يحيى محمد
تخضع المعرفة البشرية لسلطتين مختلفتين، احداهما ابستيمية (عقلية) كما عالجناها في (السببية الاعتقادية وقضايا المعرفة)، والاخرى ارادية (نفسية). لكن الحكم النهائي يكون من نصيب السلطة الثانية لا الاولى. فمن حيث الواقع ان الخيار النفسي هو من يصدر القرار الحاسم النهائي.
فمنطقياً يفترض ان تتصف المعرفة الاستدلالية بالموضوعية الخالصة، لكن للبشر تركيبة نفسية معقدة تجعلهم يضمنونها في الغالب شائبة الانحياز الذاتي نتيجة عوامل واسباب مؤثرة كثيرة؛ تجمع بين الواضح والخفي، بوعي وبغير وعي. وهو ما يجعل نتائج المعرفة منحازة، وتفقد في كثير من الاحيان السيطرة عليها. فهناك اسباب بيئية وثقافية ونفسية وبايولوجية تجعل الشخص يميل وينحاز الى تحديد النتائج دون ان يكون لها علاقة بالدليل الابستيمي المنطقي او الموضوعي، ويمكن ان نشاهدها بكثافة ووضوح لدى عامة البشر، كما تنبسط ايضاً على نتاجات العلماء والمفكرين لدى الكثير من الحقول المعرفية. وفي الشأن الديني سبق ان شخّص الامام الغزالي هذه السلبية لدى اغلب من توسموا باسم العلم كما في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد)، مستشهداً بشاهد من النزاع الدائر بين المعتزلة والاشاعرة. وقد عرضنا نصه في اكثر من مناسبة لأهميته الفائقة.
وبلا شك ان مجالات المعرفة تختلف فيما بينها من حيث امتلاك بعضها مساحات مؤهلة للانحياز الذاتي خلافاً لغيرها التي تنعدم فيها مثل هذه المساحات او تضعف بشدة. فمثلاً في الرياضيات لا شيء يدعو البشر للانحياز الذاتي حول النتيجة الحاصلة من جمع الاثنين مع الثلاثة، كما لا شيء يدعوهم في الغالب للانحياز حول معرفة مميزات العناصر الكيميائية، او الثقالة او العلاقة التي تربط الكهرباء بالمغناطيسية مثلاً. لكن مع هذا قد تصاب مثل هذه المعارف بشيء من الانحياز لاسباب متعددة، كتزوير نتائج البحث لغرض الحصول على الامتيازات الوظيفية مثلاً[1]، او لدوافع وطنية احياناً، مثل تمسك الفرنسيين أكثر من غيرهم بنظرية لامارك الفرنسي في التطور البايولوجي، بعد ان نُبذت في انجلترا لتحل محلها نظرية داروين الانجليزي. ومثل رفض البريطانيين لنظرية التضخم الكوني للفيزيائي الامريكي آلان جوث بداية ثمانينات القرن الماضي لذات الشعور الوطني. كذلك من بين اسباب الانحياز ما يحصل من تقليد للشخصيات العظيمة، مثلما واجهته نظرية يونغ في موجية الضوء من استخفاف وسخرية لدى المؤسسة العلمية في بريطانيا التي تنظر إلى أي معارضة لأفكار نيوتن بأنها «هرطقة تقريباً، وبالقطع عمل غير وطني»[2].
ورغم ان مجالات العلم الطبيعي تمتلك منافذ محدودة للانحياز مقارنة بغيرها من المعارف، بمعنى ان الموضوعية هي الطاغية في البحث، لكن مع هذا اتخذ العلم احياناً شكلاً خطيراً من الانحياز الواعي وترسيمه على حقول البحث بصفته منهجاً وأصلاً موجهاً للتفكير، كما تساعد عليه بعض مساحات هذا البحث الموصوف بالموضوعية عادة. وقد اشتهر هذا النهج الانحيازي لدى دائرة النظرية الداروينية في علم البايولوجيا.. وهو موضوع سلطنا عليه الضوء في محل اخر.
وعلى عكس العلم تتضخم منافذ الانحياز وتتسع مساحاته لدى الفكر الديني، ومن السهل ان تظهر اثاره لدى ابحاثه العلمية المختلفة، حيث التشابك بين صور الادلة الموضوعية ووحل الانحياز.
