يحيى محمد
في دراسات العلوم الطبيعية المعاصرة يتلهف المنظّرون لكل معلومة جديدة تردهم من البيانات التجريبية، فهي المادة الاساسية التي يعتمدونها في التفسير بما قد تفتح لهم افاقاً واسعة من البناء النظري للكشف عن اسرار الكون.. وأجد ان ما يقوم به الشيخ الاستاذ احمد ابو زيد العاملي من جمع تراث مفكرنا الشهيد محمد باقر الصدر وحفظه بعد ان تبعثر هنا وهناك، هو ما يشابه جمع البيانات التجريبية للعلوم الطبيعية، فكل معلومة جديدة تُقدّم بهذا الشأن قد تفتح افاقاً رحبة في الاطلال على فكر الصدر وتفسير ما اعتراه من تطورات[1].
وقبل ان أبدأ بملاحظاتي حول النقاط النقدية التي أثارها الشيخ احمد في مقاله (هل عدل الشهيد الصدر عن اطروحته في الأسس المنطقية للاستقراء؟)[2]؛ أحب أن اشير الى ان هذه هي المرة الاولى التي أردّ فيها على من تعرّض لبعض كتاباتي بالنقد رغم كثرة المشاغل وضعف الصحة، إحساساً بقيمته والجهد المخلص المبذول فيه، والمدعم بالتوثيق والشواهد التي استهدفت نفي أي تعديل طرأ على كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء). وفعلاً شعرت بغبطة حين كُسر الصمت وعُرضت هذه القضية لأول مرة للنقاش منذ أن أثرتها في (الأسس المنطقية للاستقراء بحث وتعليق) عام 1985، اي بعد مرور اكثر من ثلاثين عاماً من الصمت المطبق. ومؤخراً سار الباحث الاستاذ رضا الغرابي على خطى ما أثرته من قبل.
لا يهمني ما ستسفر عنه النتيجة بقدر ما يهمني الاعتراف بوجود مشكل يحتاج الى النقاش والتفسير.. فهل تعرّض (الأسس المنطقية للاستقراء) للتقويض من قبل الصدر ذاته أم لا؟
وسأمهد في الردّ ببعض المسائل العامة التي لها علاقة بالموضوع؛ لتهيئة ذهن القارئ الى قطب الرحى مما سأذكره فيما بعد..
قبل أيام من نشر الشيخ احمد مقاله (يوم 21-04-2018)؛ كنت منشغلاً في كتابة مقال قصير حول المزاج المعرفي، وهو من الميول النفسية القبلية، ويُصنف بحسب (علم الطريقة) ضمن القبليات غير المنضبطة، ويتضمن صوراً مختلفة؛ من بينها المزاج الخاص بالدفاع عن الشخصيات المقدسة وفكرها لدى ثقافة المرء البيئية. وكان من الشواهد على ذلك: المزاج الدائر حول فكر السيد الصدر، ومن ضمنه ما يتعلق بمسألة الدفاع عن اطروحة (الأسس المنطقية للاستقراء) دون أن يطرأ عليها اي تغيير لاحق في (بحث حول المهدي).
وهنا بودي أن أفترض لو ان مؤلف الكتابين المشار اليهما قبل قليل ليس الصدر ذاته، بل فيلسوف غربي من طراز (عمانوئيل كانت) او غيره من عمالقة الفكر والفلسفة، وكانت قراءتنا لهما فاحصة دقيقة، ألا نعتبر ان الكتابين ينطويان على تناقض صارخ من دون تردد او دفاع؟ فالنصوص الواردة فيهما واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. وبالتالي هل سنعدل عن هذه الرؤية ونسلّم عقولنا لما قد يقدمه بعض مريديه من شهادات تلامذته او رسائله او نصوصه التي كتبها قبل وفاته بوقت قصير، وهي تشير الى ان هذا الفيلسوف بقي محافظاً على اطروحته الاساسية الاولى؟
هل البحث عن نصوص اخرى قبل كتابة الكتابين او خلالهما او بعدهما يمكن ان يزيل التناقض الحاصل كما أرى من دون أدنى شك؟ فلو كان هذان الكتابان عائدين الى ذلك الفيلسوف الالماني وليس الصدر، فهل سنتقبل حجة من يشكك في التناقض او ينكره، كإن يقول: لو كان هناك تناقض ما، فلماذا لم يسمع أحد من تلامذته هذا التعديل، او ينعكس على رسائله او نصوصه المتأخرة؟
منطقياً ان كل ما يُقدّم بهذا الصدد لانقاذ الموقف سوف لا يغير حالة التعارض الحاصلة بين الكتابين، وسنعتبر كل شهادة ووثيقة تُطرح سنداً جديداً يؤيد حالة التجاذب والتذبذب في فكر هذا الفيلسوف الغربي.
كذلك هو الحال مع فكر السيد الصدر، حيث ان الشهادات والنصوص الاخرى التي استشهد بها الناقد المحترم في المقام – على فرض صحتها - لا يمكنها ان تغير من حالة التناقض المفترض بين الكتابين المشار اليهما، بل على العكس، اذ انها تعمل على تكريس ظاهرة التذبذب، لكنها في الوقت ذاته تفيدنا في القاء ضوء جديد ليس على النصين ذاتهما، بل على فكر السيد الصدر نفسه.. فأي معلومة جديدة تكون بمثابة البينة التجريبية التي تلقي بظلالها على التعمق في فهم هذا الفكر، وذلك فيما لو افترضنا ان الصدر كان يعول فعلاً على كامل اطروحته في (الأسس المنطقية للاستقراء) بعد كتابة (بحث حول المهدي) كالذي حاول ان يستدل عليه الناقد باخلاص. وهذا ما لا اعتقده، ولم ارَ في الحجج التي قدمها ناهضة في المقام باستثناء واحدة قابلة للنقاش..
فنظرية السلطنة التي استند اليها في جميع احالاته المصدرية قبل كتابة (الأسس المنطقية للاستقراء) كانت مقيدة بالعالم الارادي، كالانسان والخالق، دون ان تشمل العالم الطبيعي، وهو ما لم يدقق فيه الناقد، وبالتالي فهي تتناسب تماماً مع اطروحة الصدر الاولية وليس (بحث حول المهدي). كما ان فقرة السيد كاظم الحائري المنقولة عن الصدر مشافهة – كما يبدو – تمثل نقلة فكرية جديدة من دون سابقة، وهي تتناسب مع ما جاء في (بحث حول المهدي)، خلافاً لما ظنه الناقد، اذ اعتبر بانها لا تختلف عما سبق اليه الصدر في نظرية السلطنة. وتأتي اهميتها في كونها جاءت بعد كتابة (الأسس المنطقية للاستقراء). أيضاً ان الناقد نقل فقرة عن (بحث حول المهدي) وغفل عن ذكر فقرة اخرى وردت في ذات السياق، وتنبع اهميتها من أن لها دلالة اضافية حول بحثنا المطروح. ويبقى ان كل ذلك سيتبين بالتفصيل والشواهد فيما بعد..
***
إن حالة التجاذب والتناقض والتذبذب ليست بالأمر الغريب.. فالفلاسفة والمفكرون – بمختلف اتجاهاتهم وتوجهاتهم – تصيبهم تلك الحالة بما لا يختلف عما يحصل لدى سائر البشر. فقد يُخفي الفيلسوف شيئاً من ميوله في الوقت الذي يؤكد فيه اعتقاده بشيء آخر، وقد تظهر هذه الميول في محل آخر فيبدو على فكره التناقض او التعديل، وربما يعود الى ما كان عليه في الاصل فيصبح متذبذباً نتيجة هذه التجاذبات.
