يحيى محمد
إذا كان الأشعري لم يتعرض إلى منطق العلاقة التقنينية بين العقل والبيان إلا بشكل خافت ومجمل، فإن التطورات التي حملها أتباعه من بعده كانت مثقلة بهذه العلاقة. فقد أخذت الأخيرة بالظهور والإتساع شيئاً فشيئاً، منذ القرن الرابع وحتى نهاية القرن السادس الهجري. فمن المعروف أن منشأ التنظير لعلاقة العقل بالنقل وسط الأشاعرة قد بدأ عند الباقلاني الذي يعدّ مؤسساً لطريقة المتقدمين؛ لوضعه بعض الأسس التي تحكم هذه العلاقة. فقد وضع قاعدة (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول) كمنهج يجعل من الأدلة ذاتها واجبة لا على الصعيد المعرفي فحسب، بل حتى على صعيد المعيار الديني أيضاً، إذ تفرض القاعدة على المستدل أن يذعن وينصاع إلى الأدلة لما تفضي إليه من نتائج محددة، وكتكليف يجب الإعتقاد به مثلما يجب الإعتقاد بالنتائج المتمخضة عنها. لذلك وُضعت المقدمات العقلية الثابتة كأساس لبناء النقل والبيان. فهي مقدمات وإن كانت ذات طابع وجودي غرضها إثبات الخالق تعالى، من قبيل إثبات الجوهر الفرد والخلاء والعرض لا يقوم بالعرض ولا يبقى زمانين متتاليين وما إلى ذلك من الإعتبارات الوجودية، لكنها تنطوي على دوافع معيارية، فهي على قول إبن خلدون موضوعة «تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب إعتقادها»[1]، أو هي موضوعة من أجل تقرير أمور لا يتم الشرع إلا بها، سيما في ما يتعلق بإثبات القدرة الإلهية. كما أنها محكومة بمعيار التكليف تبعاً لنهج القاعدة السابقة المطروحة كسلطة لتحديد النتائج الثابتة أو تبريرها.
هكذا تبدأ عملية التنظير الفعلي لدى الأشاعرة؛ منذ الباقلاني الذي يعد مؤسساً لطريقة المتقدمين إستناداً إلى قاعدته (بطلان المدلول) الآنفة الذكر، والتي ظهر مثلها لدى الشريف المرتضى من الإمامية الإثنى عشرية، فهو قد ذهب خلال القرن الخامس الهجري إلى أن كل ما لا دليل على إثباته فهو منفي[2].
لكن العملية لم تتوقف عند هذا الحد، فقد جاء الغزالي متأثراً باستاذه الإمام الجويني فأسس النهج المسمى بطريقة المتأخرين، حيث أدخل «المنطق» كعنصر هام يقضي به على منهج الباقلاني السابق. إذ بهذه الطريقة الجديدة يصبح من المنطقي خطأ قاعدة إبطال المدلول ببطلان الدليل، أو أن بطلان الدليل لا يؤذن ببطلان المدلول، فمن الممكن إثبات المدلول بدليل آخر غيره، وكذا من الممكن أن يكون المدلول غير خاضع للدليل أصلاً.
فمن الناحية المنطقية أن المدلول يبقى معلقاً حتى لو بطلت جميع صور الأدلة الممكنة، فليس من الضروري أن يتوقف وجود المدلول على وجود الدليل أو الدال عليه، فقد يكون المدلول شيئاً في ذاته لا يُنال بالدليل مهما كان نوعه، وبالتالي لا يصح نفيه لمجرد عدم إمكان الاستدلال عليه. بل من المسلمات ما لا تخضع للأدلة، وقد كان الغزالي على وعي بذلك عندما قرر - كما مرّ علينا - بأن «من ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة».
ويمكن إعتبار طريقة المتأخرين لحظة عطف جديدة في تاريخ النظام المعياري، فقد تأسست العلاقة الخاصة بين المنطق من جهة، والشريعة والمعيار من جهة ثانية، بعد أن كان المنطق عند الفلاسفة أداةً مكرسة لمعرفة الوجود. فالوضع الجديد وإن لم يفقده مركزه الأول كأداة معرفية للوجود، لكنه أضاف إلى ذلك مباحث أخرى جديدة. وعليه تمّ تصوير المنطق بأنه أداة شكلية تقبل التلبيس بأي مادة، سواء كانت وجوداً أم شريعة أو معياراً. وعُرّف «بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط، يسبر به الأدلة منها كما يسبر ما سواها».