ان من ابرز مصاديق الانحياز الذاتي على المستوى الديني ما يظهر في الجدل المذهبي الذي يتخذ طابع (حوار الصم). فهناك إرادة واعية لرفض نتائج الخصم سلفاً، وان الهدف من الجدل هو محاولة اقناعه او الانتصار عليه بسلاح الفكرة المحصنة قبلياً. ويُوظف لذلك قياسات عقلية ونقلية يعتبرها كل طرف واضحة تماماً، فكل فريق ملتزم بنتائجه الثابتة دون مبالاة لما يطرحه الاخر من استدلال غير الرد عليه، وهي تعطي دلالة على ان ما يتحكم في هذا الجدل ليس الاستدلالات ذاتها بل الانحياز الذاتي المتعلق بالمذهب المتبع، وهو خاضع للمزاج المذهبي، وفيه من السفسطة الشيء الكثير.
وفي الوسط الشعبي يكون التوجه الانحيازي بارزاً، بحيث تطغى صور الانحياز على الادلة في اوجهها الضعيفة او الوهمية. لكن في كلا الحالين العلمي والشعبي يطغى الانحياز على الموضوعية. وتبقى القضايا الدينية مجالاً خصباً للتشجيع عليه، مع الاعتراف بتضمنها مساحات اخرى غير مؤهلة له عادة.
ما زلنا لا نتقبل نقد الاخر ولا نعيره اهمية على وجاهته.. وكان من ضمن ذلك دعوات الاصلاح الخارجية التي تطالب المؤسسات الدينية والتعليمية بانتهاجها، لكنها لا تجد آذاناً صاغية إن لم يُستجب لها وفق ما تتطلبه الحاجات السياسية. وهي حالة شاملة لا تفسرها الظروف السياسية، بل تعود الى امزجتنا المعرفية.
ويصدق هذا الحال على مختلف المؤسسات العلمية والفلسفية والدينية وغيرها، حيث تلجأ الى تحكيم أمزجتها المعرفية سلباً ازاء كل انتقاد جوهري واحياناً ثانوي عندما يصدر من خارج سياجاتها المغلقة، مهما كانت الانتقادات جديرة بالنظر والاحترام وتحمل ما يجعل لها فائدة معرفية.
فعلى صعيد المؤسسة العلمية ليس من السهل تمرير نقد لتوجهاتها السائدة، او لفلسفتها وانحيازاتها الخاصة، وكما تم وصف العلماء بانهم في الغالب عاطفيون وعميان عندما يتعلق الامر بنقد ارائهم الاساسية. وكان فيلسوف العلم كارل بوبر قد اعتبر (عام 1972) عدداً من الداروينيين الجدد عمياناً للصعوبات التي تلاقيها الداروينية بما لا تعد ولا تحصى.
وقد يترتب على النقد او الفكرة المخالفة للمجرى العلمي العام عقوبات؛ من قبيل الطرد من الوظيفة مع اتهامات كثيراً ما تخرج عن الانصاف والاعتدال، كالذي نشهده من التزمت الحاصل لكل ما يؤشر على ان له علاقة ما بانصار حركة التصميم الذكي[3]. فالجهة المترسمة للعلم ترفض النتائج التي تنتهي اليها هذه الحركة وما على شاكلتها مهما كانت مستوفية للمتطلبات العلمية بعيداً عن الفكر الديني وغيره. فذلك ينبعث من ان هذه المؤسسة منحازة سلفاً ضد فكرة الذكاء غير الطبيعي، او الذكاء خارج اطار مملكتنا الكونية.. وحتى ان الاشارة الى عنوان التصميم الذكي دون الاشارة الى المصمم ان كان طبيعياً او غير طبيعي فانه يقلق هذه المؤسسة ويجعلها منزعجة، وتخشى ان تكون هناك ايادٍ تعبث في العلم وترده الى دائرة إله الفجوات، ومن ثم التحكم الديني في العلم. وقد آلت هذه المؤسسة على نفسها ان تتقبل (صدفة الفجوات) كما يسميها البعض، أو آلهة الصدف والعشوائية مهما كانت الفكرة ضحلة وسخيفة على ان تستبدلها بالذكاء الذي تحسبه عائداً الى إله الفجوات.
وإله الفجوات هو على شاكلة «سحر الفجوات»، حيث لا تُترك حادثة تمر على الفرد منا من دون تفسير ظاهر إلا ويتم ربطها بالسحر وما على شاكلته؛ كالذي تروج له اليوم الكثير من القنوات الفضائية، خاصة تلك التي يكون مقرها لبنان.