وفي تاريخنا الفكري والفلسفي شواهد على مثل هذه التناقضات، وهي كثيراً ما تظهر وسط الفلاسفة والعرفاء. ويعتبر العارف السيد حيدر الآملي من الشخصيات الكبيرة التي انتابها التناقض نتيجة التجاذبات المختلفة. ففي كتابه (المقدمات من كتاب نص النصوص) اعترف لابن عربي بعصمته في تصرفاته وأحواله ومكاشفاته وان له كرامات على شاكلة المعجزات، وحكى عنه قصصاً منها، بل وأقر بان كتابه (فصوص الحكم) هو معجز كالقرآن وصادر من نفس النبي في قبال القرآن الكريم النازل عليه، وان صدور (الفتوحات المكية) كان عن إملاء إلهي وإلقاء رباني. ورغم هذا التبجيل والتقديس فانه بعد عدد من صفحات كتابه المشار اليه اخذ يطعن في كشف ابن عربي ويردّ عليه بأدلة وكشف مضاد، وذلك عندما تعلق الامر بمسألة مذهبية حساسة هي ختم الولاية[3]..
ويعود سبب هذا التناقض الى حالة التجاذب بين نزعتين مختلفتين: عرفانية ومذهبية. وهذا هو ديدن ما قد يُمتحن به المفكر والفيلسوف المتدين عندما يقع تحت انجذاب نزعتين متضادتين، كالنزعة العقلية والدينية، الامر الذي واجهه الصدر. فهو متدين من جهة، وفيلسوف عقلي من الطراز الارسطي في بعض خطوط تفكيره من جهة ثانية.
وسبق لمثل هذا الامتحان ان ظهر على آراء فيلسوف متدين هو ابن رشد؛ حين حاول ان يفسر ما الذي تعنيه معجزات الانبياء تحت ظل حتمية العلاقات الوجودية.. فاعترف في (تهافت التهافت) بان العقل البشري عاجز عن ان يجد لها تفسيراً تبعاً لنزعته الارسطية، لكنه أقرّ بها انصياعاً للخطاب الديني[4].
أما صدر المتألهين فحدّثْ ولا حرج عن تردداته وتلفيقاته بين النزعتين الفلسفية والدينية، حتى كثرت لديه التناقضات بفعل التجاذبات؛ كالتي اشرت اليها في كتاب (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية)، او حلقة (النظام الوجودي) ضمن مشروع المنهج في فهم الاسلام..
الآن وأنا أكتب هذه السطور أتوقع لو ان أحداً من أتباع مدرسة صدر المتألهين سمع مني هذه العبارة لدفعه المزاج المعرفي للرد والاستنكار، استناداً الى ثقافته البيئية التي رسّخت لديه ان هذا الفيلسوف الكبير يستحيل عليه ان يقع بمثل هذه "المهازل".. وبالتالي فما عليه الا ان يقوم بتأويل نصوصه هنا وهناك.
هذا هو المزاج الذي أتحدث عنه والذي يخضع لوهم الكهف البيكوني.
والكثير من العراقيين يمتلك هذا المزاج والدهشة ازاء فلسفة الصدر، فلا يصدّق بالتالي ان ينتاب فكره العميق ما أصاب غيره من اهتزازات جوهرية وتجاذبات معرفية. لذلك لا يتجرأ أحد من أتباعه ان يتناول هذا الفكر بالنقد الجوهري او الاشكالي.. وكل ذلك لاعتبارات القداسة التي عمموها من شخصه على فكره، هذا إن لم نقل انهم ليسوا بالمستوى الفكري والفلسفي المطلوب.
وهذه محنة أخرى لدى التابعين وان لم يشعروا، فمزاج التقديس والدهشة يدفع الى تضييق فكر الناقد او القارئ، وبالتالي فهو يقع في ذات ما يقع فيه المفكر المتدين من شِراك التجاذب الديني؛ بما يجعله عاجزاً عن التحرر الفكري والكشف عن الحقائق.
لقد أُمتحن الفلاسفة والعرفاء المسلمون طوال تاريخهم بمحنة التفكير الديني، وهذا ما جعل الكثير منهم يتبنى نظامين متعارضين بشكل متواز، فهو كفيلسوف او عارف يؤمن بالحتمية الصارمة، ومنها انه لا قدرة ولا خيار للبشر، مثلما لا قدرة ولا خيار للاله ايضاً، لكنه عندما يكون فقيهاً في الوقت ذاته فانه لا يختلف عن سائر الفقهاء في اشتراط الاستطاعة في التكليف مع ما يترتب عليها من مسؤولية جزائية. فهذا ما اضطروا الى فعله كموازاة بين نمطين من التفكير المتناقض، ولو أرادوا تبرير ذلك فانهم قد يلجأون الى نظريتهم الخاصة في ظاهر الحقيقة وباطنها. وكل ذلك يعود الى النشأة البيئية الدينية.
وليس من عادة الفلاسفة والمفكرين الاشارة الى ما يجري عليهم من تجاذبات او تغيرات؛ ما لم تكن مناسبة تدعو لذلك، كسؤال التلامذة والمقربين، او مناسبات اخرى تخص البحث العلمي.
فمن خلال اطلاعي على الفكر الفلسفي القديم والمعاصر أجد زخماً من التغيرات الفكرية جزئية وكلية نادراً جداً ما يشير اليها اصحابها. ومن هذه النوادر ما اشار اليه صدر المتألهين من تحوله الى الاعتقاد باصالة الوجود بعد ان قضى ردحاً من الزمن وهو يؤمن باصالة الماهية. ولعل هذه الاشارة النادرة كانت للتلويح عن انفصاله عن استاذه محمد باقر الداماد. في حين نجد آراءه في قضايا اخرى تتغير او تتلون من دون ان يشير الى شيء منها، ومن ذلك انه ذهب في عدد من كتبه الى عدم دوام العذاب في النار اتباعاً لابن عربي، لكنه في (العرشية) اعتقد اعتقاداً جازماً بهذا الدوام. حتى ان تلميذه ملا هادي السبزواري حاول ان يجد له مخرجاً لينقذه من عدم التماسك المشار اليه؛ معتبراً كلام استاذه في (العرشية) من المحكمات، وما عداه من المتشابهات[5].
وبلا شك ان ما فعله السبزواري ليس له تفسير معقول غير خضوعه للمزاج النفسي (المعرفي) الذي نتحدث عنه، حيث الاحساس بالنقص، رغم ان التحولات الفكرية هي حالة عامة يصعب ان نجد لها استثناءات محددة.
وما سبق ينطبق على السيد الصدر ذاته، حيث مرّ بعدد من التغيرات الفكرية من دون ان يشير الى شيء منها، باستثناء بعض المناسبات التي دعته الى ذلك، منها تلك المتعلقة بالمعرفة الحسية لدى بعض بحوثه في علم الاصول، فالذي يطلع على نصّه قد يتفهم سبب الاشارة الى تحوله المعرفي. وهو في هذا السياق لوّح الى ازدواجية ما طرحه الطباطبائي حول مصدر اعتقادنا بالحسيات والواقع الموضوعي العام، لكنه لم يذكر ان الفكرة الاخيرة – الواقع العام - قد سبق ان تبناها في (فلسفتنا).. بل حتى في هذا الكتاب لم ينسب ايضاً هذه الفكرة الى الطباطبائي او غيره[6].. فكانت عبارته في البحث الاصولي – بحسب تحرير السيد محمود الهاشمي - كالتالي:
‹‹قد ظهر لدى بعض المحدثين عندنا ـ الطباطبائي ـ ان معرفتنا بالحسيات لا يمكن أن تكون اولية لوقوع الخطأ فيها مع انه لا خطأ في الأوليات، ولكنه عاد وزعم ان معرفتنا بالواقع الخارجي إجمالاً اولية وان كانت معرفتنا بالتفاصيل ليست كذلك، فكان هذا الإتجاه يفصل في المعرفة الحسية بين الإيمان بأصل الواقع الموضوعي في الجملة وبين الإيمان بتفاصيل المعرفة الحسية. ونحن في كتاب (فلسفتنا) حاولنا ارجاع المعرفة الحسية إلى معارف مستنبطة بقانون العلية..››[7].
