يحيى محمد
تعتبر نظرية التكليف قطب الرحى الذي تدور حوله العلوم الاسلامية، كالكلام والفقه وتفسير القرآن والحديث وما على شاكلتها. فغرض هذه العلوم هو تحديد العلاقة المعيارية بين المكلِّف والمكلَّف. فليس هناك موضوع في ذاته ولأجله تقوم عليه تلك العلوم أشد وأقوى من هذه النظرية. فمن حيث الأساس ان نصوص الخطاب الديني دالة على التكليف، بل هي عين التكليف ذاته، وهو ما جعل تلك العلوم التي قنّنت هذه النصوص تتمحور هي الأخرى باتجاه هذه القضية المركزية. فدائرة البحوث الفقهية هي عينها دائرة علم التكليف، فقد شهد الفقه تضخماً في البحث والتقنين خلال القرون الاولى، وامتص من الطاقات الفكرية ما يكفي أن نعرف أنه منذ القرن الأول حتى القرن الرابع الهجري ظهرت اتجاهات كثيرة من المدارس الفقهية؛ قدّرها البعض بما لا يقل عن تسع عشرة مدرسة فقهية[1]، كل ذلك من أجل تحديد دوائر التكليف طولاً وعرضاً. ومع أن الاجتهاد الفقهي تكفّل بتحديد دوائر التكليف لابتلاء طاعة المسلمين في شؤون ممارساتهم العملية؛ الا أنه هو الآخر كان خاضعاً للتكليف ذاته. وكما قرر الشافعي بأن الله قد ابتلى طاعة المسلمين (في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم)[2].
كذلك هو الحال مع علم الكلام، فقد لجأ هو الآخر الى تحديد التكليف مباشرة بما هو (موضوع في ذاته)، فهناك مباحث عامة عن التكليف وشروطه وعلاقته بالعدل وحرية ارادة الانسان، كما أن مقدمات كتب هذا العلم قد ألِفت أن تشرع بالبحث عن وجوب العلم، وعما يجب على الانسان أن يعرفه أولاً، وعن تحديد عقيدة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال. فأصبح التكليف مقدمة للكلام، بل أصبح الكلام تكليفاً، فبنظر اصحاب علم الكلام تعتبر قضايا هذا العلم الأساسية من التكاليف الواجب على المسلم بحثها عيناً لتحديد عقيدته سلفاً. ومن ذلك ذكر الباقلاني في كتابه (الانصاف) ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، فعدّد مختلف قضايا الكلام الاشعرية، وأضاف اليها العلم بأوائل المعرفة وأصول الأدلة والمقصود بالاستدلال وانقسام المعلومات والموجودات والمحدثات، كما أوجب على المكلَّف معرفة أول نعم الله على خلقه وأفضلها عند المؤمنين المطيعين وغيرها من القضايا الأخرى[3]. ومعلوم أن الباقلاني أذاع مبدأ (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول) خلال القرن الرابع الهجري، لذلك فقد زاد من حمولة التكليف فشملت قضاياه حتى الأدلة المحررة، إذ خرجت من كونها في دائرة ما هو (موضوع لأجله) لتدخل دائرة ما هو (موضوع في ذاته) من التكليف، الشيء الذي يعني أن الكلام قد أصبح (شريعة)، والاجتهاد (نصاً). فلما كان الاستدلال على بعض العقائد، كالقدرة والخلق، متوقفاً عند الباقلاني على إثبات الخلاء والجوهر الفرد والعرض لا يبقى زمانين وغيرها[4]، لذا فقد اعتبر هذه القضايا ضمن العقائد الواجب اعتقادها، وبالتالي فهي قضايا وجودية مؤسسة على المعيار، بخلاف طريقة الفلاسفة والعرفاء، لكونهم يؤسسون المعيار على الوجود لا العكس.
بل لدى المتشرعة أن مبرر وجود الخلق هو لغرض معياري يتعلق بالتكليف، اذ سخّرت الأشياء للانسان ليعتبر منها ويتخذها مرشداً ودليلاً على التكليف، بما في ذلك التكاليف العقلية، كما يلاحظ - مثلاً - لدى الذين اعتبروا الغرض من وجود الشهوات في الانسان انما هو لأجل التكليف[5]، طبقاً لاعتبار المقدمات والنتيجة التالية:
1ـ إن طبع الناس يميل الى فعل القبيح بسبب وجود الشهوات.
