يحيى محمد
لقد استعرضنا الكثير من النظريات العلمية المتعلقة بنشأة الحياة وتطوراتها، ومثلها النظم الفيزيائية المعقدة واصل الكون، واعتبرناها عاجزة عن تفسير نشأة هذه النظم؛ لارتكازها على المنهج الطبيعاني، ورجّحنا في المقابل ان تكون النظم المشار اليها واقعة تحت تأثير عنصر روحاني منبسط سميناه ‹‹اثير الذكاء››، حيث يتصف بالبرمجة الذكية التي تعمل على خلق تلك الظواهر المعقدة.
فقد اشرنا الى وجود ظواهر عديدة توحي بوجود قوانين مشفرة تقف خلف النظم الفيزيائية مثلما تقف خلف النظم الحيوية، وان تفسيرها ينسجم مع فرضية اثير الذكاء كحقل حيوي مرافق لكل التأثيرات الفيزيائية بما تنطوي عليه من اعتبارات غائية لم يتم الاعتراف بها لحد الآن.
وتعتبر هذه الاطروحة بديلاً لما قدّمه الفيزيائيون وعلماء الاحياء من فرضيات حول نشأة النظام الكوني الدقيق، ومن ثم الحياة، وبعدها التطور الذي ادى الى وجود كائنات ذكية غير معهودة.
وبلا شك ان اثير الذكاء هو عنصر غير طبيعاني، وان ما يقوم به من افعال تكوينية وتطورية يعبّر عن تصميم بالمعنى القوي، وذلك في قبال المعنى الضعيف الذي يتوقف عند حد الاعتراف باندماج التصميم في قوانين الفيزياء والكيمياء او غيرها من القوانين الطبيعية؛ من دون حاجة الى افتراض عنصر لاطبيعاني يوجه العمليات الكونية والحياتية.
فوفقاً للمعنى الضعيف تم اقتراح ان يكون الكون ناشئاً كالآلة او الساعة الموجهة، كالذي جاء عن عدد من العلماء والفلاسفة، أمثال نيوتن وووليام بيلي، او ناشئاً كالبناء المعماري كما اعتقده عالم التشريح المقارن ريتشارد اوين خلال القرن التاسع عشر، ومثل ذلك الرأي الذي تمسك به عالم الكيمياء الحيوية المعاصر مايكل دنتون في ان الكون يضمر غاية متأصلة تم التخطيط لها ضمن قوانين الطبيعة او في بنية الكون سلفاً؛ كما في كتابيه (قدر الطبيعة) و(التطور: ما يزال نظرية في ازمة).
فهذه النظريات تشير الى ان الكون جاء وفق تصميم غائي محدد، وان بعضاً منها تمسكت بقوانين طبيعية مجهولة خارج دائرة الفيزياء والكيمياء، وهي مناطة بالمعلومات الحيوية المعقدة، وتعتبر خطوة متقدمة لكنها ناقصة، لكونها لم تحدد طبيعة الكيانات الموضوعية التي تنشأ عنها هذه القوانين. فكل قانون يعمل بحسب كيان محدد لولاه ما كان للقانون وجود، فالجاذبية مثلاً لا وجود لها لولا حضور الكتل المادية او الطاقوية، كذلك لولا الالكترونات والفوتونات ما كان لقوانين الكهرومغناطيسية وجود، وكذا هو الحال مع جميع قوانين الطبيعة. في حين لم تحدد النظريات (اللااختزالية) التي تبنت فكرة تأثير القوانين على البرمجة الحياتية والكونية طبيعة الكيان الموضوعي الذي يقوم بهذه البرمجة وتوليد المعلومات. وبعبارة ثانية انها لم تشخص العلاقة السببية الخاصة بالمعلومات او برمجة النظم المعقدة.
وهنا يأتي دور التصميم بالمعنى القوي، كما في حالة ‹‹أثير الذكاء››، اذ التفسير الطبيعاني لا يلائمه، وحتى التشفير والبرمجة رغم انها واضحة عند النظر الى مجمل العمليات الكونية والحيوية الا انها لا تُفسر ضمن اعتبارات القوانين والثوابت والاسباب الطبيعية، اذ ان التفسيرات المتعلقة بها لم تستطع تحديد الكيان الموضوعي الذي يقوم بهذه البرمجة والتشفير، ومن ثم يبدو لنا ما يدل على وجود شيء اخر لاطبيعاني، او ليس داخلاً ضمن الاسباب الطبيعية المألوفة، رغم ان وظيفته تتمثل بدفع العمليات الكونية والحياتية لغايات محددة، كالذي افترضناه في أثير الذكاء، وان الاخطاء والعشوائية المترتبة عن هذه العمليات لا تؤثر على المنحى العام للتصميم الذي يتولاه.