وحتى في كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) لم يتطرق الى عناوين القضايا التي هجرها في (فلسفتنا)، ففي طول الكتاب وعرضه لم يقل شيئاً سوى عبارة مجملة في المقدمة تبدي ان هناك اختلافاً بين الكتابين، لكن من دون ايضاح طبيعة هذا الاختلاف.. والعبارة كالتالي: ‹‹ونحن في هذا الكتاب إذ نحاول إعادة بناء نظرية المعرفة على أساس معين، ودراسة نقاطها الأساسية في ضوء يختلف عما تقدم في كتاب فلسفتنا سوف نتخذ من دراسة الدليل الاستقرائي ومعالجة تلك الثغرة فيه أساسا لمحاولتنا هذه››.
لذلك فان عدم سماع تلامذة الصدر لاي شيء يتعلق بتحوله عن (الأسس المنطقية للاستقراء) هو امر طبيعي، خاصة وان للصدر تحولات متعددة تضطره الى عدم الرغبة في ذكر شيء من ذلك، بل اكثر منه هو ان من كانوا يحيطون به في ذلك الوقت لم يطلعوا – كما يبدو - على هذا الكتاب اطلاع دراية، إما لعدم الاهتمام بالموضوع باعتباره خارج الافق الديني والفقهي، او لصعوبة مادته على الذهنية الحوزوية باعتباره موضوعاً تخصصياً..
وعليه كان الاولى ان ينقلب السؤال والاشكال، وهو لماذا لم يبادر تلامذته الى الاستفسار عن حديثه في (بحث حول المهدي) وعلاقته بـ (الأسس المنطقية للاستقراء) ؟..
واذا كان الحائري اصبح بعيداً عنه عند كتابة (بحث حول المهدي) فان امثال السيد محمود الهاشمي وغيره كانوا حاضرين. وما نقله الناقد عن نفي السيد الهاشمي لسماع أي شيء حول التغير الفكري الطارئ على (الأسس المنطقية للاستقراء) يجعله يقرّب فكرة انه لم يطلع على هذا الكتاب اطلاع دراية، وإلا لماذا فاته ان يسأل استاذه عن سرّ الفقرة الواردة في (بحث حول المهدي)، وقد كان قريباً منه.
كذلك أتساءل: لماذا لم يشر السيد الحائري ذاته الى مناقشة هذه الناحية وهو في معرض درسه للـ (الأسس المنطقية للاستقراء)؟ رغم أنه نقل عن الصدر ما يقرّب فكرة التعديل..
ما زلت أوكد ان ما حصل هو تغيير جذري، فلو ان هذه القضية تم طرحها على العقل البشري بعيداً عن المزاج الثقافي البيئي؛ لما اختلف حولها اثنان. فاللغة الفلسفية دقيقة، وهي قريبة من لغة العلوم الطبيعية، لا تخضع الى الكثير من التأويلات ما لم تكن مبهمة المعنى. وبالتالي فكل من له ادنى خبرة سيجد بشكل او بآخر ان النصين في الكتابين متعارضان. وسبق لصاحب هذه السطور ان التفت الى هذا التعارض (عام 1980) عندما لخّص كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء)، لكنه ترك الموضوع حتى أعاد النظر فيه (عام 1985) فتأكد منه وأشار اليه في (الأسس المنطقية للاستقراء بحث وتعليق)، والآن مرّ على هذه الفترة اكثر من ثلاثين سنة ولم تتزحزح قناعته قيد أنملة..
أخيراً هل يمكن افتراض ان الصدر اراد من النص الوارد في (بحث حول المهدي) مجرد اقناع الانسان العادي بالفكرة الدينية والمذهبية الخاصة بالمعجزة، ومنها طول مدة غيبة الامام المهدي، ولم يرد من ذلك الاعتقاد والحقيقة؟
ففي تراثنا الاسلامي شواهد مشابهة لمثل هذه الحالة، احياناً بجعل النص الديني ذاته يمارس هذا الدور من الطابع الاقناعي الخادع دون الحقيقة، كما هي نظرية الفارابيين واتباعهما من الفلاسفة.. واحياناً اخرى نجد شواهد تحاول دفع التهمة عن ممارسة عدد من الشخصيات الشيعية لبعض الآليات الاجتهادية المنكرة. وقد يكون الهدف من هذا الدفع يتعلق بالحفاظ على وحدة الصف الشيعي دون انشقاق او انحراف، كمحاولة الشيخ الطوسي ومن بعده العلامة الحلي من دفع التهمة عن إبن الجنيد في العمل بالقياس، فادعى انه انما اراد التظاهر بموافقة الخصم دون الإعتقاد به.. مع ان الطوسي هو ايضاً قد وجد من وجّه عمله بانه كان يمارس القياس وسائر صور الإجتهاد الأخرى المنهي عنها لمجاراة المخالفين وفق مبدأ التقية من دون اعتقاد.
وحقيقة، إن الدعاوى السابقة تحتاج الى ادلة خاصة تثبت مدعاها، ومن غير ذلك تكون مزاعم بلا دليل. كذلك الحال فيما يتعلق بكتاب (بحث حول المهدي)، فليس من المستساغ تعريته من قصد الاعتقاد ما لم ترد مؤشرات قوية تدعم فرضية الاقناع. وعند النظر فيه لا نجد اي مؤشر يدعو الى هذه الفرضية. بل دلالاته واضحة في التمسك بوجهة النظر المخالفة لما جاء في (الأسس المنطقية للاستقراء).
هكذا ان النص الوارد في (بحث حول المهدي) واضح تماماً، مع ما قد نتفق او نختلف في تبيان بعض جزئياته، لكن دلالته العامة جليّة وساطعة بلا ادنى شك. فمثلاً قد نتساءل أليس مصطلح "المنطق العلمي الحديث" المستخدم في هذا الكراس هو ذاته المعنون باسم "المذهب التجريبي" في (الأسس المنطقية للاستقراء)؟ فلماذا لم يسمّه باسمه مع ان الاصطلاح الاخير أدق من الأول؟ فمثل هذه القضية سواء اتفقنا او اختلفنا حول تفسيرها فسوف لا تؤثر على المعنى العام الذي تمسك به السيد الصدر. وفي مورد التحليل أرى انه أراد بذكر هذا المصطلح ليسهّل على القارئ الاقتناع بالفكرة التي طرحها بما يتفق مع "المنطق العلمي"، بخلاف الحال فيما لو استخدم لفظة "المنطق التجريبي"، حيث مردودها في ذهن القارئ المخاطَب سلبي. وهو ما يعني ان الاصطلاح المستخدم ليس بريئاً او محايداً. فمثل هذا التحليل يمكن ان يلقي ضوءاً على علة استخدام مصطلح معين او لفظة معينة. وهو يذكّر بشاهد جاء في عبارة واضحة لنيوتن، وهي قوله: ‹‹إذا كنت أنا قد رأيت أكثر مما رأى معظم الرجال، فذلك لأنني وقفت على أكتاف عمالقة››.
فهذه العبارة التي تتضمن كلمة "عمالقة" تبدو بريئة ومحايدة، لكنها بنظر بعض المحققين الغربيين ليست بريئة او محايدة كما تصورتها الأجيال، بل فيها ما بين السطور انتقاص لمعاصره المعروف روبرت هوك (Robert Hook)، لِما بينهما من عِداء وتنافس، خاصة وأن الأخير اتهمه بسرقة بحثه العلمي حول الحلقات الملونة للضوء. ومن وجهة نظر فولكنر إن ما قصده نيوتن من لفظة "العمالقة" ليس علماء عصره، أو من سبقوه قليلاً مثل كبلر وغاليلو، بل هم فلاسفة الاغريق وعلمائهم، حيث الإشارة إليهم بالعمالقة هو أمر شائع في ذلك الوقت، وانه ذكر هذه اللفظة بما توحي انتقاصاً لهيئة هوك الذي كان جسمه اقرب ما يكون إلى القزم.
ما بودي قوله ان بعض التحليلات ومعرفة الظروف الملابسة للنص الجلي قد تلقي بعض الضوء لما يرد في معناه، لكنها لا تحوله الى معنى مضاد.
***
بعد المقدمات السابقة التي مرت معنا اصبح المجال مهيئاً للدخول في صلب الموضوع وبلوغ قطب الرحى..