2ـ لو ترك الناس من غير تكليف لفعلوا القبيح.
3ـ إن ترك الناس على هذا الحال يعني إغراءً لهم على فعل القبيح.
4ـ إن هذا الإغراء على فعل القبيح هو عبث وقبيح.
5ـ ومن ثم فإن العبث والقبيح لا يجوزان على المولى تعالى.
6ـ وحيث أنه إذا كان هناك غرض في فعله تعالى؛ فلا يحصل هذا الغرض إلا بالتكليف، وهو المطلوب إثباته[6].
كما ذهب الحر العاملي الى أن الحكمة من خلق الشهوات والشياطين وغيرها هي التكليف والتعريض لزيادة الثواب، وكذا هو الحال مع نصب الشبهات وانزال المتشابهات[7].
كان ذلك مما له دلالة على البحث الكلامي بما هو (موضوع في ذاته) من التكليف. أما البحث الكلامي بما هو (موضوع لأجله) من التكليف فإنه يستغرق ما تبقى من مواد علم الكلام، ويتوارى في كثير من الأحيان وراء الأدلة المحررة، بما في ذلك أدلة إثبات أصول العقائد كالتوحيد والعدل، فرغم تضاربها بحسب الميول المذهبية الا أنها تهدف الى التنزيه والتقديس بعيداً عن شبهة التدنيس ومخالفة الشريعة، بغية ضمان (الاعتقاد الحق)، لذلك لا يخلو لسانها من التعريض بكل من يخالف هذا الحق، بالتكفير والتضليل، مما له دلالة على (التكليف) بوصفه معياراً يتوارى خلف لغة الكلام وعلمه.
يضاف الى أن نشأة علم الكلام ومجادلات (الصخب) التي ظهرت في أوساطه، لم تتجاوز ـ هي الأخرى ـ حدود ذلك المعيار. فقد نشأ الاعتزال على يد (واصل بن عطاء) بعد اعلان رأيه حول (منزلة الفاسق)[8]، بل أن أغلب أصول المعتزلة الخمسة لها دلالة معيارية على التكليف. كما أن الأشاعرة هي الأخرى لم تنفصل عن المعتزلة ولم تستقل عنها إلا بعد احساسها بما ضيعته من (واجب التكليف)، وذلك بعد المناقشات التي دارت بين الأشعري واستاذه الجبائي حول قضايا لها علاقة صميمة بنظرية التكليف، كقضية الصلاح والأصلح.
كما لعبت اللغة دوراً هاماً وعظيماً، لا فقط في حدود ما هو (موضوع لأجله) بما تمده من مقدمات لتحديد فهم موارد الأمر والنهي من التكليف، بل كذلك انها في مرحلة التقنين كانت تعبر أحياناً عن علم ما هو (موضوع في ذاته) من أبعاد الفقه والتكليف، فهي الدين بعينه على حد تعبير أبي عمرو بن العلاء[9]، وكما ينقل البعض قول الجرمي الفقيه بأنه منذ ثلاثين سنة كان يفتي الناس في مسائل الفقه من كتب سيبويه في النحو[10]. وربما كان القصد من ذلك انه لا يتجاوز توظيف طريقة سيبويه في النحو كـ (موضوع لأجله) لا (موضوع في ذاته) من الفقه.
وهكذا هو الحال مع علوم أخرى كتفسير القرآن والحديث والسيرة وما اليها. فمثلاً رأى جماعة من العلماء بأن علة وجود المحكم والمتشابه في القرآن هو لغرض تكليفي، اذ كُلّف الانسان بالاجتهاد في النظر لمعرفة ما هو محكم وما هو متشابه. وقد ذكر القاضي عبد الجبار الهمداني في جواب على سؤال عن وجه الحكمة في وجود المحكم والمتشابه في القرآن فقال: (إنا إذا علمنا عدل الله وحكمته بالدلالة القاطعة التي لا تحتمل (الخلاف)، نعلم أنه لا يفعل ما يفعله الا وله وجه من الحكمة في أفعاله تعالى. وقد ذكر أصحابنا في ذلك وجوهاً لا مزيد عليها. أحد الوجوه: أنه تعالى لما كلفنا النظر وحثنا عليه ونهانا عن التقليد ومنعنا منه، جعل القرآن بعضه محكماً وبعضه متشابهاً، ليكون ذلك داعياً الى البحث والنظر وصارفاً عن الجهل والتقليد. والثاني أنه جعل القرآن على هذا الوجه ليكون تكليفنا به أشق، ويكون في باب الثواب أدخل، وذلك شائع. فإن القديم تعالى إذا كان غرضه بالتكليف أن يعرضنا الى درجة لا تنال إلا بالتكليف، فكل ما كان أدخل في معناه كان أحسن لا محالة)[11]. وعلى هذه الشاكلة ذكر الزركشي بأن الله جعل كتابه محكماً ومتشابهاً ليحثهم على التفكير فيه ومن ثم يثيبهم على قدراتهم وجهودهم الاجتهادية[12].