وعلى الصعيد الديني كثيراً ما يقدم المثقفون نقداً معرفياً للمؤسسة العلمية الدينية، لكنهم لا يلقون آذاناً صاغية، بل يلقون السخرية ووصف معارفهم بالضحلة، باعتبارها انتقادات آتية من خارج الاسوار المغلقة[4]. وكان من الممكن الاستفادة منها حينما تكون موضوعية..
نعود لنتساءل: ما الذي يتحكم في انحيازاتنا وامزجتنا المعرفية؟ لماذا لا يخلص كل من التفكير العلمي والديني وغيرهما للدليل الصرف من دون انحياز؟ فهل الانحياز محتّم علينا؟ هل اننا بين خيارين فقط: إما الدليل او الانحياز الذاتي؟ أم لا محيص من وجود الامتزاج بينهما؟..
لقد تناول المفكر الايراني عبد الكريم سروش في (الصراطات المستقيمة) موضوع العوامل المؤثرة على قناعات الناس والتنافس فيما بينها ضمن عاملين، هما: الدليل المعرفي، والتأثير الوجودي؛ كما يتمثل في التربية والثقافة والبيئة والمصالح والوراثة وغيرها من الاسباب التي تجعل الناس ينقادون من دون تفكير الى قناعات معينة دون اخرى، بل حتى العلماء مبتلون بهذا التأثير الوجودي. لذلك اعتبر ان هناك نوعين من التفكير، احدهما قائم على الدليل او المدلل، والاخر قائم على العلة او المعلل. واشار الى انه عندما تكون الادلة متعارضة ويحصل التكافؤ بينها، فسوف يبرز دور العلل في الترجيح، معتبراً ان المعلل متفوق في الغالب على المدلل.
ان تقسيم التفكير الى معلل ومدلل، او الى (علّي ودلّي)، هو تقسيم رشيق منمق، لكنه لا يخلو من شائبة تجعله لا يفي بكافة ما نلاحظه من ظواهر علم النفس والاجتماع المعرفي. فبداية نحن لسنا أمام حتميات مستقلة بعضها يعتمد على العوامل المدللة فيما يعتمد البعض الاخر على العوامل المعللة، فقد يكون المدلل معللاً في قالب دليله، كما قد يكون المعلل مكبوحاً أمام الدليل رغم تنوع اسبابه. وكان سروش على وعي من ان الادلة يمكن ان تتحول الى علل[5].
ومن حيث التفصيل يختلط الدليل في غالب الاحيان بالعوامل المعللة المؤثرة، سواء على نحو عامة الناس، ام خواصهم من العلماء والمفكرين. فعموم الناس يستخدمون الدليل على نحو التقليد فيخضعون لعوامل التأثيرات المعللة ومنها التقليد ذاته، وتكون قناعاتهم مبتنية على تلك العوامل حتى لو تصوروا بصدق انهم يتبعون الدليل ذاته دون ادراك شرك التقليد. وعادة ما يكون للإلفة والرغبة الدور الحاسم في اتخاذ قرارهم المنحاز.
أما على صعيد أهل العلم والفكر فلدينا حالات مختلفة؛ بعضها يمكن تفسيرها وفق قاعدة التمايز القطبي بين (العلّي والدلّي)، فيما يخرج البعض الاخر عن هذا التمايز.
وللايضاح نقول:
ان من المنطقي تعليل التوجهات الموضوعية والانحيازات الذاتية وفق العوامل المذكورة، وذلك فيما لو كنا نشهد موقفين متسقين، احدهما الخضوع للدليل الصرف، والثاني الخضوع للانحياز الذاتي وفق الرغبات والعوامل البيئية والتكوينية، دون اعتبارات اخرى مؤثرة غير ما يتطلبه الدليل. لكن ما نلاحظه هو وجود موقف ثالث متميز رغم قلة مصاديقه كظاهرة بشرية، فقد يكون للبعض منا رغبة وانحياز الى اعتقادات معينة، إلا انه مع ذلك يضطر للاقرار بالحقيقة المعارضة كما تبدو له بالدليل خلاف رغباته وتمنياته الناتجة عن العوامل المعللة.
ومن ثم فلدينا حالات مختلفة تتضمن الاختلاط بين (العلّي والدلّي)، دون ان يكون التمايز بينهما قطبياً، وذلك كالتالي:
1ـ حالة ما اذا كان الانحياز الذاتي طاغياً رغم وجود الدليل الموضوعي، أي غلبة المعلل على المدلل، ومنها توظيف المدلل لصالح المعلل.