سأرتب اجوبتي على ما تفضل به الناقد من اعتراضات وفقاً لاربعة محاور كالتالي:
الاول: التركيز على ما جاء في (بحث حول المهدي) ونقاط التعديل الذي اجراه الصدر على (الاسس المنطقية للاستقراء).
الثاني: التوقف عند فقرة السيد كاظم الحائري في نقله عما جرى للصدر من افتراض جديد بعد كتابة (الاسس المنطقية للاستقراء)، وهو افتراض مخالف لما ورد في هذا الكتاب، ويعتبر العلامة الداعمة لما أكدنا عليه من التحول، لكونه لا يختلف عما جاء في (بحث حول المهدي).
الثالث: الرجوع الى المصادر الاصولية التي عالج فيها الصدر موضوع "السلطنة"، مثلما أحال اليها الناقد من دون ان ينقل لنا نصوصاً محددة حولها.
الرابع: مناقشة تمسك الصدر بكتاب الاسس المنطقية للاستقراء واعتزازه به وبنظريته حتى بعد كتابة (بحث حول المهدي)، كما اكد على ذلك الناقد بصدق..
المحور الاول
سأبدأ أولاً بذكر نصّ السيد الصدر في (بحث حول المهدي) كاملاً كما يلي:
‹‹نواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن أن يتعطل القانون، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية وإستقرائية؟
والجواب: ان العلم نفسه قد أجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي، وتوضيح ذلك: ان القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة. فحين يطرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدل بهذا الاطراد على قانون طبيعي، وهو انه كلما وجدت الظاهرة الأولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أن العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها، لأن الضرورة حالة غيبية، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الإستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث يؤكد ان القانون الطبيعي، كما يعرفه العلم، لا يتحدث عن علاقة ضرورية بل عن إقتران مستمر بين ظاهرتين، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين. والحقيقة ان المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية، فقد كانت وجهة النظر القديمة، تفترض أن كل ظاهرتين اطرد إقتران إحداهما بالأخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورية، والضرورة تعني ان من المستحيل ان تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الإقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون إفتراض تلك الضرورة الغيبية. وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطراد في الاقتران أو التتابع دون ان تصطدم بضرورة أو تؤدي إلى استحالة.
وأما على ضوء الأسس المنطقية للإستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أن الإستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنا نرى انه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس إفتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظِّم الكون إلى ربط ظواهر معيّنة بظواهر أخرى باستمرار، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء، فتحدث المعجزة››[8].
***
من خلال النص الوارد في (بحث حول المهدي) أعلاه؛ نلاحظ انه يتضمن فكرتين اساسيتين مختلفتين وممكنتين:
احداهما تفترض وجود ضرورة في العلاقة السببية وان كان من غير الممكن اثباتها تجريبياً واستقرائياً باعتبارها غيبية. وعليها يمكن تفسير القوانين الاستقرائية والعلمية بشكل محتم. فهي في هذه الحالة تشكل أساس البناء الاستقرائي وليس العكس. وقد اعتبر الصدر هذه الفكرة القائمة على الضرورة هي فكرة كلاسيكية خلاف النهج الحديث، اذ مردها الى المنطق الارسطي.
أما الفكرة الثانية فتفترض ان تكون العلاقة السببية خالية من الضرورة، وهي مع ذلك قابلة لتأسيس القوانين الاستقرائية والعلمية بشكل غير محتم استناداً الى الاقتران المضطرد، الامر الذي يتلاءم مع تفسير المعجزة.
وكلا هذين الافتراضين يخالفان ما جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء). وتأتي معارضة هذا الكتاب للافتراض الاول في كونه يعتبر فكرة الضرورة قابلة للاستدلال الاستقرائي، ومن ثم فهي ليست غيبية ولا تمثل اساس الدليل الاستقرائي. أما معارضته للافتراض الثاني؛ فلأنه أحال ان تتأسس القوانين العلمية والاستقرائية من دون فكرة الضرورة، بل وأحال ترجيحها ايضاً.
لذا لو اننا اعتبرنا كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) هو الاساس المعول عليه، فذلك يعني اننا سوف لا نتقبل منطقياً ما جاء في كلا الافتراضين السابقين الواردين في اطروحة (بحث حول المهدي). في حين لو استسلمنا الى نصوص الصدر الاخيرة؛ فهذا يعني انه اصبح متردداً بين خيارين، كلاهما لا يعبران عن موقفه في (الاسس المنطقية للاستقراء). الاول هو العودة الى احضان المنطق الارسطي – وكتاب فلسفتنا ايضاً - في تقبل فكرة الضرورة كمصادرة لا تتقبل البرهنة والاستدلال، وانه من خلالها يمكن تفسير القوانين العلمية والاستقرائية بشكل محتم، وليس العكس كما راهنت عليه اطروحة (الاسس المنطقية للاستقراء). أما الخيار الثاني فهو نفي الضرورة في العلاقة السببية بما يتناسب مع الاعتقاد الديني وتفسير المعجزات.
هكذا فالنص الوارد في (بحث حول المهدي) يتضمن أربع نتائج تختلف تماماً عما جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء)، وهي كالتالي:
1ـ يستحيل على فكرة الضرورة ان تخضع لوسائل البحث العلمي والاستقرائي، سواء في السببية أو غيرها، باعتبارها غيبية. وهي من هذه الناحية تشكل أساس الاستقراء بحسب أحد الخيارين الممكنين. في حين جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء) ان فكرة الضرورة تخضع للاثبات عبر الدليل الاستقرائي.
2ـ لقد اصبح من الممكن بحسب (بحث حول المهدي) ان تنشأ القوانين العلمية والاستقرائية منطقياً وفق المفهوم التجريبي للسببية، وهو المفهوم الذي عبّر عنه الصدر في هذا الكتاب بالمنطق العلمي الحديث، وهو يخلو من الضرورة العقلية التي في جميع الاحوال لا تطالها يد التجارب والاستقراء.. في حين جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء) ان المفهوم التجريبي للسببية عاجز عن ان يثبت القوانين العلمية والاستقرائية، بل وعاجز عن ان يرجحها بأي درجة احتمالية ممكنة. فسواء الاثبات او الترجيح كلاهما رهين المفهوم العقلي للسببية، باعتباره ينطوي على فكرة الضرورة خلافاً للمفهوم التجريبي لها.
3ـ لقد عادت فكرة المنطق الارسطي في مصادرة الضرورة من جديد كافتراض قبلي يقع في قبال افتراض المذهب التجريبي الذي يخلو منها. واصبح موقف الصدر – هنا - متردداً بين هذين الافتراضين. في حين انهما كانا موضع نقد في (الاسس المنطقية للاستقراء).
4ـ لقد اعتبر الصدر في (بحث حول المهدي) ان المفهوم التجريبي للسببية اقرب للتصور الديني في حل مشكلة المعجزة، وذلك لخلوها من فكرة الضرورة، وبالتالي جاز خرق القانون الطبيعي والاستقرائي. وتعتبر هذه النتيجة أبعد ما تكون عما جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء).