لكن هذه الخطوة سبق إليها إبن حزم الأندلسي وإن لم يكن له ذلك التأثير على من جاء بعده مقارنة بالغزالي.
وطبقاً للفهم السابق خالف الأشاعرة المتأخرون سلفهم المتقدمين في الكثير من قواعد علم الكلام ومقدماته، وعلى رأسها قاعدة الباقلاني السالفة الذكر[3].
هكذا ظهر التمييز بين توظيف المنطق لتأسيس الخطاب وقضاياه المعيارية، وبين ما كان يعتبر جزءاً من الفلسفة؛ الأخذ به يعني الأخذ بها، الأمر الذي تحرّج منه المتقدمون. لكن هذا الانتزاع للمنطق من الفلسفة لم يدم، إذ أخذ المتأخرون يهتمون بكتب الفلسفة ذاتها؛ مما أوقعهم في التأثر بمسائلها، كما حصل مع الغزالي ومن بعده الفخر الرازي، بل تطور الحال بعدهما فاختلطت أمور الفلسفة بالكلام والتبست مسائلهما، كالذي حصل مع البيضاوي في (الطوالع) والأيجي في (المواقف)[4].
على أن توظيف المنطق في القضايا الدينية وإن كان له بالغ الأثر على المتأخرين من الأشاعرة، لكن ذلك لم يكن له تأثير على تقنين العلاقة المباشرة بين العقل والنص. مع أن العمليتين قد سارتا جنباً إلى جنب، فمثلما ظهر الإنقلاب في المنهج الاستدلالي من طريقة المتقدمين إلى طريقة المتأخرين؛ فكذا ظهر إنقلاب آخر على صعيد علاقة العقل بالنص، إذ تحول هذا الإرتباط من علاقة عقل ببيان إلى علاقة عقل بمتشابه، وهو ما أفسد صورة البيان وأخلّ بالمركز الذي كان يحضاه. فقد سبق أن أشرنا إلى أن البيان عند الأشعري كان مركز الصدارة في العلاقة التقنينية مع العقل، لكن الأمر مع أتباعه ومنذ الجويني (المتوفى سنة 478هـ) أخذ يتحول شيئاً فشيئاً إلى ضده، فلم يعد «البيان» بياناً، بل تحول إلى «متشابه» يقتضي التعامل معه ملاحظة ما يفرزه العقل ويقرره من أحكام قبلية. واستمر هذا الحال بالتطور تدريجياً حتى نهاية التقنين على يد الفخر الرازي.
فإذا عدنا إلى الأشعري رأيناه ينظر إلى الخطاب الديني كبيان لا يختلف في هذه الناحية عمن سبقه من السلف وعلى رأسهم إبن حنبل، فهو كثيراً ما يبرر النتائج التي يتوصل إليها من خلال إعتبار الشريعة بينة ببيان اللغة العربية، فلا يتراجع عن هذا البيان للأقاويل العقلية التي بثّها المعتزلة ومن على شاكلتهم، ولا يتقبل العدول عن ظاهر النص إلا بحجة كحجة الإجماع مثلاً، ففيها يعدل عما هو ظاهر إلى ما يقره الإجماع، وهو في هذه الحالة لا يخرج عن دائرة البيان ذاته، فالإجماع إنما يعدّ أصلاً وحجة لكونه كاشفاً عن البيان الشرعي، أو أن عليه دليلاً من الخطاب الديني، كقول النبي (ص) كما في الرواية: «لا تجتمع أمتي على خطأ».
وهو على هذا الأساس لم يتقبل تأويل الآيات الخاصة بالصفات الإلهية، والتي منها صفة اليدين، كما جاء في قوله تعالى: ((لما خلقت بيدي))[5]، إذ قرر زيف الفضول العقلي من خلال الإحتماء ببيان اللغة، فقال: «وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل (عملت كذا بيدي) ويعني به النعمة. وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في لسان أهل البيان أن يقول القائل (فعلت بيدي) ويعني النعمة». فطبقاً للبيان اعتبر معنى (بيدي) هو «إثبات يدين ليستا جارحتين ولا قدرتين ولا نعمتين، ولا يوصفان إلا بأنهما يدان ليستا كالأيدي»[6].