2ـ حالة ما اذا كان الدليل الموضوعي هو الطاغي رغم وجود عوامل الانحياز الذاتي، أي غلبة المدلل على المعلل، ومنها حالة الانتصار لموضوعية الدليل رغم مخالفته للانحياز الذاتي القائم على الوعي والرغبة والتمني، كما منها حالة توظيف الانحياز الذاتي لصالح الدليل، أي توظيف المعلل للمدلل.
3ـ حالة التأرجح بين الدليل الموضوعي والانحياز الذاتي.
4ـ حالة التأرجح بين الادلة المتعارضة عندما تبدو متكافئة. وقد تبقى هذه الحالة من غير ترجيح كأمر محتمل ومشكوك فيه، كما قد يحصل الترجيح بفعل الانحياز الذاتي، وهو ما قطع به سروش.
5ـ حالة التعارض بين العوامل المعللة وتكافؤها كانحيازات ذاتية، وعندها يحصل الترجيح بفعل الدليل الراجح.
6ـ حالة وجود مساحة تخلو من تهيئة الفرصة لنفوذ تأثير الانحياز الذاتي. فيكون التفكير خاضعاً للدليل الموضوعي الصرف.
7ـ حالة وجود مساحة تخلو من الدليل الموضوعي، فتكون مهيئة لنفوذ العوامل المعللة للانحياز الذاتي، كتفسير بعض الحوادث من خلال السحر والعين والحسد وما الى ذلك.
8ـ حالة وجود مساحة تخلو من الانحياز والدليل معاً، ويمكن ادراجها ضمن الموضوعية رغم غياب الدليل، مثل اعتقاد البشر بالاوليات الضرورية للمعرفة، كمبدأ عدم التناقض، ومثل اعتقادهم ايضاً بوجود واقع موضوعي عام يتعاملون معه وجهاً لوجه، وهو اعتقاد غير قائم على دليل[6].
والملاحظ في هذه الحالات.. اننا يمكن ان نمتلك الدليل على نحوين، موضوعي ومنحاز، وبالتالي فالدلّي لا يكون في قبال العلّي، لأنه يعمل احياناً لصالح العلّي، او انه يكون موظفاً للانحياز الذاتي، كما في الحالة الاولى.
وقد يحصل العكس، خاصة عند الانتصار للدليل على حساب الانحياز الذاتي، كما في الحالة الثانية. وفي هذه الحالة ايضاً قد يكون المعلل موظفاً لصالح الدليل، لكن ذلك لا يؤثر على النتيجة، فسواء حصل الانحياز الذاتي ام لم يحصل فان النتيجة تتحقق بفعل موضوعية الدليل خلافاً للحالة المعاكسة التي نجد فيها المدلل يعمل لصالح المعلل.
وفي الحالة الثالثة يعتمد الترجيح على القرار المعرفي بين الموضوعية والانحياز، فقد يكون القرار لصالح الموضوعية، فيما قد يكون لصالح الانحياز.
أما الحالة الرابعة التي ركز عليها سروش واعتبرها تفضي الى ترجيح العوامل المعللة على المدللة بسبب تكافؤ الادلة، فالملاحظ ان منظار الناس العاديين قلما تحدث عندهم حالة التكافؤ، او ان الناس لا يرون الادلة التي يلتزمون بها متكافئة ولا ضعيفة، حتى لو كانت من حيث التدقيق العلمي متكافئة. اما العلماء والمفكرون فقد يعتبرونها محتملة عند التوصل الى كونها متكافئة من دون ترجيح، على شاكلة رأي الفيلسوف الالماني (عمانوئيل كانت) في القضايا الميتافيزيقية التي رأى انها تتكافأ في أدلتها من دون ترجيح. لكن قد يغلب منذ البداية الانحياز الى بعض الادلة باعتبارها متوافقة مع التوجه القبلي للعالم والمفكر، وبذلك انه لا يرى التكافؤ، بل ينحاز ابتداءاً الى بعض الادلة وتضعيف الادلة المقابلة، وهو ما يكثر في جدليات الفكر الديني، ومن ذلك ما نلاحظه لدى الصراع بين المذاهب العقدية والكلامية المختلفة. اذ ما يجعل الانحياز وارداً هو التسليم القبلي ببعض المنظومات المعرفية العاملة كإطار مرجعي للرفض والقبول، وأداة للتنقية والفلترة، إذ يخضع كل معطى إدراكي لاحق أو جديد إلى فحص هذه الأداة المترسبة، بغير وعي غالباً، فتتقبل المعطيات التي تتفق معها، وترفض ما سواها، أو تعمل على تأويلها
ويظهر مما سبق ان التقابل يبقى محصوراً بين الموضوعية والانحياز الذاتي، وليس بين الدلّي والعلّي، اذ مثلما قد يكون الدليل منحازاً او معللاً، فان الموضوعية قد لا تمتلك الدليل، كالذي أشرنا اليه في الحالة الاخيرة من الحالات السابقة.
