يحيى محمد
ما زال الشر يمثل لدى الكثيرين صخرة الإلحاد التي تتحطم عليها رؤوس الإيمان. ويقابلهم في ذلك المؤمنون حيث يعتبرون النظام الكوني الدقيق صخرة تتحطم عليها رؤوس الإلحاد. وحقيقة ان كلاً منهما يواجه شبهة كبيرة يعجز عن تفسيرها. فالمؤمن يواجه معضلة الشر من دون جواب مقنع، فيما يواجه الملحد معضلة النظام الكوني والحيوي الدقيق من دون جواب مقنع هو الآخر. والنتائج المترتبة على كل منهما متعارضة، حيث ان المؤمن يرى ان من السهل الاقتناع بوجود الإله بفضل النظام الدقيق في الكون والحياة، فيما يرى الملحد ان ظاهرة الشر لا تدع مجالاً للاعتقاد بوجود مثل هذا الإله.
لكن من خلال معضلة الشر يمكن صياغة حجة منطقية لصالح الايمان لا الالحاد، وفق قياس الخلف كالتالي:
1ـ ليس في الوجود إله قط..
2ـ الفوضى هي السائدة دون النظام..
3ـ من لوازم الفوضى سيادة الشر في الحياة..
هذا هو الدليل المنطقي لنفي وجود الإله من خلال ظاهرة الشر. لكن من حيث الواقع فإن الشر والفوضى ليسا سائدين. وهو ما يعني نسف المقدمات السابقة، أو جعلها تنقلب إلى أضدادها وفق قياس الخلف، ومن ثم فالإله موجود.
مع هذا فمعضلة الشر حقيقية، وعادة ما تستغل في نفي العناية الوجودية تماماً، لا سيما فيما يتعلق بالشر الصادم. لكن ترد من حيث المبدأ أربعة افتراضات مختلفة حول أهمية هذا الشر وعلاقته بالنظام الحياتي والانساني لدى المؤمن، وذلك كالتالي:
1ـ ليس للشر الصادم أي ارتباط لزومي ضمن علاقات النظام الحياتي والانساني.
2ـ للشر الصادم الشخصي فضلاً عن النوعي أهمية لا غنى عنها وفق عناية هذا النظام.
3ـ للشر الصادم النوعي بالخصوص أهمية ضمن عناية النظام المشار اليه.
4ـ إن الشر الصادم هو من مقتضيات الارتباط الحياتي والانساني وفق علاقات السببية الضرورية دون ان يشكل في حد ذاته شيئاً من عناية النظام الحياتي. وهو بهذا المعنى يصبح شراً لا بد منه، باعتبار ان ازالته تعني تغيير النظام الحياتي الى تشكيلة أخرى مختلفة.
هذه أربعة افتراضات نطرحها لمعالجة الشر الصادم. وقد اعتبرنا التنافس الحقيقي انما هو بين الافتراضين الثالث والرابع. فالافتراض الرابع هو الحد الأدنى للقبول، حيث الاكتفاء بأن ما يحصل من شر صادم هو من اللوازم الحتمية الناتجة عن علاقات السببية وتداخلاتها من دون أن يكون لها فائدة قوية في حد ذاتها. في حين ان الافتراض الثالث يقتضي الرابع من دون عكس، لذا يحتاج الى مزيد من الدليل. فوفقاً له ان للشر المروع عناية تخصه من الناحية النوعية، مثل العناية التي تخص بعض حالات هذا الصنف من الشر الشخصي، رغم أننا لا ندرك هذه العناية لحد الآن، وقد يأتي اليوم الذي تتجلى فيه هذه الفرضية، مثل معرفتنا للكثير من الوظائف الحيوية التي كنّا في يوم من الأيام نحسبها عديمة الفائدة والغرض، كما في الزائدة الدودية والعصعص والجينات الخردة وما اليها.
وفي معضلة الشر عادة ما يرد الاشكال المتردد حول قدرة الإله وخيريته، فهو إما ان يكون عاجزاً عن ان يفعل شيئاً ازاء الشرور التي لا فائدة فيها، أو انه ليس بخيّر، أو على الأقل انه ليس بعالِم بما يجري في خلقه.