وتعويل الأشعري على البيان جعله يتمسك بظاهر النص ما لم تكن هناك حجة أقوى منه، غالباً ما تكون منتزعة من البيان ذاته بعيداً عن الفضول العقلي الذي أنكره، طالما أن الحركة لا تخرج عن دائرة فهم الخطاب الديني. فهو عندما لا يأخذ بظاهر الآيات التي تبدي بأن لله أيدي كما في قوله تعالى ((مما عملت أيدينا))[7]، لا يفعل ذلك لإعتبارات المشكل العقلي كما هو جار في الدائرة العقلية، بل لكونه يرى وجود حجة بيانية أقوى من هذا الظاهر، فيقول: «قد أجمعوا على بطلان قول من أثبت لله أيدي، فلما أجمعوا على بطلان قول من قال ذلك وجب أن يكون الله عز وجل ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين، لأن الدليل قد دلّ على صحته للإجماع، وإذا كان الإجماع صحيحاً وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين، لأن القرآن على ظاهره، ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة، فوجدنا حجة أزلنا بها ذكر الأيدي عن الظاهر إلى ظاهر، ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقة لا يزول عنها إلا بحجة»[8]. وهو يؤكد هذه الناحية مرة أخرى بقوله: «حكم كلام الله عزّ وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة»[9].
هكذا فهو لا يعدل عن الظاهر إلا بحجة، وغالباً أنه يقصد بها تلك التي تقع ضمن دائرة البيان، وقد تشمل الحجة عنده مقتضيات البديهة والحس أحياناً، وهي في النتيجة لا تخرج عن الطابع البياني مما تعارف عليه في استعمال اللغة العربية، وقد مرّ علينا شيء من ذلك، كما في قوله تعالى: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض))[10]، حيث حمل هذه الآية على المجاز لا الحقيقة، وذلك لأن الجماد ومنه الجدار يستحيل عليه الإرادة؛ مما دفعه إلى تأويلها إستناداً إلى بداهة الحس[11].
ويبدو أن الأشعري لا يريد بالحجة بما تشمل حجة العقل الاستدلالي كما يمارسه أصحاب الدائرة العقلية. فالذي صرح به هو أن العقل يتحدد نشاطه ووظيفته بما هو خارج عن نطاق فهم الخطاب، فهو معني بآلية تأسيس الخطاب من الخارج لا الداخل. لذلك فهو يعترض على النشاط العقلي في الفهم ليؤيد البيان ويحتمي به، فيصرح وهو بصدد بحث مسألة اليدين قائلاً: «.. من أين يمكن أن يعلم بالعقل أن يفسّر كذا وكذا، مع أنا رأينا الله قد قال ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)).. ((لسان الذين يلحدون أعجمي وهذا لسان عربي مبين)).. ((إنّا جعلناه قرآناً عربياً)).. ((أفلا يتدبرون القرآن))، ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه.. وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه علم أنهم إنما علموه لأنه بلسانهم نزل، وليس في لسانهم ما ادعوه»[12].
لكن رغم ذلك سنرى أن الأشعري مارس آلية التأسيس العقلي للفهم مثلما مارسها المعتزلة، ولم يتقيد بحدود البيان كما هو الحال عند البيانيين، وهو ما يتضح عند معالجته للمشكل المعياري الذي نال من الموافقة لدى الأشاعرة الأتباع ما لم ينله جناح الأشعري الآخر المتمثل بمعالجته البيانية للمشكل الوجودي.
كان ذلك مع الأشعري، أما مع أتباعه فقد أخذ البيان بالضمور شيئاً فشيئاً، إذ تحول بالتدريج إلى «متشابه» لإعتبارات العقل الذي احتل مركز الصدارة. وعند هذا الحد تساوى المعتزلة والأشاعرة في تقنينهما لعلاقة العقل بالنص، رغم إختلاف الإعتبارات العقلية بينهما. فقد سبق أن عرفنا بأن تاريخ هذه العلاقة يمتد إلى زمن صراع الجهمية وأوائل المعتزلة من جهة، والسلف من جهة ثانية. لكن مع ولادة الأشاعرة بداية القرن الرابع الهجري تشكل موقف جديد إزاء الموقفين الآنفي الذكر، إذ الجدّة فيه هو أنه ذو إعتبارين، فهو من جانب يتأسس على الإعتبارات العقلية، لكنه من جانب آخر يجعل نتائجه في خدمة البيان، وبالتالي فهو يعبّر عن دعم البيان السلفي كما لدى الحنابلة. فهذا هو حال الأشاعرة عند ولادتها. أما مع مرور الزمن فقد تحولت الطريقة لدى هذه الفرقة من توظيف للعقل لصالح البيان، إلى نهج معاكس غايته الانتصار للعقل على حساب البيان، فلم يُنظر للنص بأنه محض بيان، بل أُعتبر أمراً متشابهاً. وبذلك تساوى الأشاعرة مع نظرائهم المعتزلة، فدخلوا - جميعاً – ذات الحلبة من الدائرة العقلية التي كان همها الانتصار للعقل برفض البيان وتكريس التشابه.
