-
ع
+

بدايات نشأة الحركة العقلية في الإسلام

يحيى محمد 

إن أقدم ما وصل إلينا بشأن الحركة العقلية لما سمي فيما بعد بعلم الكلام هو الرسالة المنسوبة إلى الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفى سنة 101هـ) في القدر، ويرجع تأليفها إلى (سنة 73هـ)، وهي أقدم من رسالة القدر للحسن البصري (المتوفى سنة 110هـ)[1]. وما تمتاز به رسالة إبن الحنفية هو أنها ذات منحى جدلي لا تختلف في العموم عن الطريقة العامة لعلم الكلام، فهي تفترض حضور خصم تحسم معه الحوار بالصيغة الشرطية، فتفترض جميع الأجوبة التي يمكن أن يطرحها الخصم لتوقعه في فخ النتائج الباطلة ومن ثم تدلل على بطلان مقدماتها. ويلاحظ في هذه الرسالة أيضاً أن صورة المجادلة تتخذ شكلاً مزدوجاًَ، فهي تنطلق تارة من منطلقات النص وتتبع هداه، وتلجأ تارة أخرى إلى الإعتبارات العقلية الصرفة[2].

وما تريد أن تكرسه هذه الرسالة هو دعم المشيئة الإلهية إلى حد قريب من نظرية الجبر أو الكسب الأشعرية. وبالتالي فهي تتلاءم مع النزعة التي تلجأ إليها السلطة الأموية الحاكمة. مع أن الحسن ينتمي إلى الأسرة الهاشمية المعارضة لهذه السلطة. لكن في المقابل هناك من المعارضين من يقول بنظرية الجبر التي وظفتها السلطة الأموية في قضاياها السياسية، كما هو الحال مع جهم بن صفوان. وعليه لا مبرر للطعن في نسبة الرسالة إلى الحسن من هذه الناحية - السياسية -، وإن كانت هناك بعض الشكوك، سيما وقد نُقل بأن غيلان الدمشقي (المتوفى سنة 105هـ) قد درس في المدينة على يد الحسن، وتأثر به في القول بالإعتزال، لكنه مع ذلك يقول بالتفويض وحرية إرادة الإنسان. كذلك فإن الهمداني المعتزلي يراه من أوائل المعتزلة وأنه لم يخالف أباه وأخاه إلا في نظرية الإعتزال، إذ كتب فيه كتابه (في الإعتزال). وعلى يد هذه الأسرة العلوية تربى واصل بن عطاء المُمذهب للفرقة الإعتزالية[3]. إضافة إلى أن هناك إثنين آخرين بذلك الاسم، كما ينص عليهما إبن النوبختي في (فرق الشيعة)، وهما الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية والحسن بن علي بن الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية، وأن كلاً منهما كان إماماً من أئمة الكيسانية أو المختارية، وقد عرفت هذه الفرقة بالغلو، كما وظهر بين أصحابها أفكار الجبر والتشبيه[4]، وهذا ما جعل الإمام يحيى بن الحسن (المتوفى سنة 298هـ) يرد على الحسن بن الحنفية في نظريته الجبرية؛ بكتاب اطلق عليه (الرد والإحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية)[5].