المحور الثاني
نقل السيد كاظم الحائري في (الامامة وقيادة المجتمع) كلاماً عن استاذه الصدر - كما أورده الناقد – هذا نصّه:
«لأستاذنا الشهيد رأيٌ آخر طرحه على مستوى الافتراض والاحتمال لا الجزم واليقين بعد أن كتب الأسس المنطقيّة للاستقراء يقول فيه: إنّنا نفترض أنّ مبدأ العلّيّة بالمعنى الفلسفي لا وجود له في العالم، وهذا احتمال لا دليل لدينا يمنعنا عن ذلك أو يبطله، فمن المحتمل أنّ كلّ ما نراه يعود إلى مبدأ السلطنة والقدرة وإرادة الله تبارك وتعالى، وحتّى ما نراه من أنّ النار تحرق، فالتفكير الفلسفي الاعتيادي المتعارف وإن كان يقول: إنّ النار علّة للإحراق وإنّ الله تعالى خلق العلّة وهي النار مثلاً، وعلّيّتها ذاتيّة لها، ولكن توجد إلى جانب ذلك فرضيّة أخرى معقولة أيضاً، وهي: أن تكون قد اقتضت الحكمة الربّانيّة أن يخلق الله تعالى دائماً الإحراق متى ما تتحقّق الملاقاة بالنار، وكلا هذين الأمرين محتملان، فالأوّل ـ وهو الرأي الفلسفي المعروف ـ محتمل، والثاني ـ وهو الذي طرحه السيّد الشهيد الصدر وهو أن لا تكون النار علّة للإحراق، وإنّما شاءت إرادة الله تبارك وتعالى أن يخلق الإحراق متى وجدت النار ـ محتمل أيضاً، ولا ينفيه القانون الفلسفي الذي يقول بأنّ الممكن نسبته إلى الوجود والعدم على حدّ سواء ولا يوجد إلاّ بمرجّح، فصحيح أنّ الممكن بحاجة إلى مرجّح، ولكن من قال: إنّ مرجّحه مبدأ العلّيّة؟ فلعلّ مرجّحه مبدأ الإرادة، إرادة الله وقدرته تبارك وتعالى، فالقانون الفلسفي لا يبطل هذا الاحتمال، وكذلك القانون التجريبي الذي أشرنا إليه، فإنّ كثرة التجارب بإشعالنا النار آلاف المرّات ـ مثلاً ـ ورؤيتنا ترتّب الإحراق على ذلك، يدلّنا على وجود عنصر مشترك فيما بين هذه التجارب العديدة، ولكن من قال: إنّ هذا العنصر المشترك هو عبارة عن العلّيّة؟ فلعلّه عبارة عن إرادة الله تبارك وتعالى وقدرته وسلطنته، فهو أراد أن يخلق الاحتراق متى ما صنعنا النار»[9].
***
ويلاحظ في النص السابق ان الفكرة التي عرضها الصدر تشابه ما تم عرضه في (بحث حول المهدي)، وبينهما شيء من الاجمال والتفصيل المتبادل. والمشترك الاساس بينهما هو المقابلة التالية: إما ان تكون العلاقة الطبيعية – كالنار والاحراق مثلاً - تنطوي على العلية القائمة على الضرورة، او انها مجرد علاقة اقتران مضطرد. وتُفسّر العلاقة الاخيرة بحسب المذاهب التجريبية بانها علاقة صدفوية خالية من اي تأثير، سواء كان ضمنياً او خارجياً. في حين انها تُفسّر بحسب بعض التوجهات الاسلامية تبعاً لتأثير عامل ميتافيزيقي هو الارادة الالهية. لكنْ هناك صورتان مختلفتان للتأثير الارادي، احداهما هي ان ما نراه من اقتران يمثل خلقاً مستمراً لهذه الارادة، وهو ما تتبناه الاشاعرة وغيرها، تحت مسمى "اقتران العادة". وبلا شك ان الصدر توقف عند هذه الفكرة كمعارض لفكرة العلية او الضرورة. فيما هناك صورة ثانية جاءت على لسان كل من ابن حزم ومن قبله كثير من المعتزلة، وهي ان علاقة الاضطراد المشاهدة في الواقع الخارجي تنطوي على التأثير السببي الضمني وان لم تتضمن الضرورة الحتمية، وبالتالي كان من الممكن للارادة الالهية أن تتدخل في التغيير والتحويل، كالذي يجري في معاجز الانبياء.
كذلك فان الخيار الاخر لفكرة العلية او الضرورة في العلاقة السببية يحمل ايضاً صورتين مختلفتين لدى توجهات الفلاسفة والمتكلمين، احداهما هي تلك التي ذهب اليها الفلاسفة القدماء، أما الثانية فتعود الى جماعة من المعتزلة ومن تأثر بهم من الامامية الاثني عشرية. وبالتالي لدينا اربع صور مختلفة؛ اثنان منهما يتعلقان بفكرة الضرورة الحتمية، فيما تختص الاخريان بفكرة الاقتران المضطرد الخالي من الضرورة.
فكرة الضرورة في العلاقة السببية
يمكن عرض صورتين مختلفتين لهذه الفكرة كالتالي:
الاولى: وهي قول الفلاسفة بوجود حتمية شمولية تسع كل مراتب الوجود من دون استثناء. فليست هناك قدرة حقيقية ولا ارادة حقيقية لدى واجب الوجود بذاته، بل الكل محكوم عليه بنفس القدر والمصير، سواء كان علة او معلولاً. وعليه كانت علاقات الطبيعة تتضمن هذه الضرورة الناشئة من الضرورة الحاصلة لدى العلة الاولى المتمثلة بمبدأ الحق.
الثانية: وهي قول جماعة من المتكلمين بالجمع بين فكرتي الارادة والحتمية، وقسموا الوجود الى عالمين، عالم الارادة كما يتمثل في الله والبشر، وعالم الطبيعة الذي تنطوي علاقاته على الضرورة الحتمية، وكما اشار الاشعري في (مقالات الإسلاميين) الى ان المعتزلة اختلفوا في السبب هل هو موجب للمسبَّب أم لا؟ فذهب أكثر المعتزلة المثبتين للتولد بأن الأسباب موجبة لمسبَّباتها. ومن ذلك ما جاء عن معمر بن عباد السلمي (المتوفى سنة 220هـ) أنه اعتبر الأعراض في الأجسام المادية هي من اختراعات الأجسام بحسب (الطبع)، كالنار التي تحدث الإحراق، والشمس التي تحدث الحرارة، والقمر الذي يحدث التلوين. كذلك ذهب الجاحظ إلى إثبات الطبائع للأجسام، فأثبت لها أفعالاً مخصوصة. كما اعتقد أبو القاسم البلخي (المتوفى سنة 319هـ) بأن الأجسام مخلوقة من طبائع لا يمكن تغييرها بعد أن خلقها الله كما هي عليه. وأيّد الشيخ المفيد من الإمامية الموقف الذي اتخذه البلخي. وما زال لهذا الإتجاه أتباع وسط الإمامية الإثنى عشرية، ومنهم الميرزا النائيني والسيد الخوئي والمفكر الصدر، كما في كتبه الفلسفية وابحاثه الاصولية.
فكرة الاقتران المضطرد
لهذه الفكرة صورتان مختلفتان لدى التفكير الكلامي في تراثنا الاسلامي، ويمكن عرضهما كالتالي:
الاولى: هي قول الاشاعرة وغيرهم بمقولة (لا فاعل في الوجود الا الله). فالله هو الفاعل المطلق لكل شيء بلا استثناء وفقاً للملكية المطلقة، فهو الذي يخلق في كل لحظة شيئاً ويستبدله بآخر؛ من دون تأثير حاصل في العلاقة المسماة بالسببية، فهي مجرد اقتران مضطرد لا اكثر، ويعبّر عنها باقتران العادة. فمثلاً ما صوّره البعض بأنه عند تحريك الإنسان للقلم يخلق الله أربعة أعراض ليس منها ما هو سبب للآخر، بل هي متقارنة الوجود لا غير. وهذه الأعراض عبارة عن: إرادة تحريك القلم، والقدرة على تحريكه، ونفس حركة اليد، وحركة القلم. وجميعها يخلقها الله مباشرة دون أن يكون بينها تأثير أو سببية، بل إقتران العادة[10].
الثانية: وهي قول الكثير من المعتزلة وربما اغلبهم كما يشير البعض، ومضمونها ان العلاقة بين السبب والمسبب تتضمن التأثير الخالي من فكرة الضرورة او الحتمية، كالذي يلاحظ في حصول التفريق عند احراق النار، ونزول الماء عندما يكون ثقيلاً، وسميت هذه العلاقة بالطبع، او الاعتماد، حيث انها معلّقة على القادر، وبالتالي يمكن منعها من التوليد والايجاب. وشبيه بذلك ما لجأ اليه ابن حزم الاندلسي الذي اكد على ثبات الطبائع، وان ثباتها لا ينتج عن الضرورة الحتمية التي ذهب اليها الفلاسفة، بل هو نتاج (أمر الله) كسنّة ثابتة غير قابلة للتبديل والتحويل إلا بأمره المتعين حصراً في معاجز الأنبياء.