عموماً ان اهم ما في هذه الحالات هو بعض صور الثانية، حيث ننتصر فيها للدليل على حساب رغباتنا وتمنياتنا. وكم من العلماء والفلاسفة والمفكرين من تقصدوا في بادئ الامر لاثبات فكرة او نفيها وفق الانحياز الذاتي، لكنهم انتهوا الى نتيجة معارضة لرغباتهم؛ فقرروا الاذعان للدليل والتخلي عن الانحياز.
والسؤال الذي يرد بهذا الصدد: من أين ينشأ ويأتي هذا الاقرار والاعتراف؟ اذ كان من الميسور للبعض منا ان يجد مبررات مختلفة تؤكد عدم قبوله للنتائج المنافية لرغبته كما يفعل الغالب منا. وهذا يعني ان هناك عاملاً في النفس البشرية هي التي تستقل في تحديد القرار المعرفي، فهي وان تأثرت بنواحي الانحياز والموضوعية لكن قرارها يبقى غير محتم في ان يكون بهذا الشكل او بذاك.
وكما عرفنا انه لا ينشأ من موضوعية الدليل ولا من الانحيازات الذاتية، ولم يبقَ لدينا سوى ردّه الى (الإرادة المعرفية)، فهي التي تتخذ القرار بحرية من دون حتم ولزوم. اي ان القرار الناتج عنها هو قرار غير محتم مهما كانت طبيعة المعرفة حتى وان تضمنت الاستنباطات المنطقية والبديهية.
ويمكن ان نتصور الإرادة المعرفية على شاكلة قاضي لديه مستشاران على اليمين والشمال، احدهما يدعوه الى الدليل الموضوعي، والثاني الى الانحياز الذاتي، وذلك حينما تتلبس القضايا وتتشابك ما بين الموضوعية والانحياز بفعل العوامل الكثيرة المؤثرة.
لكن رغم الدعوة المتناقضة للمستشارين فان الإرادة المعرفية تبقى سيدة الموقف، فهي إرادة متأثرة إلا انها غير محتمة النتيجة، وبالتالي فهي تحظى باستقلالية كصاحبة قرار، سواء لصالح الدليل الموضوعي، او لصالح الانحياز الذاتي وفق الاسباب المعللة. وعادة ما يعتمد ذلك على طبيعة المجال المعرفي، فبعض المجالات تمتلك مساحات مهيئة للانحياز، كما تمتلك مجالات اخرى مساحات مهيئة للموضوعية. لكن في جميع الحالات تخضع النتيجة الى الإرادة المعرفية، وهي المسؤولة عن القرار في النهاية.
وبعبارة ثانية، إن كلاً من (الدلّي والعلّي) يعتمد على القرار المعرفي، وهذا الاخير لا يتحقق من غير الإرادة المعرفية ايجاباً وسلباً.. فعندما تقرر هذه الإرادة عدم رغبتها في تحصيل النتائج المستدل عليها فانها تكون سلبية اتجاه هذه النتائج مهما تبدو منطقية او مبررة وصحيحة. وكان من الممكن تماماً ان تكون ايجابية لولا ان رغبة الإرادة تحول دون ذلك، وهذا ما يجعلها تصطنع مبررات رافضة، سواء كانت عقلانية مقبولة او غير عقلانية. فالرفض السلبي الوارد هنا هو رفض خاضع للإرادة لا العقل المفهومي المتمثل بالدليل ولا العلل. ويتبين فعل الإرادة بشكل جلي عندما تعبر هذه السلبية عن موقف غير عقلاني او مقبول، فنعرف اننا لسنا ازاء جدل معرفي خالص، بل هو جدل رغبوي تحدده الإرادة المعرفية، ويقع ضمن اطار علم النفس والاجتماع المعرفي. وهو ما نشهده في كل جدل معرفي، سواء ديني ومذهبي، او فلسفي او حتى علمي ايضاً.