وهناك من المعياريين او المتشرعة من جعل العلوم كلها موضوعة لنظرية التكليف، كابن حزم الاندلسي، اذ ذكر بأن الغرض من وجودنا في الدنيا هو تعلم ما أراده الله تعالى منا وأخبرنا عنه، وهو معرفة الشريعة والعمل بموجبها للتخلص من البلاء الذي ابتلانا الله تعالى به في الدنيا. فقد ربط ابن حزم العلوم بهذه الغاية المعيارية. وعلى رأيه أنه لا تتم صحة معرفة الشريعة الا بمعرفة أحكام الله وعهوده في كتابه المنزل، وكذلك بمعرفة ما بلّغه النبي (ص) الينا وما أوصانا به، وأيضاً ما أجمع علماء الديانة عليه وما اختلفوا فيه، وكل ذلك لا يتم الا بمعرفة الرجال الناقلين لتلك الأمور وأزمانهم وأسمائهم وأنسابهم، ومعرفة المقبولين منهم وتفرقتهم عن غيرهم. كما أن ذلك لا يتم الا بمعرفة القراءات المشهورة ليوقف بذلك على المعاني المتفق عليها وتمييزها عن غيرها، وهو لا يتم إلا بمعرفة اللغة ومواقع الاعراب وما يقتضيها من التعرف على علم الشعر لعلاقة الاعراب به. كما لا بد من التعرف على علم الهيئة لمعرفة القبلة وأوقات الصلوات، ولا بد من معرفة علم الحساب لتقسيم المواريث والغنائم وغيرها. كما لا بد من التعرف على حدود الكلام لمعرفة حقيقة البرهان مما يحتاج الى علم المنطق والفلسفة. ولا بد أيضاً من معرفة العيوب التي تجبّ التكليف كعاهة الجنون والآفات المختلفة، وهو ما يحتاج الى علم الطب. ولا بد لمعرفة كيفية الدعاء الى الله من علم الخط والبلاغة وما اليها. كما أنه لا بد من معرفة عبارات الرؤيا باعتبارها حقاً (وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)، وهو ما يحتاج الى التمكن من سائر العلوم المذكورة. وأخيراً يذكر ابن حزم بأن الحاجة تمت الى التعرف على علم النجوم لمعرفة الصواب من الخطأ في القضاء بالنجوم. وبذلك تكون جميع العلوم التي عرفها هذا المفكر لها غاية معيارية تتمثل في نظرية التكليف[13].
ويلاحظ أن هناك خصوصيتين للبنية المعيارية داخل النظام المعياري للمتشرعة، إحداهما معرفية، وهي التي تناظر ما عليه النظام الوجودي للفلاسفة والعرفاء. أما الأخرى فليس لها ما يقابلها في النظام الأخير، اذ تتضمن جانباً من الموقف النفسي اتجاه المقدس الديني، ويحصل فيها الاحساس بالقداسة، كما يتم التعبير عنها بالحرمة إزاء (معيار) نظرية التكليف، خشية التفريط بالحق المتعلق بالله او المكلّف. فالكثير من علماء هذا النظام يتحرجون من أن يضيفوا رأياً من عندهم خارج الحد المتعارف عليه، خشية التفريط بذلك الحق المعياري؛ حتى في (المسائل الوجودية) التي نصّ عليها الخطاب، كمسألة الاستواء على العرش، وهو ما يفسّر السبب الذي جعل أغلب علماء السلف يلجأون الى التفويض والاحتياط خلال القرون الثلاثة الاولى للهجرة. وكثيراً ما كان العالم يتخذ من قاعدة الاحتياط موقفاً عملياً، حتى لو كان رأيه النظري بخلاف ما يؤدي اليه الموقف العملي وما يستلزمه هذا الموقف من حدوث بعض الأضرار[14]. ويذكرنا هذا الأمر بما نقله الشيخ محمد جواد مغنية عن قول أحد اساتذته أثناء الدرس حول طهارة أهل الكتاب، حيث قال الاستاذ: (إن أهل الكتاب طاهرون علمياً نجسون عملياً) فأجابه الشيخ بالحرف أيضاً: (هذا اعتراف صريح بأن الحكم بالنجاسة عمل بلا علم)، مما جعل الاستاذ ورفاق الصف يضحكون، كما نقل[15].