***
هذه هي الصور الاربع لدى التفكير الفلسفي والكلامي حول العلاقة السببية.. ويمكن اجمالها كالتالي:
1ـ تتضمن العلاقة السببية فكرة الضرورة في كل مراتب الوجود من دون استثناء، وهو قول الفلاسفة القدماء.
2ـ تتضمن العلاقة السببية فكرة الضرورة في العالم غير الارادي، كالعلاقات الطبيعية، وهو قول جماعة من المعتزلة والامامية، ومنهم السيد الصدر في كتبه الفلسفية والاصولية، وهو أحد المحتملين الواردين في نص الحائري المنقول عن الصدر أعلاه.
3ـ لا تتضمن العلاقة المسماة بالسببية اي شيء، سواء فكرة الضرورة او التأثير الضمني، فهي مجرد اقتران عادة، وهو قول الاشاعرة وغيرهم، وهو المحتمل الآخر لدى السيد الصدر في النص المنقول أعلاه.
4ـ لا تتضمن العلاقة السببية فكرة الضرورة، لكنها تتضمن التأثير الضمني، وهو قول جماعة من المعتزلة وابن حزم الاندلسي.
وفي نص الحائري أعلاه نلاحظ ان السيد الصدر جعل علاقة السببية القائمة على الضرورة تقع في قبال العلاقة القائمة على الخلق المضطرد كما لدى الاشاعرة. وكان ينبغي ان يكون هناك تفصيل في المسألة لأنها توحي بشيء من الخلط بين فكرة الضرورة وفكرة التأثير في العلاقة السببية، بحيث ان هذه العلاقة اذا كانت خالية من الضرورة فانها ستكون خالية ايضاً من التأثير، وهو افتراض خاطئ. فقد يتواجد التأثير في العلاقة السببية من دون ضرورة، كما هو متبنى الكثير من المتكلمين كما عرفنا، لكن كل ضرورة تنطوي على التأثير. وباعتقادنا ان التأثير هو كالضرورة لا يخضع للحس، لكنه يخضع للاستدلال خلاف الاخيرة، كالذي اشرنا اليه في احدى الدراسات[11]. وبالتالي لو اننا استبعدنا الضرورة من العلاقة المشار اليها فسنكون مترددين بين وجود علاقة تأثير او علاقة اقتران العادة فحسب.
هكذا يتبين ان ما نقله الحائري عن الصدر يختلف تماماً عما جاء في (الأسس المنطقية للاستقراء)، فيما يتفق مع ما جاء في (بحث حول المهدي). وتأتي أهميته من انه يحمل فكرة جديدة للصدر لم تسبق له كتاباته من قبل.. وهذا ما سنوضحه في الفقرة الآتية..
المحور الثالث
لنرجع الى الإحالات التي اشار اليها الناقد حول "السلطنة" من دون ان يأتي بنصوص مقتبسة تدل على الغرض. فقد اعتبر ان السيد الصدر كان يطرح على الدوام نظريتين ممكنتين لتفسير العلاقات الطبيعية، من دون ان يختلف ذلك عما جاء في (بحث حول المهدي)، كما لا يختلف عما نقله الحائري في فقرته التي سبق عرضها وتحليلها. وهو قد خالف الحائري الذي صرح بان هذا الطرح يعتبر جديداً بعد كتابة (الاسس المنطقية للاستقراء)، في حين ذهب الناقد الى ان الطرح المشار اليه قد سبق تلك الفترة لدى ابحاث الصدر الاصولية للدورتين الاولى والثانية. وكما قال: إن «الشهيد الصدر في محاضراته الأصوليّة ـ قبل الأسس المنطقيّة وبعدها ـ كان يطرح نظريّتين من الممكن أن نفسّر عالم الوجود على أساس أيّ منهما، هما نظريّة (الوجوب والضرورة) التي قام على أساسها كتاب (الأسس المنطقيّة)، ونظريّة السلطنة التي تتماشى مع ما طرحه في النصّ الملتبس في كتاب (بحث حول المهدي). وهاتان النظريّتان تعبّران ـ بتعبير الشهيد السيّد محمّد الصدر ـ عن أطروحتين في المقام.. السيّد الحائري يقول إنّ هذا طرحه السيّد الشهيد بعد كتابة (الأسس)، ولكنّ الحقّ أنّه كان يقول به قبله وبعده، فكأنّه كان يقول بما هو جامعٌ بين مبدأ الأشاعرة وغيرهم».
لذلك استدل الناقد على ما اشار اليه بالقول: «وإذا رجعنا إلى تقريرات الشهيد الصدر الأصوليّة، فنجد حديثاً عن مبدأ السلطنة في بحث حجيّة الدليل العقلي من الدورة الأصوليّة الأولى سنة 1383هـ (1963م)، ثمّ في بحث الطلب والإرادة من مباحث الأوامر من الدورة الأصوليّة الثانية، والذي يظهر من دفاتر المرحوم السيّد عبد الغني الأردبيلي أنّه بحثه سنة 1392هـ (1972م)، وبحث مسألته الفلسفيّة بتاريخ الأحد 22/شعبان/1392هـ بالتحديد، أي بعد طباعة الأسس المنطقيّة للاستقراء بفترة وجيزة جدّاً، ثمّ في بحث حجيّة الدليل العقلي من الدورة الأصوليّة الثانية سنة 1397هـ (1977م)».
لقد راجعنا المصادر حول السلطنة كما أحال اليها الناقد من دون تفاصيل. ويتعلق أصل البحث المطروح بالارادة الانسانية وليس علاقات الطبيعة الا عرضاً. والمهم اننا لم نعثر على اي اشارة تدعم اطروحة النظريتين المحتملتين والمتنافستين كما معروضة اعلاه، بل على العكس، فقد ظل الصدر يتبنى على الدوام فكرة العلية المتضمنة لعنصر الضرورة في تفسيره لعلاقات الطبيعة حتى عام 1972، اي سنة نشر كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء). ومن حيث الدقة كان الصدر في تلك الإحالات المتعلقة بالسلطنة يتعامل مع عالمين مختلفين، العالم الطبيعي الذي اعتبره ينقاد تحت هيمنة العلية وضرورتها الحتمية، وعالم الارادة - كعالم الإله والانسان – الذي حسبه خاضعاً للسلطنة وليس للعلية وضرورتها. وهي فكرة سبق لجماعة من المعتزلة والامامية ان اعتقدوا بها، كما سبقت الاشارة الى ذلك.
وتأكيداً لهذا يمكن الرجوع الى البحث الاصولي المتعلق بالسلطنة لدى بحث الدليل العقلي من الدورة الاولى (عام 1963)، ولدى بحث الطلب والارادة ضمن بحوث الاوامر من الدورة الاصولية الثانية (عام 1972). أما بحث حجيّة الدليل العقلي من الدورة الثانية (عام 1977)؛ فالملاحظ انه لا يوجد فيها بحث حول السلطنة كما اشار اليها الناقد، وبالتالي تنتفي المناقشة حولها بانتفاء الموضوع.
لنبدأ بالدورة الاصولية الاولى وفق (مباحث الاصول) للسيد كاظم الحائري، حيث يقول الصدر بالحرف الواحد: «نحن نقول: إنّ نسبة الفعل الاختيارىّ إلى فاعله هي بالتعبير الاسمىّ نسبة السلطنة، وبالتعبير الحرفىّ نسبة (له أن يفعل، وله أن لا يفعل). فنحن ننكر انحصار النسبة في الوجوب والإمكان، ونؤمن بأنّ النسب ثلاثة: نسبة الوجوب، ونسبة الإمكان، ونسبة السلطنة، أو (له أن يفعل، وأن لا يفعل). ونؤمن بأنّ موضوع القاعدة العقليّة الصادقة في كلّ العالم بالدقّة: هو الجامع بين الوجوب والسلطنة، لا نفس الوجوب فقط. فالقاعدة التي تصحّ في كلّ المواضع هي: (أنّ الشيء لايوجد إلّا بالوجوب أو السلطنة)، لا (أنّ الشيء بشكل عامّ ما لم يجب لم يوجد) نعم، بما أنّ السلطنة غير موجودة في العلل التكوينيّة فوجود معلولاتها لا يكون إلّا بالوجوب»[12].