وقد يقال بان الإرادة المعرفية قائمة على الانحياز، وان الانحياز قائم على المسببات البيئية والبايولوجية. وقد تُدعم هذه القضية علمياً، اذ كان من بين النتائج المقلقة في هذا الصدد ما استظهره داروين واتباعه، وهو كيف يمكن الاطمئنان الى مصداقية معرفتنا ونظرياتنا ومسلماتنا اذا ما كنا قد اتينا نتيجة تطور بايولوجي قائم على العشوائية والتراكمات الطبيعية كأحداث طارئة من دون توجيه مخطط؟
وبلا شك لم تظهر على مدى التاريخ نظرية مقلقة على الصعيد الفلسفي والعلمي مثلما هو الحال مع نظرية داروين. فلا النزعات الشكية في جميع صيغها ما اثارت القلق الابستيمي، ولا كذلك ما قدمته النظريات الفلسفية الحديثة كالكانتية والماركسية والوجودية والنيتشية وثقافات ما بعد الحداثة ما أثار القلق، ولا حتى بعض النظريات الموصوفة احياناً بالعلمية مثل الفرويدية.. فرغم ان جميع هذه النظريات تحط من قيمة معارفنا العقلية وتجعلها محكومة باسباب خارجية متنوعة، لكنها بقيت مجرد نظريات غير مؤثرة ومقلقة على الصعيد العلمي والانساني بشكل عام، خلافاً لنظرية داروين التي احدثت قلقاً لم ينقطع منذ ظهورها منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. ويعود السبب في ذلك انها مازالت تهيمن على التفكير العلمي. وكان داروين هو اول من اظهر هذا القلق دون ان يبحث عن طريقة تعمل على تعديل شيء من نظريته ليوفق بين مصداقية المعرفة البشرية وحالة التطور القائمة على الصراع والانتخاب الطبيعي. لذلك بقي التناقض مستفحلاً من دون حل. اذ لو كان ما يقوله داروين صحيحاً، وهو ان عقولنا مجرد مخلفات متطورة عن الحيوانات بما لها علاقة بالانتخاب الطبيعي، فستفقد كل نظرية، ومنها نظرية داروين نفسه، مصداقيتها الابستيمية، باعتبارها تمثل افرازات غريزية للتطور الحيواني الصرف. وقد عبّر داروين عن ذلك باحتمال ان تكون معتقداتنا بالالوهة ليست سوى غريزة حيوانية شبيهة بغريزة القرود في خوفها وكراهيتها للافاعي[7].
وبعيداً عن نظرية داروين وما خلفته من قلق، فرغم ان الارادة المعرفية منحازة بالمعنى الاعم المشتمل على الانحيازين الموضوعي والذاتي، لكن ليس لأي من هذين الانحيازين سلطة في اتخاذ القرار بخلاف الإرادة. لذلك قد يكون لكل منا رغبة وانحياز الى نتائج معرفية معينة؛ سواء على صعيد المنطق او الواقع او الميتافيزيقا، فمثلاً البعض منا يستهويه كل دليل يتعلق بوجود الله، فيما يستهوي اخر العكس من ذلك لرغبته في ان لا يكون هناك اله. وهذه الرغبة والتمني لا علاقة لها بالادلة المقدمة، لكن من حيث القرار فقد يتخذ الواحد منا قراراً مؤيداً لما يرغب فيه رغم منافاة الدليل لذلك، فيما قد يتخذ الاخر قراراً مؤيداً للدليل رغم مخالفته لرغباته وتمنياته المنحازة. بمعنى انه يتخذ قراراً مضاداً لانحيازه، او انه يصل الى نتيجة لا يتمناها، ومع ذلك يقرر وفق الإرادة المعرفية ما يؤكدها. وتمثل هذه الحالة اعظم حالات الموضوعية.. لذا فان قرار الإرادة المعرفية غير خاضع للانحياز وعدمه، مثلما انه منفصل عن طبيعة الدليل، رغم تأثره بهذه المجالات المختلفة.
