلك ان الأشاعرة تعتمد على العقل المعياري كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى منطق حق الملكية كمولد.
ويمثل الأصل المولّد أهم هذه الركائز، فهو مرجع معرفي يُستند إليه في كل من التوليد المعرفي واستنطاق الموضوع؛ كالفهم الديني مثلاً.
وقد يكون الأصل المولد هرمياً، حيث يتربع على قمة هرم المنظومة المعرفية، كما هو حال منظومة الفلسفة والعرفان. كما قد يكون قاعدياً أفقياً، حيث يدخل في المساحة العريضة للمنظومة المعرفية، كما هو حال الدائرة البيانية للفكر المعياري.
إذاً فالأصل المولّد هو بمثابة البداية المنطقية لسائر المعارف، مقارنة بالبداية التاريخية وما ينشأ عنها من تطورات. واذا كان تحديد البداية الأخيرة يجري طبقاً للبحث البراني، فإن البداية الأولى المنطقية انما يحددها البحث الجواني. فما يجري من بحث على المنوال التاريخي في الأصول والبدايات هو غير ما يجري من بحث على المنوال المنطقي، وأن منطق كل علم لا يسعه أن يتقدم زماناً على تاريخ هذا العلم. فمنطق كل علم يأتي بعد مراحل تقدم الأخير، وبالتالي فإن البداية التاريخية هي ليست ذات البداية المنطقية للعلم.
وبلغة متعالية فإن كل علم هو الذي يحدد شروط ما سيأتي من منطق. والعكس صحيح أيضاً، وهو أن كل منطق يحدد بدوره شروط ما يُعتمَد عليه من علم، خاصة فيما يتعلق بالأصل المولد كشرط منطقي لقيام العلم، لا سيما وانه يمثل الآصرة التي تربط الرؤية بالأداة.