إن الفارق بين المعنيين السابقين للتصميم، هو ان المعنى الضعيف يمكنه ان يفسر قوانين الكون وثوابته واسبابه الطبيعية من التفاعلات الفيزيائية والكيميائية، لكنه عاجز عن تفسير ما يخرج عن هذا الاطار الطبيعي. كما ان اضافة قوانين طبيعية اخرى مناسبة للبرمجة الحيوية والكونية لا تعتبر وافية طالما انها لم تحدد الكيان الموضوعي المفضي الى هذه البرمجة. وهي نقطة ضعف يتلافاها المعنى القوي من حيث قدرته على تشخيص الكيان الموضوعي المسبب لتلك البرمجة وفق خطة غائية ادت الى خلق الكائنات الذكية العاقلة، وما زال الطريق مفتوحاً نحو التسامي.
وتعتبر هذه الفكرة متناغمة مع ما ذهب اليه بعض العلماء من وجود كائنات ذكية عاقلة شائعة في الكون وفق التفسير الغائي الموجّه.
ونشير الى ان الكثير من علماء الطبيعة يتقبلون المعنى الضعيف للتصميم، طالما انه لا يمتلك في جعبته عناصر لاطبيعانية يُعزى اليها التطور الكوني والحيوي، وعلى خلاف ذلك موقفهم من المعنى القوي، مثلما تمسك به اغلب انصار حركة التصميم الذكي.
لكن الفكرة التي طرحها انصار هذه الحركة ما زالت غامضة، وبعضهم لم يحدد علمياً هوية المصمم الذكي، رغم الاعتراف من الناحية الشخصية بان المصمم هو الله، كالذي صرح به الكيميائي الحيوي مايكل بيهي، ومن قبله الكيميائي ثاكستون.
ومن وجهة نظرنا ثمة ما يدل على ان التصميم يعود الى عنصر لاطبيعاني مستبطن ضمن الاطار الكوني والحيوي، فهو على شاكلة الذكاء البشري، حيث لا يعتبر طبيعاني رغم انه غير مفارق للطبيعة، وكذا على شاكلة المادة والطاقة المظلمتين اللتين تتحكمان بالكون بحسب الافتراض الفيزيائي المعاصر، رغم انهما ليسا طبيعيين بالمعنى المألوف، اذ لا يعرف عنهما ولا عن قوانينهما اي شيء مطلقاً. وقبل ذلك كانت فكرة الأثير مفترضة، رغم انه لا يمتلك صفات مادية او طاقوية محددة، فلا يعرف عنه شيء على نحو الايجاب سوى كونه وسيطاً لانتشار امواج الضوء على شاكلة ما يحصل في الامواج المائية والصوتية. بل اكثر من ذلك ان موجة الاحتمال التي تبنتها فيزياء الكوانتم الرسمية، كما تتمثل في مدرسة كوبنهاگن، هي فكرة لاطبيعانية بالمعنى المألوف، فكما عرّف بها هايزنبرغ بانها تعني النزوع لشيء ما كنوع من الواقع الفيزيائي الذي يقع في منتصف الطريق بين الامكانية والواقع. لذلك رفض الفيزيائيون ان يعتبروا المدارات الالكترونية حقيقة واقعية، وانما نوعاً من الوجود بالقوة.
هذا بالاضافة الى ما سبق ان اشرنا اليه في (انكماش الكون) من ادراك عدد من الفيزيائيين من وجود تداخل بين الجسيمات الاولية، وهو ما يوحي بوجود شيء منبسط عليها دون ان يمثل واحداً منها. واعتبرنا ان ذلك يأتي على معنيين:
أحدهما سريان الشيء في صميم الجسيمات، بحيث يكون الجسيم مركباً من الشيء الخاص والشيء المشترك، كالذي تبنته مدرسة كوبنهاگن. أما المعنى الآخر فهو سريان الشيء على الجسيمات من الخارج. وهي الاطروحة التي تبنيناها، اذ يصبح العنصر المشترك بمثابة أثير منبسط على الأشياء وظيفته إمداد المعلومات والقوة للتأثير والتنوع والتطور الغائي، واهم ما يتصف به هو الذكاء. وهي فكرة تتفق من بعض الوجوه مع رؤية الفيزيائي ديفيد بوم في وجود عناصر دفينة مؤثرة على تفاعل الجسيمات الفيزيائية.
