يحيى محمد
تضمّن كتاب (الاستقراء والمنطق الذاتي) قسماً مستقلاً بثلاثة فصول حول تفسير منطق الاحتمال، تناول الأول منها نظريات الفلاسفة الغربيين، وتعلّق الثاني باطروحة المفكر محمد باقر الصدر، أما الثالث فاختصّ بما قدمناه من رؤية جديدة حول الموضوع بعد ان استوفينا نقد النظريات الاخرى خلال الفصلين السابقين.
وكان الشيء المشترك في ضعف هذه النظريات هو اهمالها أحد أقسام الاحتمال الرئيسية، فلم تضع يدها على تحديده ونشأته وعلاقته بتبرير سائر أنواع الاحتمال. فبحسب رأينا تنقسم الاحتمالات إلى قسمين أساسيين تُشتق منهما سائر الأنواع الأخرى، أطلقنا على أحدهما الاحتمال السوي، وعلى الآخر غير السوي. وهذا الأخير هو حجر الزاوية الذي تتأسس عليه وظائف الاحتمالات (البعدية) الأخرى، كما انه الأساس الذي يمكن به تبرير الدليل الاستقرائي في سيره المعرفي لإثبات الأشياء وتفسيرها. ولا ينفع في ذلك الاحتمال الصدري (في العلم الإجمالي) ولا غيره من الاحتمالات التي راهن عليها الفلاسفة الغربيون المختصون بهذا الشأن.
وقد ميزنا بين الاحتمالين السوي وغير السوي، فاذا كان الاول ينشأ عند عدم تمييز الحالات بعضها عن البعض الآخر، فان الآخر ينشأ على العكس من ذلك عند عدم وجود تماثل أو انتظام بين الحالات الممكنة للحدوث، ويبرره مبدأ التمييز أو اختلاف الحالات وعدم تماثلها. فهو احتمال يعبّر عن وجود قرائن تختلف في قوتها الاحتمالية إزاء احتمال حادثة ما يراد إثباتها أو تفسيرها.
كما كشفنا عن ان هذا النوع من الاحتمال لا يخضع للحساب الكمي خلافاً للأول. لذلك اخضعناه الى نوع من التقدير المتسامح به. وتنبع اهميته في تأسيسه لصنف اخر للاحتمال اوسمناه بالاحتمال التفسيري (الاستقرائي)، ويمثل الرابط الوحيد بين الاحتمالين السوي وغير السوي، وعنه تتكون الاحتمالات البعدية المتمثلة بكل من الاحتمالين الحدي والتقديري. أما الاحتمال السوي فيُشتق منه كل من الاحتمالين المنطقي والقبلي.
وبذلك فان جميع انواع الاحتمال تتأسس إما على الاحتمال السوي أو غير السوي، لكن تأسيسها يفترض وجود نسبة رياضية بين عدد الحالات الملائمة والحالات الممكنة الكلية، فبدون هذه النسبة لا يمكن اشتقاق أي نوع فرعي.
إن اهم الاحتمالات المشتقة هو الاحتمال التفسيري، حيث ينشأ حول فرض معين يراد التحقق منه استناداً إلى وجود عدد من القرائن المختلفة التي تبرر القيم الاحتمالية غير السوية. وكثيراً ما يستخدم هذا النوع من الاحتمال في الفروض والنظريات العلمية، وكذا في إثبات الأشياء وتعليلها، وهو يتأثر بما يقابله من نظائر للفروض المنافسة. وتعود اهميته إلى كونه يمثل العنصر الأساس الذي بوسعه ان يحقق بناء الدليل الاستقرائي لإثبات القضايا الخاصة بشكل لا تصدق عليه الشبهات المألوفة الواردة بحق التعميمات الاستقرائية. فهذا الدليل قائم على مورد للاحتمال لا يقبل العد الحسابي، طبقاً للاختلاف النوعي للقرائن التي تبرر عدم التسوية الاحتمالية.
مع هذا فان عدم هذه التسوية لا يمنع من بلوغ مرحلة القطع واليقين. فطالما يوجد تعاظم وتنمية في الكيفية الاحتمالية طبقاً لزيادة القرائن المختلفة الدالة على الفرض؛ فإن ذلك يهيء الوصول إلى تلك المرحلة عندما لا نحتاج فيه إلى قرائن جديدة إضافية.
وعموماً كشفنا عن ان بالاحتمال التفسيري يتم إثبات الأشياء وتماثلاتها وبالتالي يتحقق تبرير العمل بالاحتمال السوي، وان هذا الاحتمال (التفسيري) قائم على وجود الاحتمال غير السوي الذي تبرره اختلاف القرائن، مما يعني ان التماثل يستدل عليه بهذا الاختلاف. فالاختلاف هو أساس إثبات التماثل لا العكس.