مع ذلك يمكن إعتبار عملية التنظير الأولى للحركة العقلية تعود إلى بداية القرن الثاني للهجرة، كما برزت لدى جهم بن صفوان (المتوفى سنة 128هـ). فقد أسس جهم منظومته المعرفية طبقاً للعقل، وهو بذلك يسبق المعتزلة من حيث المنهج العقلي، كما أنه يسبقهم في العديد من قضايا المحتوى. إذ كان كثير الإعتماد والتعويل على الحركة العقلية في التفكير والاستدلال. فمن ذلك إعتقاده بأن الله عبارة عن ذات فحسب، خشية تشبيهه بشيء من خلقه، فهو بالتالي لا يجيز وصفه بأي وصف يعرّضه إلى هذا التشبيه، فليس هو بشيء ولا من شيء ولا فيه، ولا يقع عليه أي صفة، لذلك فهو ينفي كونه حياً وعالماً، لأن هذه الأوصاف مناطة بمخلوقاته، والإشتراك بها يعني الشرك لها في الأزلية[6]. لكنه مع ذلك يثبت كونه قادراً فاعلاً خالقاً، بإعتبار أن هذه المواصفات لا يوصف بها شيء من خلقه. ويعود سبب نفيه لوصف الله بالعلم، هو لأن العلم عنده حادث لا قديم، كما أن هذا العلم لا محل له، يتعدد بعدد الموجودات المعلومة. وكما قال في استدلالاته العقلية لهذا الموضوع: «لا يجوز أن يعلم - الله - الشيء قبل خلقه، لأنه لو علم ثم خلق، أفبقي علمه على ما كان أم لم يبق؟ فإن بقي فهو جهل، فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد. وإن لم يبق فقد تغير، والمتغير مخلوق ليس بقديم.. وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو: إما أن يحدث في ذاته تعالى، وذلك يؤدي إلى التغير في ذاته، وأن يكون محلاً للحوادث. وإما أن يحدث في محل فيكون المحل موصوفاً به، لا الباري تعالى، فتعين أنه لا محل له»[7]. كما استدل عقلياً على القدرة الحادثة للإنسان ليثبت الجبر الإلهي بقوله: «إن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالإستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار. وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيمت السماء وأمطرت، واهتزت الأرض وأنبتت، إلى غير ذلك. والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال كلها جبر. وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً»[8]. ومن استدلالاته العقلية الأخرى، رأى أن حركات الخلائق في العالم الآخر- الجنة والنار - يجب أن تكون منقطعة لا خالدة. وهو في هذا الإعتقاد يقيس حركات الآخرة على حركات الابتداء، فكما أنه لا يمكن تصور حركات غير متناهية أولاً، فكذلك لا يتصور حركات لا تتناهى آخراً. وهو قد حمل قوله تعالى ((خالدين فيها)) على المبالغة والتأكيد دون الحقيقة، مثلما يقال: «خلّد الله ملك فلان». كما أنه استشهد على إعتقاده في الإنقطاع بقوله تعالى: ((خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربّك))[9]، إذ الآية فيها شرط واستثناء، بينما الخلود والتأبيد لا شرط فيه ولا استثناء[10].

لا شك أن مثل هذا التفكير العقلي لجهم وطبيعة الاستدلال الذي ينطوي عليه عموماً، نجده عينه لدى علم الكلام في كافة مدارسه ومراحله وتطوراته. فهو على سبيل المثال إن كان يتفق معه الأشاعرة في طبيعة الاستدلال من أن الفعل والخلق هو من خصوصيات الله دون أن يشاركه به أحد من خلقه، خشية الوقوع في حد الشرك، فكذلك يتفق معه المعتزلة أيضاً في علة القول بخلق القرآن وإستحالة رؤية الله، طبقاً لنفي الصفات الموجبة للتشبيه والشرك، والتي منها صفة الكلام والجسمية.

والمهم في طريقة جهم ما نُقل عنه - منذ بكارة الإعتماد على العقل - بأنه قائل بأسبقية الوجوب العقلي على السمعي، وذلك في عبارة مجملة كما يذكرها الشهرستاني، إذ ينص على أنه كان موافقاً «للمعتزلة في نفي الرؤية، وإثبات خلق الكلام، وايجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع»[11].

بيد أننا نشك بأن يكون جهم قد حدد فعلاً ذلك الوجوب وأسبقيته، سيما وأن هذا القول لم يرد عن المعتزلة الأوائل، ولم ينقل عنهم شيء حول ذلك، بالرغم من أهميته وحساسيته. فربما كان تاريخ القول بالواجبات العقلية - كما يقول المعتزلة - يعود إلى أبي الهذيل العلاف (المتوفى سنة 226هـ)، إذ نُقل عنه قوله في المكلّف قبل ورود السمع، فذكر أنه «يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإنْ قصّر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حُسن الحَسن وقُبح القبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والجور»[12].