ومن حيث التحليل، تختلف الارادة المعرفية عن العقل المنتج للافكار بانها عارية عن المفاهيم خلافاً للعقل المغلف بها، فالعقل لا ينتج من غير هذه الأغلفة، فيما تقتبس الارادة المعرفية عريها من حيث انها صرف ارادة لا عقل، وهي جزء من الارادة النفسية العامة التي تشترك معها بخاصية اتخاذ القرار الذي ترجحه، فاذا كان هيكل الارادة العامة تتعلق بالسلوك والافعال الجسمية والهيئات الخيالية النفسية الصرفة؛ فان الارادة المعرفية تبتعد عن هذا الحال لتواجه جانباً اخر مختلفاً، وهو المجال المعرفي، لذلك فان ما تقوم به من قرارات معرفية يعود الى انها تواجه العقل ومفاهيمه وجهاً لوجه من دون حجاب، اذ لا يحجبها شيء من المفاهيم باعتبارها عارية، كما تواجه العوامل الاخرى المتعلقة بالعالم الوجودي. فالعقل بمفاهيمه يؤثر عليها، ومثل ذلك العوامل الاخرى التي تواجهها تؤثر عليها، واحياناً بطريقة لا شعورية. ومن خلال هاتين المواجهتين المختلفتين تقرر قرارها. أما كيف ذلك وبأي معايير تفعل ذلك، فكل هذه الامور ميتافيزيقية غيبية، كما لا يوجد قانون محتم يجعلنا ندرك ما هو القانون المتبع، لكن هناك قوانين احصائية تجعل الارادة المعرفية ميّالة في بعض الجوانب لاتجاهات موضوعية، فيما انها ميالة في جوانب اخرى للانحياز.
ونشير الى ان مفهوم الإرادة المعرفية كما نطرحه لا علاقة له بمفهوم (إرادة المعرفة) كما هو اصطلاح ميشيل فوكو الذي قصد به الكشف عن المحرم والممنوع والمقموع في الجنس ليشكل بها ما سماه بعلم الجنسانية[8].
كذلك فان تركيزنا على فعل الإرادة ورغبتها المعرفية المفتوحة لا علاقة له بثقافة ما بعد الحداثة في التحرر من العقل ومسلماته وتقويضها.
إذاً بحسب قراءتنا ليس ثمة ما يحتم على البشر الرضوخ لأي مفهوم ديني او فلسفي او علمي او حتى بديهي؛ كالقواعد الرياضية مثل حاصل جمع الثلاثة مع الثلاثة هو ستة، او الرضوخ لقانون السببية العامة، او لمبدأ عدم التناقض في صيغتيه (الوجودية والمنطقية). بل نجد من الفلاسفة والمفكرين من يطعن احياناً بمثل هذه المسلمات، وكل ذلك يؤكد اصالة حرية الإرادة والقرار المعرفي.
وبعبارة ثانية، اذا كانت الإرادة المعرفية تتقبل هذه الاحكام العقلية لبداهتها؛ فعلينا ان نعي في المقابل ان من البشر من يمتلك إرادة لرفضها ولا يرى نفسه مضطراً لقبولها. وتجد هذا الرفض احياناً لدى الدوائر الفلسفية والعلمية، وتزداد لدى مثقفي ما بعد الحداثة.
وحتى حينما يقال بان تقويض هذه الاحكام مطلقاً يمت الى تناقض معرفي، فذلك لا يؤثر على الإرادة المعرفية باعتبارها لا تتضمن المفاهيم ولا انها من الافعال العقلية الصرفة، بل هي سلطة نفسية متعقلنة ذات قرار متحكم بكافة الاشكال المعرفية؛ الحسية والعقلية والمنطقية والفلسفية والعلمية وغيرها. او هي «فعل نفسي» بلا كيف؛ مؤثر في النشاط المعرفي العقلي ومتحكم به تماماً، بغض النظر عن النتائج التي تتوصل اليها هذه الإرادة. لذلك انها لا تمتلك اطارات ما لدى العقل من مفاهيم وافكار، بمعنى انها غير متقولبة ضمن اطار مفاهيمي او فكري كما هو الحال في الفعل العقلي عندما يزاول نشاطه المعرفي كآلية منتجة للمعرفة بجميع اشكالها النظرية والعملية. لكنها مع ذلك تنتصر في الغالب للرؤى العقلانية او المدللة عندما تكون بمنأى عن منافذ الانحيازات الذاتية.
وبلا شك ان انتصارها المشار اليه يجعلها واعية متعقلنة خلافاً للارادة اللاواعية العمياء كشيء في ذاته كما طرحها الفيلسوف الالماني شوبنهاور في مشروعه المتميز (العالم إرادة وتمثلاً)، وقصد بها إرادة الرغبات والاندفاعات والميول الجسمية والتي تستبطن العالم كله – العضوي واللاعضوي - كجوهر عميق خلّاق لكل ما هو ظاهر ومتجلّ في الطبيعة على الاطلاق[9].