لكن ما نلاحظه هو أن معضلة الشر لم تُعالج كقضية لها علاقة تحليلية بافتراضات كيفية ما جرى من خلق من حيث المبدأ. وبالتالي يمكن تحديد الافتراضات الممكنة بهذا الصدد كالتالي:
1ـ أن يعود مصدر الخلق إلى منفعل من دون وجود فاعل مستقل.
2ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل تام من دون وجود منفعل مستقل.
3ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل قاصر رغم عدم وجود منفعل مستقل.
4ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل قاصر مع وجود منفعل مستقل.
5ـ أن يعود مصدر الخلق إلى فاعل تام مع قصور في المنفعل المستقل.
هذه خمسة افتراضات رجّحنا منها الافتراض الاخير، حيث اعتبرنا مصدر القصور عائداً الى المادة المستقلة، وبسببها جرى الخلق المتطور المقتضي للشر. أي اننا نعترف بوجود شيء منفصل أو مادة أصلية مستقلة هي ما جرى عليها الخلق، لكن قابليتها محدودة، فرغم كمال الصفات الإلهية من العلم والقدرة والخيرية؛ فإن ما تمخض عن صنعه كان متأثراً بوجود هذا القيد من المادة القاصرة. فالثغرة الواردة في الشر لا تعود إلى نقص في الصفات الإلهية، بل إلى عجز المادة الأصلية التي تم صنع الخلق منها.
ونقصد بهذه المادة انها ابسط مشترك وجودي في الكون وان لم يكتشف علمياً بعد. فعلى ضوء هذه النظرية ان بالامكان تفسير علة وجود الشر، ومثل ذلك علة تطور العالم واستحالة ان يتحقق الخلق دفعة واحدة. فكل ذلك يعود إلى طبيعة المادة الأصلية التي يُجرى عليها التخليق والتطوير ضمن حدود ما تسمح به. فرغم ان قدرة الخالق وإرادته حقيقية، لكنها لا تتعدى طبيعة المادة التي تتشكل منها مظاهر الكون والحياة والتطور. فهناك استحالة ذاتية لكل ما يتجاوز طبيعة هذه المادة، مثلما هناك استحالة ذاتية تتعلق بخلقها من العدم المحض.
ولسنا نتحدث – هنا - عن أزلية حدوث العالم أو ابتدائه، وانما نتحدث عن المادة الأصلية فحسب، فخلق هذه المادة أو عدم خلقها لا يمنع كلا الفرضين السابقين. إذ بضرب الفروض مع بعضها ينتج لدينا أربعة لا غير، وكل واحد منها قائم في حد ذاته بغض النظر عن ترجيح بعضها على حساب البعض الاخر. فالترجيح لا يمنع الفرض.. وهي كالتالي:
1ـ المادة الأصلية مخلوقة مع أزلية الحدوث.
2ـ المادة الأصلية مخلوقة مع ابتداء الحدوث.
3ـ المادة الأصلية غير مخلوقة مع أزلية الحدوث.
4ـ المادة الأصلية غير مخلوقة مع ابتداء الحدوث.
ونظرة دقيقة لهذه الفروض تجعلنا ندرك بأن الثلاثة الاولى منها معقولة بغض النظر عن مدى ترجيحنا القبلي لبعضها على البعض الآخر. ويبقى الفرض الأخير، فقد يوحي بأنه غير متسق، فهو يعني ان المادة موجودة ومعطلة إلى حين ابتداء خلق العالم. لكن هذا الحال يصدق على مجمل خلقه ابتداء، فهو يعني التعطيل الإلهي إلى حين بدء هذا الخلق؛ بغض النظر ان كانت المادة مخلوقة أو مستقلة غير مخلوقة، طالما افترضنا وجود القدرة التامة على ايجاد العالم.
وكما قلنا يترتب على قضية المادة الأصلية الخلاف المتعلق حول طبيعة القوانين الكونية والتطور ومشكلة الشر الوجودي. فلو كانت المادة غير مخلوقة لكان كل ما ذكرناه من طبيعة الخلق والتطور ومشكلة الشر؛ لا علاقة له بالقدرة الإلهية بقدر ما له علاقة بامكانات المادة الأصلية غير المخلوقة، ولكان حال الاستحالة في تجاوز امكانات هذه المادة كحال الاستحالة المنطقية، وهي انها ليست نابعة عن عجز القدرة الإلهية، بل متعلقة بقصور المادة وضعف امكاناتها.