وذات هذه الفكرة نجدها من دون اختلاف لدى الدورة الاصولية الثانية حسب (بحوث في علم الاصول) للسيد محمود الهاشمي والشيخ حسن عبد الساتر. ففي البداية أيّد السيد الصدر ما نصّ عليه الميزا النائيني في الاخذ بقانونين، احدهما الضرورة العلية في عالم الطبيعة، والثاني القدرة في عالم الاختيار (الانساني)، باعتبار ان الحديث دائر حول افعال الانسان. ثم قال بحسب تحرير حسن عبد الساتر: «أما المطلب الثاني من كلام الميرزا (النائيني) الذي هو صحيح على ما يأتي توضيحه، هو ان مبادئ العلية التي تحكم بان كل حادثة لا توجد الا بعلة موجبة، وان الشيء ما لم يجب بالعلة لا يوجد، فان هذا القانون لا نلتزم باطلاقه وشموله حتى للافعال الاختيارية، والا لانتهينا الى مذهب الحكماء... اذن فلا بد من رفع اليد عن اطلاق هذا القانون، فلا يشمل الافعال الاختيارية... فالحادثة لها منشآن، فتارة توجد بالعلة، واخرى توجد بوجوب منشأ يكون بدلاً عن الوجوب بالعلة، اما ما هو هذا البديل الذي هو منشأ في باب الافعال الاختيارية، فهذا ما يأتي توضيحه»[13]. وقصد بذلك مفهوم السلطنة..
هكذا ان السيد الصدر وفق النصوص الانفة الذكر حول السلطنة لا يلتزم بنظريتين محتملتين حول علاقات الطبيعة كما ظنّ الناقد، بل لم يتردد في تقسيمه للوجود الى عالمين ارادي وطبيعي، ولكل منهما قوانينه الخاصة المختلفة عن الاخر، ففي العالم الارادي يسود مبدأ السلطنة، فيما يسود مبدأ العلية وضرورتها الحتمية في العالم الطبيعي. ويعتبر هذا الطرح الاخير موافقاً لما جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء)، وذلك قبل ان ينقلب عليه بعد هذا الكتاب كما اشار اليه السيد الحائري ومن ثم تمّ التأكد منه في (بحث حول المهدي).
المحور الرابع
ذكر الناقد حجة أحسبها هي الوحيدة القوية فيما استدل عليه، وهي ان السيد الصدر كثيراً ما كان يشير الى كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء) باعتزاز ويحيل اليه عند الحاجة في بحوثه الاصولية وغيرها، قبل وبعد كتابة (بحث حول المهدي)، دون ان يظهر عليه أثر في تغيير بعض آرائه ضمن نظريته الاساسية. ونقل الناقد عنه فقرة من رسالة له في أواخر حياته يقول فيها: «وأرجو أن أتوفّق إذا ساعد حالي وأعانت صحّتي إلى كتابة كتاب دراسي في أصول الدين تمتزج فيه المقدّمة المعهودة للطبعة الثانية من الفتاوى الواضحة بقدر كبير من أبحاث (فلسفتنا) وبجزء معتدٍّ به من نظريّتنا في (الأسس المنطقيّة للاستقراء) لكي يكون كتاباً دراسيّاً حديثاً في أصول الدين إن شاء الله تعالى»[14].
ثم عقّب الناقد بقوله: «لاحظوا جيّدًأ: يقول بعد بحث حول المهدي: نظريّتنا في الأسس المنطقية للاستقراء، فهل يعقل أن يكون قد عدل عن ذلك ثمّ يعبّر بهذا التعبير؟!».
واعترف انه لو كان هناك التباس في النص الوارد في (بحث حول المهدي)، وكذا ما نقله السيد الحائري، لاعتبرت ما قدمه الناقد كافياً لازالة هذا الالتباس، بل لما كلّفتُ نفسي وتجشّمتُ أعباء البحث والتدقيق أساساً. لكن الحال ليس كذلك، وانما قد نجد العكس، وهو الالتباس فيما لم يشر اليه الصدر من التعديل في كتبه ومحاضراته المتأخرة، خاصة الاصولية منها. وهذا ما ينبغي البحث فيه..
بداية علينا ان نأخذ بنظر الاعتبار ان الصدر لم يتراجع عن كامل نظريته في (الاسس المنطقية للاستقراء).. وهنا لا بد من ان نحدد اركان هذه النظرية وتعيين ما طرأ عليها من تعديل، ثم بعد ذلك نقارن ما اذا كانت هناك اشارة واضحة للصدر حول تلك المعدلة – تخصيصاً - لدى بحوثه المتأخرة.
وعندما ندقق في نظرية الصدر حول الدليل الاستقرائي في كتابه المشار اليه نجدها تتألف من أربعة أركان عامة، نذكرها كعناوين: العلية، والوحدة المفهومية المشتركة، ونظرية الاحتمال، والمرحلة الذاتية. فالدليل الاستقرائي وفق السيد الصدر لا يمكن ان تقوم له قائمة من دون هذه الاركان.
والركنان الاولان مرتبطان مع بعض، ويعتبران شرطاً لاثبات الدليل الاستقرائي للقضايا الموضوعية دون ان يعملا على بنائه، بل انهما نتاج الاستقراء ذاته، اي انهما متولدان عن نظرية الاحتمال وحساباتها، ومن ثم يساعدان في اثبات القضايا الموضوعية كشرط اساس.
ويختص الركن الرابع بالمرحلة الأخيرة للدليل الاستقرائي، وبدونه لا يتحول الاستقراء من الدرجة المتصاعدة للاحتمال الى اليقين.
ومن حيث الاساس ان ما يبني الدليل الاستقرائي، سواء في الركنين الاولين، او في القضايا الموضوعية، انما هو نظرية الاحتمال وحساباتها. وتأتي من بعدها المرحلة الذاتية لتحويل القضية الاستقرائية مما هي كبيرة الاحتمال جداً الى درجة اليقين، سواء في الحالات الخاصة او التعميم.
هكذا فبناء الدليل الاستقرائي مدين في الاساس الى نظرية الاحتمال، ثم بعد ذلك المرحلة الذاتية. اما غيرهما من الركنين الاخرين فهما - كما ذكرنا - مجرد شرطين ضروريين للبناء الاستقرائي المتعلق بالقضايا الموضوعية دون ان يوليهما الصدر دوراً في صناعة الترجيحات واليقين، اي خلافاً للمنطق الارسطي. ومعلوم ان الاتجاهات التجريبية الحديثة كثيراً ما تجد في اليقين والتنبؤات المحتملة معضلة قائمة؛ بعد ما أثار ديفيد هيوم شكوكه حولهما، حتى نُعتت الفلسفة على أثرها بالبؤس والفضيحة. فالسؤال الذي يرد لدى الفلاسفة المحدثين على الدوام هو: هل من مبرر منطقي للتنبؤ بالقضايا الواقعية التي نتعامل معها؟ ثم هل من مبرر للتوصل الى التعميم في القضية الاستقرائية؟
وعند المقارنة بين الاركان الاربعة الانفة الذكر كما وردت في (الاسس المنطقية للاستقراء) وبين ما جاء في (بحث حول المهدي)، وكذا ما نقله الحائري، نجد انه لم يهتز منها بشكل واضح وصريح سوى العلية القائمة على الضرورة. وباعتبار ان الصدر ليس كديفيد هيوم الذي كان يبحث عن مبرر منطقي لدعم القضية الاستقرائية فلم يجد شيئاً بهذا الخصوص وفق فلسفته الحسية. فما يبحث عنه الصدر هو غير ذلك تماماً، اذ لم يشكك يوماً في القضية الاستقرائية كما فعل هيوم، انما كان يبحث عن مبرر منطقي لتفسير ما هو معلوم سلفاً. فهو يسلم ابتداءاً بصدق القضايا الاستقرائية كما يمارسها البشر تلقائياً، لذلك وجد نفسه حرياً بالبحث عن منطق يدعم هذه الفكرة بعد ما رأى الفكر الحديث يعاني من مشكلة حولها دون ان يجد تبريراً لها. ولعل اطلاعه على (المنطق الوضعي) لزكي نجيب محمود هو ما أثار له هذا الاهتمام. وعليه لما كان التعديل حاصلاً في الشروط وليس في اساس البناء الاستقرائي كما في نظرية الاحتمال، لذا سوف لا يمنعه ذلك من التمسك بنظريته مع اتخاذ خيار بين خيارين:
فإما أن يتخلى عن العلية القائمة على الضرورة كلياً وبالتالي سوف يتراجع عن مسألة التعميم دون غيرها من القضايا، ويضع كل ثقله على البناء الاحتمالي لتنمية القضية الاستقرائية حتى لو كانت السببية هي ذات منظار المذهب التجريبي الذي نقضه في (الاسس المنطقية للاستقراء)، وبالتالي كان عليه ان يؤسس من جديد كيف يمكن للحسابات الاحتمالية ان تترجح في القضية الاستقرائية مع افتراض هذه السببية.