كما اتبعه في ذلك ابراهيم بن يسار النظام (المتوفى سنة 231هـ)، فهو أيضاً يرى بأن الإنسان قبل ورود السمع إن كان عاقلاً ومتمكناً من النظر فإنه يجب عليه النظر والاستدلال لمعرفة الباري، كما أنه يقول بالحسن والقبح العقليين في كل ما يتصرف به الإنسان من أفعال[13]. وقد عُرف عن النظام بكثرة تأويله للقرآن الكريم بحجة النظر العقلي، بل ويرى أن هذا النظر يمكنه أن ينسخ الأخبار. لهذا ألّف إبن قتيبة (المتوفى سنة 276هـ) كتابه (تأويل مختلف الحديث) للرد عليه وعلى أصحابه الذين أولوا الآيات وأبطلوا الكثير من الأحاديث والأخبار إستناداً إلى حجة النظر العقلي[14].

وأقدم ما وصلنا بشأن تحديد العلاقة بين العقل والنقل هي رسالة القاسم الرسي (المتوفى سنة 246هـ) والمسماة بـ (أصول العدل والتوحيد)، إذ تتبنى تأسيس حجة النقل على العقل. فالرسي يقسّم الحجج على الترتيب إلى ثلاث: العقل والكتاب والرسول. فبالعقل يعرف الله بعدله وتوحيده وصفاته. وبالكتاب تعرف أوامر الله ونواهيه وكل ما يرضيه وما يسخطه. كما أن بالرسول تتحدد كيفية إتّباع أوامر الله واجتناب نواهيه. وهو يجعل من العقل أصلاً لكل من حجة الكتاب وحجة الرسول، بإعتبار أنهما قد «عُرفا به ولم يعرف بهما»[15].

ويلاحظ أن التأسيس الذي طرحه هذا الإمام (الزيدي) ليس تأسيساً معيارياً بالمعنى اللاهوتي المعبّر عن بناء الوجوب الشرعي على الوجوب العقلي، أو على الأقل إعتبار الوجوب الأخير سابقاً ومتقدماً على الوجوب الأول كما ألفناه لدى النظّام وقبله العلاف وربما قبلهما جهم بن صفوان إن صحّ النقل عنه، بل يمكن إعتباره من وجه تأسيساً معرفياً يلزم عنه البناء المعياري. ومن الواضح أن بين التأسيسين علاقة عموم بخصوص، فمن الناحية المنطقية أن القول بالتأسيس المعياري ومنه اللاهوتي لا بد أن يقتضي ويتضمن التأسيس المعرفي. بينما القول بهذا الأخير لا يقتضي بالضرورة أن يكون متضمناً للأول.

ليس ذلك فحسب، بل قد شهد النظام المعياري في مراحله الأولى وجود حركة عقلية تجلّت بتأسيس الأصول المعرفية، مما جعل المذاهب بعضها يتميز عن البعض الآخر، كما يلاحظ عند أهل الإعتزال، إذ تحددت أصولهم بخمسة مبادئ عامة، هي (التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). ونُقل أن أبا الهذيل العلاف «صنف كتاباً للمعتزلة وبيّن لهم مذهبهم وجمع علومهم وسمى ذلك الأصول الخمسة، وكلما رأوا رجلاً قالوا له خفية: هل قرأت الأصول الخمسة؟ فإن قال: نعم، عرفوا أنه على مذهبهم»[16]. إلا أنه جاء في كتاب (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) للملطي، عبارة يتضمن فحواها أن هذه الأصول تعود في تأسيسها إلى واصل بن عطاء، مؤسس المذهب الإعتزالي ذاته، إذ جاء في الذكر: «وبالبصرة أول ظهور الإعتزال، لأن أبا حذيفة واصل بن عطاء جاء من المدينة. ويقال: معتزلة بغداد أخذوا الإعتزال من معتزلة البصرة. أولهم بشر بن المعتمر، خرج إلى البصرة فلقي بشر بن سعيد وأبا عثمان الزعفراني فأخذ عنهما الإعتزال، وهما صاحبا واصل بن عطاء، فحمل الإعتزال والأصول الخمسة إلى بغداد»[17].