ويمكن التمثيل على هذه الفكرة بالتصورات الفلسفية القديمة، فهي فكرة أشبه بالهيولى الأصلية التي تتوارد عليها الصور المختلفة، ومن دونها لا يظهر شيء. أو انها أشبه بالعقل الالهي الذي ينبسط على الأشياء فتظهر بحسب طبائعها الامكانية، وبدونه تبقى الأشياء معدومة كأعيان ثابتة لا تشم رائحة الوجود، ومع ذلك لا تُعرف حقيقة هذا العقل، فهو كالنور الذي تتمظهر به الأشياء وبدونه لا يظهر منها شيء قابل للرؤية، ولا يمكن معرفته والاحاطة به استناداً إلى هذا التجلي بالصور المتنوعة.
لذا ان انبساط اثير الذكاء على الاشياء ربما يجعلها منطبعة به، فتحظى باطياف متفاوتة من صفاته، او انها تكون ببعض الجوانب على شاكلته وان لم تدرك هذه الصفات لضعفها الشديد، كما في الحياة والادراك والارادة، حيث تبدو لنا معدومة لدى المواد غير الحية والتي تشكل اغلب ما في الكون.
ونعتبر ان هذه الفرضية شبيهة بعلاقة مجال هيجز بالكتل الجسيمية، اذ لا اثر لهذه الكتل المتباينة لولا احتكاكها المتفاوت بهذا المجال الاثيري بداية نشأة الكون. وكذا هو الحال في علاقة ما نجده من صفات للحياة والادراك والارادة لدى عدد قليل من الكيانات الوجودية انما قد تكون بفعل احتكاكها القوي بهذا الاثير، مع ضعف الاحتكاك بغالبية الاشياء التي تبدو لنا غير حية ولا تمتلك الادراك والارادة.
ومعلوم ان لهذه الفكرة الاحيائية جذورها الفلسفية والدينية القديمة، بل وانها حاضرة في الفكر الحديث والمعاصر، حيث تبناها العديد من الفلاسفة والعلماء بصيغ مختلفة، مع دلالات متقاربة، ويعبّر عنها احياناً بشمولية العقل او الروح او النفس او الحياة او الاحساس او الارادة وما الى ذلك. وتُعرف بمذهب النفسانية الشاملة Panpsychism.
***
وطبقاً للمعطيات السابقة نحتمل ان يتقبل المجتمع العلمي التفسير اللاطبيعاني الخاص بأثير الذكاء اذا ما توفر شرطان محددان، اضافة الى وجود شاهد حسي داعم.
الاول: هو ان ترتقي البايولوجيا بمثل ما حصل مع الفيزياء في تقبل الافتراضات غير المادية، كالتي اشرنا اليها سلفاً. وسبق ان تم نقد القوة الحيوية والاستعانة بمثال فيزيائي يتعلق بفكرة المجال المغناطيسي، فرغم ان هذا المجال هو مثل القوة الحيوية غير قابل للملاحظة، الا انه محكوم بقوانين دقيقة خلافاً لتلك القوة. لذلك اصبحت النزعة الحيوية اعتقاداً متروكاً. لكن هذا الحال قد تجاوزته فيزياء القرن العشرين، فيما بقيت البايولوجيا اسيرة إتّباع النهج الفيزيائي لما قبل هذا القرن، رغم انها اولى باتخاذ موقف متقدم في تقبل الافتراضات غير الطبيعية لحل مشاكلها المستعصية، وذلك لوجود شواهد حسية على مثل هذه الافتراضات النافعة، وبالذات ما يتعلق بمبدأ الذكاء، كما لدى البشر مما يفسر فنونه وصناعاته المختلفة.
الثاني: ان الذكاء المفترض في تفسير الظواهر الفيزيائية والبايولوجية، وخاصة الاخيرة، هو ذكاء غير مفارق او ميتافيزيقي، بمعنى انه ليس بالذكاء الالهي وما شاكله مما تدعو اليه الاديان السماوية. بل هو ذكاء عليه دلالات علمية تؤيد كونه يدخل ضمن اطار الطبيعة وليس خارجاً عنها. لذلك اوسمناه بأثير الذكاء، فله سمة تشابه سمة الأثير المفترض في الفيزياء الحديثة، وهو من هذه الناحية لا علاقة له بالافتراضات الدينية والفلسفية الصرفة.
لذا نعتقد انه عند جمع الشرطين السالفي الذكر، مع الاخذ بعين الاعتبار الشاهد الحسي، سوف تزول - من الناحية النظرية - الاشكالات والتحفظات التي اعتاد ان يطرحها علماء الاحياء في وجه انضمام مبدأ الذكاء الى الدائرة العلمية والمساهمة في الصراع المنهجي والمعياري للعلم.