فالتطور الكوني وطبيعة القوانين ومشكلة الشر كلها مناطة بالمادة المشتركة. فلو ان هذه المادة مخلوقة لما كانت هناك استحالة تتعلق بالخلق دفعة واحدة من دون تدرج وتطور، ومثل ذلك فإنه لا توجد هناك استحالة تتعلق بازالة الشر ابتداءاً. بل على هذا الافتراض تصبح القوانين الطبيعية معتمدة كلياً على الإرادة الإلهية المطلقة كما يراهن على ذلك المتكلمون من أمثال الأشاعرة وغيرهم.
ولهذه العلة لا يمكن ان يتحقق ما افترضه الخيّام كما نسب اليه قوله: ‹‹لو كانت لي سلطة على الكون مثل الله لأفنيت هذا الكون من جذوره ولخلقت كوناً جديداً يصل فيه كل شيء وبحرية تامة إلى مرامه››.
أما لو كانت المادة غير مخلوقة، فسيعني ذلك انها الشيء الذي يجري عليه الخلق والتكوين ضمن الحد الذي تسمح به طبيعتها، ومن ذلك ما تسمح به بعض قوانينها الطبيعية في الشرط المادي للتغير السببي. كذلك كان لا بد من التدرج والتطور، ويصبح وجود الشر ضرورياَ خلال هذه العملية رغم عرضيته القابلة للزوال عند الاكتمال الوجودي. فالشر مرتهن بعملية التطور الموجهة، مثلما ان زواله خاضع لها حتى التكامل. وتشهد على ذلك التطورات غير المنقطعة للواقع الكوني والحياتي والعقلي، بل والاجتماعي ايضاً، فنحن البشر نخضع – بقدراتنا وإراداتنا - ضمن المشيئة الإلهية للتطور الخلاق باتجاه الاصلح.
ورغم ان الناحية العقلية لا تساعدنا على ترجيح كفة خلق المادة الأصلية أو عدم خلقها، لكن لو افترضنا بأن المادة الأصلية مخلوقة بالفعل، فحينها سوف يصعب تفسير لماذا تتخذ قوانين الطبيعة شكلاً محدداً للوصول إلى غاياتها من دون تغيير؟ ولو قيل بأن هذه الحالة هي الأفضل والاصلح من بين الطرق الممكنة للوصول إلى الغايات الطبيعية، لأجبنا إنه من الناحية العقلية الصرفة، إن تحقيق الغايات عبر الوسائل الموضوعة يفضي إلى الكثير من الآلام والنكبات والعذاب والاضرار، وكان من الممكن عقلياً تجنب هذه المترتبات السلبية عبر ابدال القوانين بقوانين أخرى، أو الوصول إلى الغايات من دون وسائط طبيعية.
وما نذهب اليه يخالف اعتقاد منطق الاشاعرة في نفي حكمة الله ومراعاته لخلقه، كما يخالف قول نظام الفلسفة والعرفان في جعل الإرادة والقدرة الإلهية مجازيتين. وبالتالي جاء الخيار الثالث جامعاً لأمرين لا يجتمعان لدى غيره، وهما عدم خلق المادة الأصلية، والقدرة الإلهية الشاملة.
هكذا فالاعتراض الذي يرد على الدوام: لماذا لا يمنع الله الشر؟ وما فائدة وجوده ان لم تكن له قدرة على دفعه كلياً؟ يمكن الإجابة عليه وفق تصوراتنا حول قصور المادة الأصلية. ومعلوم انه من الناحية الفيزيائية قد يعتبر العالم أفضل العوالم لثرائه ونظامه الدقيق.. لكن أصل الاشكال يمكن الجواب عليه وفق ما سبق عرضه، وهو ان زوال الشر يأتي على التدريج وفق قوانين التطور الكوني والحياتي والعقلي، ولا محيص من ذلك استناداً إلى طبيعة المادة الأصلية المشتركة التي يُجرى عليها الخلق والتصنيع والابداع.