ولو أن هذا النقل صحيح لكان واصل بن عطاء يمثل نقطة بداية ونهاية للمعتزلة، فتاريخ الأصول الخمسة عبارة عن تاريخ الإعتزال ذاته. بل الأهم من ذلك هو أن واصل بن عطاء قد حدد المصادر العامة لطريقة الإنتاج المعرفي لكل من علم الكلام والفقه معاً. فكما يُنقل عن الجاحظ أنه اعتبر هذا المتكلم «هو أول من قال: الحق يعرف من وجوه أربعة: كتاب ناطق، وخبر مجمع عليه، وحجة عقل، أو إجماع من الأمة». لذلك يقول الجاحظ في حقه: «وكل أصل نجده في أيدي العلماء في الكلام وفي الأحكام فإنما هو منه»[18].

على أن تحديد الجدل العقلي كما عند الحسن بن محمد بن الحنفية، وتحديد جهم لطريقة الاستدلال العقلي، وكذا تحديد واصل لأصول علم الكلام ومصادر الإنتاج المعرفي المعياري، فضلاً عن تأسيس الشريعة على العقل معرفياً ومعيارياً كما هو الحال عند العلاف والنظّام والرسي وغيرهم، كل ذلك قد جعل من نشأة علم الكلام وتطوره عبارة عن نشأة وحركة عقلية. فتاريخ العقل (المعياري) في الفكر الإسلامي يعود إلى تاريخ علم الكلام قبل أي علم آخر، رغم أن بداية نشوء هذا العلم مرتبطة أساساً بالأحداث السياسية والإجتماعية التي عصفت بالدولة الأموية خلال النصف الثاني من القرن الأول. فقد كانت قضية الجبر والاختيار، وكذلك قضية الإعتزال، من القضايا الأولى التي ربما وقف خلفها الصراع الآيديولوجي السياسي بين السلطة الحاكمة التي تشبثت بالجبر والإعتزال، وبين المعارضة التي غالباً ما لجأت إلى تبني فكرة حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان. فلا يبعد أن يكون هذا الصراع سبباً في إنتاج بعض المعارف التي حددت مسار التمذهب في الفكر الإسلامي، ومن ذلك قضية مرتكب الذنوب الكبيرة، إذ أنها تمس بالصميم ما تقوم به السلطة الحاكمة من كبائر، وهو ما أدى إلى ظهور المعتزلة. فعلى هذا الفرض يكون الإعتزال قد نشأ نشأة لها إرتباط ما بالآيديولوجيا السياسية، سيما إذا ما سلمنا بالرأي الذي يقول بأن نشأة المعتزلة بدأت منذ أن اعتزل واصل بن عطاء درس الحسن البصري لأنه قد استقل برأي يخص صاحب الكبيرة، كما جاء عن بعض أصحاب الفرق والمقالات[19].

مع هذا نذكّر بأن تأثير العامل السياسي على تحديد مسار التمذهب في جملة من المعارف لا يمكنه أن ينسحب على سائر التشكيلة المنظومية المتأصرة بأواصر الإنشداد المنطقي داخل المنظومة المعرفية. مما يعني أن علة النظام والتأصر لا تعود إلى السياسة ونوعها، بل إلى حضور المنطق الجواني للتفكير طبقاً للأصل المولّد الفعال.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهو أن نشأة علم الكلام لم تكن- من حيث الأساس - منبعثة بدافع مصارعة الطوائف اللادينية؛ كالثنوية والغنوصية وغيرها. صحيح أن لهذا الصراع نتائجه الهامة على تطور وازدهار علم الكلام، سيما في ما يتعلق بالمعتزلة، إذ أنها ترعرعت وازدهرت نتيجة الصراع مع المانوية، وهو الصراع الذي مارسته منذ البداية، وذلك على يد واصل بن عطاء مؤسس المذهب، إذ صنف كتاباً يتضمن بعض المسائل التي ردّ فيها عليهم[20].. لكن هذا لا يعني بأن النشأة الإعتزالية والكلامية عموماً كانت لهذا الدافع من الصراع. فقد سبق أن لاحظنا بأن المشاكل التي عنى بها الكلاميون هي مشاكل داخلية تخص في غالبها الطابع المعياري من التفكير، كما هو الحال مع قضايا التشبيه والقضاء والقدر ومرتكب الكبيرة والإعتزال وغيرها.

