يحيى محمد
سبق أن قدّمنا مبررات عديدة تدعم فكرة ان يأتي كائن أعظم من البشر بامتلاكه بعض الخصائص المميزة. فبالاضافة الى التطور العقلي الخاص بالذكاء يرد التطور القيمي والروحي. وتتقوم هذه الفكرة بفرضيتين. اذ تقرر الاولى ان التطور سيشهد ولادة كائن جديد، وقد يؤرخ له البشر لأول مرة في تاريخ الحياة، فالانسان هو الكائن الوحيد من بين المخلوقات يمكنه شهادة اي تطور جديد ما لم يتعرض للانقراض. اما الثانية فتختص بمواصفات هذا الكائن على نحو الاجمال، وتمتلك بعض المبررات التي تجعل التطور الجديد حاملاً لمواصفات تفوقية في عدد من المزايا.
ومن الناحية العلمية ذكرنا بعض الاشارات الموحية الى قدوم كائن متفوق، كما يلي:
1ـ ان الاتجاه العام لسلسلة التطور من ابسط خلية الى اعقدها يرينا وجود تقدم متصاعد للتطور الطولي. ويعبر هذا التقدم عن ظهور سمات عامة جديدة لم تكن موجودة من قبل، مثل تطور الخلايا البدائية النوى الى الحقيقية، وبعدها الى كائنات متعددة الخلايا. ثم انبجست سمات عامة متدرجة وسط هذه الكائنات، فظهرت المفاصل الهيكلية، وانقسام الخلايا الى جسمية وجنسية، وتحول الاعضاء والاجهزة العضوية البسيطة الى معقدة.. وهكذا حتى نشوء العقل وسائر السمات الجديدة التي ظهرت مع البشر. وهو ما يعني ان من الممكن ان يستمر التطور ضمن هذا الافق الطولي المتقدم.
2ـ لقد انتهت سلسلة التطور عند نشوء البشر منذ ملايين قليلة، وهو ذو اصناف عديدة ارقاها الانسان العاقل (الحالي)، وقد انقرضت جميعها باستثناء الاخير. وعادة ما يؤرخ لها باقل من ثلاثة ملايين عام، واحياناً اكثر من ذلك، وكان آخرها هو الانسان العاقل، ويؤرخ له باكثر من 300 ألف عام. وطبقاً لهذه المعطيات لو ان الاصناف البشرية تدرجت في الرقي العقلي، والمتوقع انه كذلك من الناحية القيمية والروحية، فسوف يوحي هذا التطور بما سيفضي اليه المستقبل من ظهور انسان جديد اكثر تقدماً وكمالاً.
3ـ لقد انتهت صيرورة التطور الى ايجاد خصائص نوعية جديدة ملفتة للنظر، وتبدي هذه الخصائص وجود توجه عام للعملية التطورية. او ان الاخيرة تمكنت من ان تجد لها شيئاً جديداً مختلفاً تماماً عما عليه من قبل. فلأول مرة تنشأ مع الانسان اشياء ليست مادية مثلما لدى الكائنات الحية. وابرز ما ظهر ارادته الحرة وقواه العقلية التجريدية واللغوية المعقدة وقابليته على التفكير الذاتي الاستبطاني وفضوله في فهم الظواهر الطبيعية واستكشاف قوانينها مع البحث في معرفة اصول الاشياء والتطفل على عالم الميتافيزيقا، يضاف الى قدراته على التصنيع المتنوع التي تتجاوز حاجياته البايولوجية خلافاً لسائر المخلوقات، كذلك احساسه بالجمال وتذوقه للفنون، وصِلاته بالقيم والروابط الروحية.
وهذا يعني ان اشياء جديدة ظهرت لم يسبق لها مثيل من قبل. فاذا ما كانت العملية التطورية مدفوعة الى التقدم رغم انكساراتها وتفرعاتها العرضية هنا وهناك؛ فانها ستتخذ من البشر اولى خطوات التطور القادم.
ويمكن وضع معيار لهذا التقدم يقوم على القيم الاخلاقية، حيث نتوقع ان الميزة الاساسية التي سيحملها الكائن الجديد هي انه لو تُرك وشأنه لكان قد فعل الخير وتمسّك بالقيم الحسنى؛ على عكس ما يتصف به البشر. وقد تكون الفارقة بينهما احصائية لا لزومية.
فبحسب هذه الاطروحة تنقسم القيم الاخلاقية الى علاقتين مترابطتين ومختلفتين، تنضوي احداهما تحت اطار العقل النظري ونسميها المعنى الوجودي (الواقعي الاجتماعي)، فيما تنضوي الثانية تحت اطار العقل العملي، ونسميها المعنى المعياري. وتتميز العلاقة بينهما بتحكم احداهما في الاخرى. فقد يكون المعنى الوجودي حاكماً على المعنى المعياري، كما قد يحدث العكس.
فالغالب في الاصل المتحكم في العلاقة الاجتماعية للبشر؛ هو المعنى الوجودي لا المعياري للقيم. فالاول هو من يتحكم في الثاني لدى الغالبية العظمى من التصرفات البشرية. الى درجة نعتقد فيها انه لو تم رفع العرف والقانون الاجتماعي الذي يدين الى المعنى الوجودي لفسدت علاقاتنا الانسانية وتحولت الى وحشية لا تطاق.
لذلك ان الظاهرة التي يتشكل منها المعنى الوجودي للقيم هي الغالبة على السلوك البشري، كما تحدثنا عنها في (النظام المعياري)، فهي محكومة بقوانين تعمل على تماسك المجتمع وحفظه، وان عالمنا مصمم على ترجيح القيم الحسنة بغض النظر عن النوايا والدوافع. ولكي يحصل شيء من الرقي والتقدم في هذه العلاقة لا بد من قلب التحكم القيمي مما هو وجودي الى معياري.
فهذا هو معيار ما سيحدث من تطور، اذ يصبح البُعد المعياري هو ما يحدد البُعد الوجودي لا العكس. يضاف اليه التطور المتعلق بالجوانب الاخرى الروحية والعقلية والارادية.
ونرجح ان تكون الحكمة من كل هذه العمليات والسلاسل التطورية هي ايجاد كائنات صوفية ذات معارف حضورية ذوقية مع روح وقيم عالية يجعلها قريبة من صفات المصمم اكثر فاكثر.