يحيى محمد
ثمة خارطة للقضايا العقلية غير معهودة لدى الفلاسفة. فالقدماء منهم لم يميزوا طبيعة الاختلاف فيما بينها، فكلها تتصف عندهم بالضرورة واليقين المطلق بلا استثناء. ويحاكيهم في هذا التصور الفلاسفة المحدثون، وهؤلاء غالباً ما يحصرون الضرورات في المسائل المنطقية البحتة دون غيرها. في حين نجد ستة أشكال مختلفة للقضايا العقلية، أربعة منها تتصف بأنماط مختلفة من الضرورة التي لا تقبل الشك والامكان، يضاف اليها نوعان يتصفان بالوجدانية او الحدسية دون الضرورة.
فبالنسبة الى الضرورات العقلية الأربع، تارة تكون الضرورة منطقية كما في مبدأ عدم التناقض (المنطقي)، مثل الواحد المضاف إلى مثله يساوي اثنين. وثانية غير قابلة للتكذيب، كما في مبدأ السببية العامة وعدم التناقض الوجودي. وثالثة احتمالية، مثلما تنشأ في الحالات المتماثلة؛ كتماثل وجوه عملة النقد. ورابعة قيمية كما في القضايا الأخلاقية.
فهذه الضرورات بعضها يختلف عن البعض الآخر، والصفة المشتركة فيما بينها هي عدم إمكان تغييرها وإبدالها، لِما لها من طبيعة شمولية وكلية مطلقة، بما فيها النوع الأخير من الضرورات الخاص بالعقل العملي تمييزاً له عن سائر الأنواع التي يتضمنها العقل النظري.
والإختلاف بين هذه الضرورات هو أن الأولى (المنطقية) لها علاقة بالقضايا النظرية التجريدية ضمن الحقل الابستيمي ولا تقبل التحدّي مطلقاً، لأن التحدي فيها يبعث على التناقض.
وأن الثانية (غير القابلة للتكذيب) لها علاقة بالواقع الموضوعي مباشرة ضمن الحقل الانطولوجي، بإعتبارها إخبارية وكاشفة عن الواقع، لذلك فالضرورة فيها وإن كانت غير قابلة للتكذيب لكنها تتقبل التحدي؛ باعتبار ان مخالفتها لا تفضي الى التناقض خلافاً للضرورة المنطقية.
أما الثالثة (الاحتمالية) فهي في الأساس ذات بنية كسرية بين الصفر والواحد، وتتماثل مع الضرورة المنطقية، لكنها عندما تتحدث عن الواقع فستتميز بعدم مطابقتها له بالضرورة، بل وإختلافها عنه في أغلب الأحيان. وهذا ما يميزها عن غيرها من الضرورات.
تبقى الضرورة القيمية، فهي أنها لا تتحدث عن أشياء الواقع الوجودي والتكويني، وبالتالي لا يمكن محاكمتها كما يحاول البعض محاكمة الضرورة غير القابلة للتكذيب، إنما المهم مشاهدتها بالرؤية المباشرة تبعاً لما يفضي إليه الحدس العقلي المدرك لشموليتها المطلقة ضمن قيودها الخاصة، كغيرها من ضرورات العقل النظري.
هذه هي أربع أنواع للقضايا العقلية الضرورية، يضاف اليها نوعان عقليان يتصفان بالوجدانية دون الضرورة، هما: المعرفة الحضورية الوجودية، وتتمثل في معرفتنا المباشرة بأنفسنا دون حاجة للدليل، وبالتالي فهي لا تتقبل كوجيتو الاستدلال الديكارتي القائلة: (أنا افكر فإذاً أنا موجود). أما الثانية فهي المعرفة الإخبارية الوجدانية، مثل الإعتقاد بالواقع الإجمالي للعالم. فهذه المعرفة ليست ضرورية، كما لا يمكن الإستدلال عليها، وبالتالي فهي من المعارف الوجدانية الصرفة.
وبذلك نحصل على ستة أنواع للقضايا العقلية أربعة منها ضرورية، واثنان يخلوان من الطابع الضروري، ويمكن اختصارها جميعاً في النقاط التالية:
1ـ المعرفة المنطقية البحتة، مثل مبدأ عدم التناقض المنطقي.
2ـ المعرفة الإخبارية غير القابلة للتكذيب، مثل مبدأ السببية العامة وعدم التناقض الوجودي.
3ـ المعرفة الاحتمالية، مثل ان احتمال ظهور وجه الصورة في عملة النقد المتماثل الوجهين يساوي نصفاً بالضرورة.
4ـ المعرفة القيمية، كالحسن والقبح العقليين.
5ـ المعرفة الحضورية الوجودية، مثل ادراكنا المباشر لأنفسنا.
6ـ المعرفة الإخبارية الوجدانية، مثل الإعتقاد بوجود واقع خارج الذهن.
***
إن أغلب هذه المعارف هي مفاتيح لجعل الأبواب المغلقة للمعرفة مفتوحة، وبدونها تبقى المعرفة في كافة أشكالها مقفلة. فمنها ما تعتبر أساساً لجميع القضايا المعرفية، فلولاها لسقطت المعرفة برمتها، كما هو حال مبدأ عدم التناقض. كما منها ما هو أساس معرفتنا بالواقع الموضوعي الخارجي، ولولا وضوحه لاختلّت معرفتنا بهذا الواقع ولسقط العلم الطبيعي، كما هو حال مبدأ السببية العامة. ومثل ذلك الأداة الاستقرائية القائمة على المنطق الاحتمالي، حيث لولاها لما أمكننا أن نعرف شيئاً في خارج الأذهان. فلهذه القضايا أصل غريزي وشهود عياني كالذي يقوله العرفاء.
كما من هذه المعارف ما نشهد بها واقعية العالم الموضوعي، رغم ان إحساسنا بهذه الواقعية لم يأتِ عبر الضرورة المنطقية ولا سائر الضرورات العقلية كما هو حال ما سبقها من مبادئ، إذ لا مانع عقلياً من أن تكون حقيقة الأمر خلاف ما نتحسس به وجداناً، رغم أن شعورنا الذاتي لا يحتمل هذا المعنى.