وعلى العموم أن إيجاد الصيغة الكلية لعلاقة العقل بالنص وتكريس التشابه لدى الدائرة العقلية؛ لم يظهر دفعة واحدة، فتاريخ هذه الدائرة يحمل عدداً من المخاض المتعلق بالنص. فلم تكن لحظة ولادة العقل المعياري هي ذاتها لحظة نهايته، أو أن هذا العقل لم يفرغ جميع ما لديه من حمولة دفعة واحدة في علاقته مع النص. فقد عرفنا بأن البواكير الأولى للدائرة العقلية أفرزت عدداً من الإعتقادات الخاصة، ومن بينها الإقرار بالحجة العقلية وكون العقل مقدماً على الشرع؛ لكون الأخير لا يثبت إلا به، وأن للعقل واجبات ومحرمات ذاتية بغض النظر عن الواجبات والمحرمات الشرعية، فضلاً عن الممارسات العقلية المختلفة وما أسفر عنها من تأويلات للنص بتحويله إلى متشابه. ومع كل هذه الافرازات فإن العلاقة التقنينية للعقل مع النص أخذت تتطور بعد القرن الرابع الهجري، إذ بدأ التنظير لتكريس مبدأ التشابه في النص جماعياً، سواء لدى الأشاعرة أو خصومهم التقليديين من أصحاب الدائرة العقلية، كما هو الحال مع الجويني والغزالي والقاضي الهمداني والشريف المرتضى والفخر الرازي وغيرهم.
هكذا فإن التقنين الذي تمّ إجراؤه على إشكالية العقل والنص لم يكن دفعة واحدة منذ بداية التاريخ الفعلي للفكر الإسلامي. فالنظام المعياري وإنْ تعلّق بأهداب نظرية التكليف منذ أن عرف الفكر الإسلامي وجوده، إلا أنه لم يعِ علاقة العقل بالنص كما وعاها في ما بعد. فقد كانت هناك علوم ومذاهب بعضها يقوم على العقل، وبعض آخر يقوم على النقل، كما أن منها ما يقوم على العقل والنقل معاً، وكانت العلاقة التي تربط هذين الكيانين؛ تنطوي أحياناً على التعايش وربما التأسيس، وأخرى على الإستقلال، وثالثة على التباعد والنفور؛ طبقاً للدوافع الدينية والهواجس الآيديولوجية الخاصة. لكن سواء بهذه العلاقة أم تلك لم يظهر في أول الأمر وعي إبستمولوجي بانفصال هذين الكيانين كأمرين يحتاجان إلى نوع من التحليل والمعالجة ليمكن تبرير حالات الوصل أو الفصل بينهما معرفياً ومنطقياً، وهو الحد الذي أخذ تكامله عبر القرون بالتدريج، والذي أفضى في نهايته إلى الوعي بوجود نوع من التناقض المعرفي وتخلخل حاد في تلك العلاقة.
[1] تاريخ إبن خلدون، ج1، ص834ـ835.
[2] مجموعة رسائل الشريف المرتضى، نشر دار القرآن الكريم في قم، ج2، ص102ـ104.
[3] تاريخ إبن خلدون، ج1، ص835ـ836.
[4] المصدر السابق، ج1، ص836ـ837.
[5] سورة ص/ 75.
[6] الإبانة، ص79ـ80 و82.
[7] يس/ 71.
[8] الإبانة، ص84.
[9] المصدر السابق، ص85.
[10] الكهف/ 77.
[11] اللمع للأشعري، ص65ـ66.
[12] المصدر السابق، ص80ـ81.