وإذا كنّا قد عرفنا بأن تاريخ علم الكلام يعبّر عن تاريخ العقل في الفكر الإسلامي، وكذا العكس صحيح أيضاً، إذ أن تاريخ هذا العقل يعبّر - أساساً - عن تاريخ علم الكلام ذاته، أمكننا أن نتساءل عن علة الممارسة العقلية لدى علماء الكلام كأساس للتفكير مثلما هو الحال عند جهم والمعتزلة، بل ونتساءل عن علة الإصرار عليه حتى لدى الأشاعرة والمتأخرين منهم بالخصوص؟ فمن الواضح - وكما بيّنا - أنه يتعذّر ردّ المسألة إلى مناوأة المذاهب غير الإسلامية بحجة الإحتكام إلى أداة مشتركة تتمثل بالعقل ذاته. فهذا التحليل وإنْ بدا منطقياً سيما إذا ما علمنا بحصول تأثر مبكر ظهر لدى المذاهب الإسلامية بالمذاهب الأخرى، وعلى رأسها مذهب فلاسفة اليونان، لكن الملاحظ أن العقل الذي شيّده الكلاميون هو عقل معياري، سواء في دوافعه أو في غالب إنتاجه من المعارف، وقد ظل الكلاميون محافظين على هذه البنية الثابتة الأصيلة طيلة تاريخ علم الكلام، منذ البداية وحتى النهاية. وهم حتى في بحوثهم الخاصة حول قضايا الطبيعة والوجود كانوا يستهدفون القضايا المعيارية. وسبق لإبن باجة أن اعتبر علماء الكلام لم يبحثوا في تلك القضايا لأجل التحقيق فيها مثلما يفعل الفلاسفة، بل كانوا يبحثون فيها لأجل مناقضة بعضهم بعضاً[21]. هكذا فتأثر الكلاميين بغيرهم من المذاهب اللاإسلامية وصراعهم معهم لم يغير جوهراً من طبيعة التأسيس المعياري للعقل الذي شيّدوه حتى في أوج حالات المزج والإختلاط، كما هو حال المتأخرين منهم، إذ مزجوا علمهم بعلم الفلسفة ذي العقل الوجودي.

بذلك يصبح من الواضح أن حضور العقل المعياري في الفكر الإسلامي لا علاقة له بالنزعات اللاإسلامية، فإرتباطه في الحياة الإسلامية إرتباط وثيق، وجدوى حضوره هو أنه جاء لتسديد وتغطية القضايا التي أثارها الخطاب والتي تركها «سائبة» دون تغطية صريحة وكلية. ففارق كبير بين معاملة الخطاب - كما في القرآن الكريم - للقضايا التي أثارها، وبين معاملة علم الكلام - ذي العقل المعياري - لها. فتعامل الأول هو تعامل «تلقائي» لم يتخذ صورة «ممنطقة»، فهو كما يصفه الإمام علي بن أبي طالب إن صحّ النقل عنه «حمال ذو وجوه». في حين اتصف تعامل علم الكلام وغيره من العلوم المعيارية بالتمنطق إلى أبعد الحدود، مما مكّنها من التصدي لفهم الخطاب الديني من جهة، ولتأسيس النظر وإنتاج القبليات المعرفية من جهة أخرى.

وبحسب علم الطريقة، تتجسد علاقة علم الكلام بالخطاب الديني بنحو من التأسيس من جهتين، فلعلم الكلام تأسيس خارجي يتعلق بإثبات المسألة الدينية. كما له تأسيس داخلي يتعلق بطريقة فهمه للخطاب. وفي كلا الحالتين، سواء من حيث التأسيس الخارجي أو الداخلي للخطاب، يعد العلم الكلامي - في غالبه - علماً عقلياً، دون أن يتنافى ذلك مع ما آل إليه من خصائص آيديولوجية مذهبية جعلته يفقد الطرح الابستيمي.

