يحيى محمد
تختلف وجهة النظر بين الاتجاهين العقلي والحسي حول تفسير علاقة السببية في الطبيعة، فالاول يركز على وجود عنصر ميتافيزيقي يتوسط بين السبب والمسبب، يُطلق عليه (الضرورة)، الامر الذي يقتضي عنصر (التأثير) من دون عكس. في حين يصف الاتجاه الحسي هذه السببية بحالة اقتران مكاني وزماني مضطرد بلا ضرورة ولا تأثير، باعتبارهما غير حسيين.
في حين نرى ان من الممكن الاستدلال على عنصر التأثير بالدليل الاستقرائي دون الضرورة. وتبرير هذا الانفصال في الموقف يعود الى ان الفارق الوجودي بينهما هو ان التأثير ليس بشيء كينوني، بل هو فعل يحتاج الى فاعل مؤثر وفق مبدأ السببية العامة، ويمكن الاستدلال على خصوصية هذا المؤثر (غير المحسوس) عبر منطق الاحتمال والدليل الاستقرائي. أما الضرورة فليست بكينونة ولا بفعل، بل هي أمر عدمي اعتباري، فكل ما تعنيه ان الشيء يظل على حاله من الوجود او العدم دون ان تكون له قابلية على التغير مطلقاً، وهي من هذه الناحية العدمية يستعصي الاستدلال عليها.
وبحسب التحليل الفيزيائي نضيف الى ان العلاقة التي تتضمنها السببية الخاصة في الطبيعة وان بدت للمراقب بانها دالة على المعاصرة والضرورة، لكن من الممكن تفكيكها وجعلها تتضمن حادثتين تتصفان بالسبق دون المعاصرة، ومن ثم دون الضرورة والحتمية، وفق الزمن الفيزيائي المايكروي.
وبلا شك ان هذه العملية ليست مجرد تتابع زمني مقترن، كالذي يصوره المذهب التجريبي، بل ثمة نوع من التأثير الحقيقي يبدأ منذ اللحظة التي يؤثر فيها السبب على المسبب، او اللحظة التي يتولد فيها المسبب بفعل السبب، وهي لحظة فيزيائية غاية في الضآلة، فهي البداية الاولى للخلق والتأثير دون ان تسبقها بداية ما قبل. وبحسب القياس الفيزيائي المعاصر فان الزمن لا يبتدئ من لحظة متصلة، فوفقاً للتحليل الرياضي ان البدء من هذه اللحظة سيجعل الفترة الزمنية للتأثير تتخذ مدة غير متناهية. والسبب في ذلك هو ان الاتصال الزمني ينطوي على لحظات قابلة للتقسيم رياضياً، وهي إن لم تتوقف عند انقطاع اللحظة فانها تجر الى سلسلة لا متناهية، مما يجعل التأثير مستحيلاً، لذلك كان لا بد من وجود انقطاع في اللحظات خلاف ما نشهده في عالمنا الحسي المعاش. وبالتالي ان الاعتراف بوجود لحظات منفصلة يهيء مدة لبداية التأثير وسعته، فهي تشتمل على حدود ثابتة ونهائية غير قابلة للانقسام.
وينطبق الحال السابق على كل تغير، ومنه التحول المكاني. فلو بدأنا من نقطة الانطلاق ضمن المتصل المكاني فسنحتاج الى مسافة غير متناهية كي نصل الى نقطة اخرى مجاورة، وبالتالي إن لم نفترض كميات منفصلة ومتقطعة للمكان فاننا سنقع في محذور التسلسل المكاني اللامتناهي، ففي المتصل المكاني تنقسم المسافة بين نقطتين متجاورتين قسمة غير متناهية من الناحية الذهنية، وهي المسألة التي كانت تؤرق الفلاسفة القدماء ومن تأثر بهم من الكلاميين.
وتنبسط هذه المشكلة على كل حالة يجري فيها التغير والتأثير. فما لم يتم الانطلاق من وحدة قياسية نهائية التحديد، سواء على صعيد القياس الزمني، او المكاني، او التأثيري، فان مشكلة اللانهايات سوف ترافقنا حيثما اتجهنا. وبالتالي لا بد من اخضاع التحليل الى القياس الفيزيائي، ولو من حيث الاتساق النظري، فنقول لا غنى من ان يكون السبب سابقاً للمسبب بفترة قياسية لا يمكن تعديها، فهي غير قابلة للتقسيم، فعند هذه اللحظة المفترضة يبدأ التأثير ومن بعدها يتضاعف ويتراكم حتى يظهر الاثر جلياً. والحال ذاته ينطبق على كل تغير وانتقال.
عموماً لو عوّلنا على اعتبارات الانفصال كما تثبته قوانين بلانك، ومثلها بعض التصورات المنتمية الى ميكانيكا الكوانتم لاصبحت علاقة السببية الخاصة لا تتضمن الضرورة ولا المعاصرة، فبين السبب والمسبب فترة زمنية قياسية من المحال تعديها، هي زمن بلانك، وحيث ان السبب سابق للمسبب زماناً وفق القياس الفيزيائي، فانه يمكن كسر الاصرة بينهما، فيمكن ان يكون السبب موجوداً دون ان يتاح المجال لظهور المسبب الخاص. فالفترة الزمنية الفاصلة بينهما كفيلة بان تمنع وجود المسبب عند ورود حائل بينهما. لكن بطبيعة الحال فان المسبب لا يسعه ان يستغني عن مطلق السبب، وان كان من الممكن الاستغناء عن سببه الخاص عند إحداث الحائل بينهما. فالانفصال يفضي الى التجويز وعدم الحتمية. لذلك كان الفلاسفة القدماء يؤكدون على حالة الاتصال التام بين العلة والمعلول، فالعلاقة بينهما لا تقبل الانفصال باي شكل من الاشكال، ومن ثم اعتبرت هذه العلاقة ضمن المتضايفات، فحيث توجد علة فهناك معلول يتأخر عنها ذاتاً لا زماناً، وبالعكس، وهو ما يؤمّن لهم الضرورة او الحتمية المفترضة.
على ان التحليل الفيزيائي للسببية الخاصة يجعل العلاقة بين السبب والمسبب تُردّ الى القوانين الاحتمالية دون القوانين الحتمية، فالانفصال بين السبب والمسبب يقتضي هذه الاحتمالية خلافاً للنسق الاتصالي كما يصوره اصحاب الاتجاه العقلي الارسطي. لذلك قيل بان اغلب الفيزيائيين لا ينكرون السببية باطلاق، وانما ينكرون الحتمية التي تتضمنها. فالصراع الفيزيائي هو صراع قائم بين التفكير الحتمي والاحتمالي، مثلما هو صراع بين النظريتين الاتصالية والانفصالية.