وحقيقة الحال انه يمكن تصوير الارادة كجسم موحد ممتد على مناطق واعية وغير واعية، كامتداد النفس على البدن، فتنطبع بانطباعات ما تمتد اليه، فتكون واعية متعقلنة مع العقلي، وغير واعية ولا متعقلنة مع العناصر غير العقلية كالميول والنزوات النفسية والجسمية.
ويبقى السؤال عن مصدر الإرادة المعرفية؟ وهو سؤال يدخلنا في البحث الميتافيزيقي، لذا فهو خارج نطاق دراستنا الحالية.
[1] يمكن لحاظ شواهد كثيرة على ذلك في: ويليام برود ونيكالوس واد: خونة الحقيقة، ترجمة خالد بن مهدي وجنات جمال وسارة بن عمر ورضا زيدان، مركز براهين، الطبعة الثانية، 2018م.
[2] انظر بهذا الصدد: يحيى محمد: منهج العلم والفهم الديني.
[3] وكمثال على ذلك ما تسبب لدينون كينيون مبتكر نظرية التنظيم الذاتي لنشأة الحياة والذي انكر نظريته اواخر السبعينات ومن ثم فضّل فكرة التصميم الذكي عليها، واعلن لاحقاً تغيير وجهة نظره في مؤتمر دالاس عام 1985. لكن بعد ثمان سنوات تم طرده من منصبه في تدريس مادة البايولوجيا في جامعة ولاية سان فرانسيسكو لكونه فسر لتلامذته سبب تفضيله لفكرة التصميم الذكي على نظريات التطور الكيميائي لنشأة الحياة (ستيفن ماير: توقيع في الخلية، ص519).
[4] كمثال على ذلك، عندما أقمتُ في مدينة قم - خلال النصف الاول من ثمانينات القرن المنصرم – كنتُ اطرح بعض المشاكل المنهجية التي تواجهها الحوزة العلمية وعموم الفكر الديني، وعلى رأسها غياب التفكير في الواقع لدى هذه المؤسسات، وكان من ضمن القضايا التي استعرضتها ما يتعلق بالتقسيم المتعارف عليه لدى فقهاء الامامية حول التمايز في سن اليأس بين القرشيات والعاميات. ولكونه تمايزاً غريباً غير متوقع؛ اقترحت في مجالس شخصية مع عدد من الاصدقاء والتلامذة فكرة أن يقام استبيان احصائي لهذه القضية على شريحة مختلطة من النساء القرشيات والعاميات كما هو المألوف في اختبارات علم الاجتماع، ليتبين إن كانت القضية صحيحة او انها خاطئة، ولو صدقت الحالة الاخيرة فسيتم اسقاط جميع الروايات المتعلقة بها. وفي بداية التسعينات ارسل لي أحد المقربين من اصدقائي رسالة اخبرني فيها بانه عرض هذه الفكرة على المرحوم السيد محمود الهاشمي (الشاهرودي)؛ فظن الأخير ان الناقد هو عبد الكريم سروش وابتسم وعلّق باستخفاف بأن هذه من انتقادات الافندية، أي غير الحوزويين. بمعنى ان هذه الانتقادات تخلو من القيمة والمصداقية باعتبارها تغرّد خارج صندوق الحوزة المغلق (انظر حول قضية سن اليأس: النظام الواقعي، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (5)، مؤسسة العارف، بيروت، 2019م).
[5] عبد الكريم سروش: الصراطات المستقيمة، ترجمة احمد القبنجي، المقالة الثانية (الحقانية، العقلانية، الهداية).
[6] انظر بهذا الصدد: يحيى محمد: الاستقراء والمنطق الذاتي.
[7] يحيى محمد: داروين والتصميم، موقع فلسفة العلم والفهم، نشرت بتاريخ 29-6-2020:http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=148
[8] ميشال فوكو: تاريخ الجنسانية (1)، ترجمة محمد هشام، دار افريقيا الشرق، المغرب، 2004م، الفصل الاول، خاصة ص13ـ14.
[9] آرتور شوبنهاور: العالم إرادة وتمثلاً، ترجمة وتقديم وشرح سعيد توفيق، مراجعة فاطمة مسعود، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2006م، ص208 وما بعدها.