أخيراً فإن مطابقتنا لنشأتي العقل المعياري وعلم الكلام، بحيث أن أحدهما - من حيث النشأة - كان عين الآخر، يجعلنا نبتعد عن التحديدات الآيديولوجية لنشأة ذلك العلم كما فعلها الإمام الغزالي الذي حاول إرجاع هذه النشأة إلى مرحلة تعد حالة من حالات رقي علم الكلام لا نشأته. وقد اتبعه في ذلك إبن خلدون الذي ضمّن تعريف الكلام طابعاً أشعرياً.

 



[1]  انظر هذه الرسالة في: رسائل العدل والتوحيد، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1407هـ ـ1987م، ج1، ص111ـ122.

[2]  انظر هذه الرسالة المنشورة مع رسالة عمر بن عبد العزيز في: بدايات علم الكلام في الإسلام، تعليق يوسف فإن اس، المعهد الالماني للأبحاث الشرقية ببيروت، 1977م.

[3]  نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص320ـ321.

[4] انظر تعليق محمد عمارة في: رسائل العدل والتوحيد، ج2، ص114.

[5] نشر هذا الكتاب في نفس المصدر السابق، ج2، ص112ـ280.

[6]  الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، مطبعة الدولة في استانبول، 1934م، ص75 وما بعدها. كما انظر: أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، عُني بتصحيحه هـ. ريتر، مطبعة الدولة، استانبول، 1929م، ج1، ص280.

[7]  الملل والنحل، ص36.

[8]  المصدر السابق، ص36.

[9]  هود/107.

[10]  الملل والنحل، ص37.

[11]  المصدر السابق، ص37.

[12]  نفس المصدر، ص24.

[13]  نفس المصدر، ص26.

[14]  إبن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، مصدر سابق، 1326هـ، ص53 و104.

[15]  الرسي: أصول العدل والتوحيد، ضمن: رسائل العدل والتوحيد، مصدر سابق، ج1، ص124ـ125.

[16] نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص417.

[17]  التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، ص30.

[18]  نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص395. علماً بأن النشار تصور أن الوجوه الأربعة التي أدلى بها واصل بن عطاء «هي تساوي حتماً أصول الفقه الأربعة: القرآن والسنة والقياس والإجماع». لكن الواقع هو أن حجة العقل لا تساوي القياس الفقهي. فمن جهة أن تلك الحجة هي أعم من إعتبار الجانب العقلي أو الإجتهادي في الطابع القياسي الفقهي. كما من جهة أخرى أن القياس يحمل دلالة الإرتباط بالنص بخلاف ما هو الحال في حجة العقل الذي له دلالة الإستقلال، فأحدهما لا يعني الآخر. ومنه نفهم لماذا لم يرادف العلماء بينهما، حيث وضعوا العقل كمصدر أساس للعقيدة والكلام ولم يضعوا القياس، ووضعوا القياس كمصدر للفقه ولم يضعوا العقل. وبعضهم وهو ينص على سبر أصول الأدلة ميّز بين القياس والعقل، كما هو الحال مع الباقلاني حيث عدد أصول الأدلة وحصرها بخمسة وذكر منها أصل العقل وكذلك أصل القياس والإجتهاد، فضلاً عن الكتاب والسنة والإجماع (الباقلاني: الإنصاف، تحقيق وتعليق وتقديم محمد بن زاهد بن الحسن الكوثري، مؤسسة الخانجي، الطبعة الثانية، 1963م، ص19ـ20).

[19]  الملل والنحل، ص22ـ23.

[20]  إبن المرتضى: طبقات المعتزلة، عني بتصحيحه: سوسنه ديفلد ـ فلزر، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1961م، الطبقة الرابعة (واصل بن عطاء)، ص35.

 [21] إبن باجة: شرح السماع الطبيعي لأرسطو طاليس، تحقيق ماجد فخري، دار النهار.

comments powered by Disqus