أما نظرية التكليف لدى علمي الفلسفة والعرفان فأمرها يختلف، اذ تصبح حقيقتها غير معيارية، بل مجازية تعويلاً على وحدة الوجود وحتميته. فكل شيء محتم عليه أن يكون على ما هو عليه، وليس في الإمكان أبدع مما كان، وكل ذلك مما لا يتلائم مع النزعة المعيارية للتكليف، حتى أن العارف ابن عربي أبدى تحيراً في طبيعة هذه النزعة، كالذي يلاحظ في أبياته الشعرية التالية:
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلّف
إن قلت عبد فذاك نفي أو قلت رب فما يكلف
وكم قلت
حيرة من حيرة صدرت ليت شعري ثم من لا يحار
أنا مجبور ولا فعل لي فالذي أفعله باضطرار
والذي أسند فعلي له ليس في أفعاله بالخيار
أنا إن قلت أنا قال لا وهو إن قال أنا لا يغار
فأنا وهو على نقطة ثبتت ليس لها من قرار
وكم قلت
تعجبت من تكليف ما هو خالق له وأنا لا فعل لي فأراه
فيا ليت شعري من يكون مكلفاً وما ثم الا الله ليس سواه[16]
[1] محمد اقبال: تجديد التفكير الديني في الاسلام ص189ـ190.
[2] الشافعي: الرسالة، ص22.
[3] ابو بكر الباقلاني: الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق وتعليق وتقديم محمد زاهد بن الحسن الكوثري، مؤسسة الخانجي، الطبعة الثانية، 1963م، ص13ـ20.
[4] تاريخ ابن خلدون، ج1، ص465.
[5] الهمداني: شرح الأصول الخمسة، ص510. وتمهيد الأصول في علم الكلام، ص161. ومقداد السيوري الحلي: إرشاد الطالبيين، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، 1405هـ، ص273ـ274.
[6] انظر الفصل الاول من: العقل والبيان والاشكاليات الدينية.
[7] الحر العاملي: الفوائد الطوسية، المطبعة العلمية، قم، 1403هـ، ص402 .
[8] الشهرستاني: الملل والنحل، ص22ـ23.
[9] جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت، ج2، ص17.
[10] الشاطبي: الموافقات، ج4، ص115ـ116. كذلك: محمد عطية الابراشي وأبي الفتوح محمد التوانسي: سلسلة تراجم أعلام الثقافة العربية ونوابغ الفكر الاسلامي، مكتبة نهضة مصر، المجموعة الأولى، ص19.
[11] الهمداني: شرح الأصول الخمسة، ص599ـ600.
[12] بدر الدين الزركشي: البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، دار المعرفة، بيروت، طبعة ثانية، ج2، ص75ـ76.
[13] رسالة مراتب العلوم، ضمن رسائل ابن حزم الاندلسي، ج4، ص78ـ83.
[14] بصدد ما تفعله بعض الاحتياطات العملية من أضرار انظر: المحقق أبو القاسم القمي: قوانين الأصول، طبعة حجرية، ص446.
[15] فقه الامام جعفر الصادق، ج1، ص32ـ34.
[16] ابن عربي: لطائف الأسرار، تحقيق وتقديم أحمد زكي عطيه وطه عبد الباقي سرور، دار الفكر العربي، الطبعة الاولى، 1380هـ ـ1961م، ص41. وكتاب الجلالة، من رسائل ابن العربي، جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 1367هـ ـ1948م، ج1، ص12.