أما الخيار الثاني فهو أن يتمسك بافتراض الضرورة في العلية كمصادرة مثلما عليه المنطق الارسطي ومن ثم يبقى محتفظاً بجميع مفردات ما جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء) ونتائجه من دون اي تعديل اخر. وكلا هذين الخيارين هو ما نتهى اليه في (بحث حول المهدي) وما نقله الحائري عنه.
وبالتالي اذا اردنا ان نبحث في مصادر السيد الصدر لدى بحوثه المتأخرة علينا النظر الى هذه الناحية بالذات.. والذي لاحظته هو ان اغلب اشارات واحالات الصدر في هذا المجال كانت حول نظرية الاحتمال ونقد المنطق الارسطي حول تصوره المتعلق بأولية المتواترات والتجربيّات والحدسيات ومبدأ (عدم تكرر الصدفة والاتفاق). وفي احيان معينة كان يشير الى المرحلة الذاتية واليقين. كما كان يشير ايضاً الى مسألة العلية، موضع بحثنا، كالذي سنطلع عليه. أما الركن الاخر المتعلق بالوحدة المفهومية المشتركة، فهي تابعة للعلية ولا يوجد حولها اشارة خاصة. لكن في جميع الاحوال لا توجد اشارة تدل على ان الصدر قد تراجع عما جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء)، كما لا توجد دلالة قاطعة على تمسكه بكل ما جاء في هذا الكتاب، وبالذات فيما يخص العلية كما سنرى..
***
نأتي الآن الى مناقشة اعتراض الناقد الذي ذكر بأن الصدر في بحثه الاصولي حول التواتر (عام 1977)، اي سنة كتابة بحث حول المهدي، لم يشر الى اي تحول في فكره «عند إحالته في أبحاثه الأصوليّة إلى (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، خاصّة عند إحالته في بحث التواتر إلى مصادرة (تطابق المستقبل مع الحاضر) المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبحث محلّ الشاهد، بل عندما ذكر في البحث خلاصة ما انتهى إليه في كتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء)».
فحول هذا الاعتراض يمكننا ان نستحضر في اذهاننا الركن الذي جرى عليه التعديل من بين الاركان الاربعة الانفة الذكر، وهو ركن العلية وفق مفهومها العقلي. في حين ان ما اشار اليه الناقد لا يتعلق بهذا الركن، بل بغيره من الاركان الاخرى، وهو نظرية الاحتمال وحساباتها.
ففي بحث الدليل العقلي والتواتر من الدورة الاصولية الثانية تعرض الصدر لمناقشة المعارف الاولية الست بحسب المنطق الارسطي، وركز في ذلك على نقد مبدأ (عدم تكرر الصدفة والاتفاق اكثرياً ودائمياً) لما لها من مساس بقضية التواتر التي هي محل البحث، اضافة الى التواتر والتجربيّات والحدسيات اعتماداً على نظرية الاحتمال مع نقد اعتبارها من القضايا الاولية كما يذهب الى ذلك الارسطيون. وخلال مناقشاته استحضر كثيراً مما تطرق اليه في (الاسس المنطقية للاستقراء) ضمن نقده لهذا المنطق. واهم نقطة تعرض اليها قريبة مما نحن بصدد البحث فيه هي تلك المتعلقة بكيفية معرفة العلة او السبب في العلاقات الاقترانية الموضوعية، وذلك عبر حسابات الاحتمال، وقدّم مثالاً حولها يتعلق بتأثير الاسبرين على شفاء مريض تبعاً لعدد من التجارب المفترضة، كذلك اثبات وجود الصانع[15]..
وفي هذا المثال وغيره من الشواهد لا يشكك الصدر في قيمة الدليل الاستقرائي باعتباره قائماً على نظرية الاحتمال. وقد استخدم في المثال المشار اليه اصطلاح "السبب" في بحث (الدليل العقلي)[16]، في حين اعاد ذكر الموضوع والمثال في مبحث (التواتر) فاستخدم اصطلاح "العلة"[17].. وقد يرد السؤال: هل كان قاصداً من اصطلاح العلة بذات المفهوم العقلي المنطوي على الضرورة.. ام انه مجرد استخدام عادي محايد؟
وهنا لا يركز الصدر على هذا الموضوع، كما لا توجد اشارة في جميع ما طرحه من نصوص حول علاقة العلية بالدليل الاستقرائي. لكنه في (دروس في علم الاصول) استحضر مفهوم العلية المتضمن للضرورة وأبدى تمسكه به في اكثر من موقف، ومن ذلك قوله: «يستطيع العقل ان يثبت وجود المسبب اذا عرف وجود السبب نظراً الى استحالة الانفكاك بينهما»[18]. كذلك تأكيده في محل اخر على مفهوم العلية في الربط بين الحوادث الموضوعية والتي على اساسها يمكن رفع درجة احتمال هذه الحوادث حتى تتحول الى اليقين[19]. ومثل ذلك ما اشار اليه في موضوع التواتر[20].
وعليه يمكننا ان نستنتج بان الصدر يميل في كتاباته الفلسفية والاصولية الى التمسك بمفهوم العلية المنطوي على الضرورة. وليس في هذا خدش بما قام به من تعديل، فقد كان يشير الى وجود نظريتين محتملتين كلاهما يختلفان عما جاء في (الاسس المنطقية للاستقراء)، وواحدة منهما هي الحفاظ على المفهوم الارسطي للعلية، كمصادرة غير قابلة للاستدلال الاستقرائي، اما الثانية فهي انكارها.
ومع انه لم يتعرض الى موضوع علاقة الضرورة بالدليل الاستقرائي في بحوثه الاصولية المتأخرة وغيرها، لكن لو ثبت انه تعرض الى اثباتها بالدليل الاستقرائي والتجربة، وكان بحثه مقارباً لزمن ظهور (بحث حول المهدي)، فسنصطدم بالتناقض والتذبذب الذي لا مفر منهما. لكن ليس هناك من أثر على هذا المنحى.
***
أما حول مصادرة "المستقبل كالماضي" كما يسميها الصدر في (بحوث علم الاصول)، وهي ما اشار اليها من دون هذه التسمية عند نقده للاتجاه التكراري في نظرية الاحتمال لدى (الاسس المنطقية للاستقراء)، فهي قضية اخرى ليس لها ارتباط بقوانين العلية مثلما كان يفعل المنطق الارسطي، وهو ما اشار اليه بوضوح، كما في بحثه الاصولي. وجاء بمثال على ذلك يتعلق باختبارات الصدق والكذب في اخبارات زيد التي يمكن تعيين نسبتها رياضياً وفقاً لحالات التكرار، ولأجل تبرير بسطها على حوادث المستقبل احتاج الى مصادرة تفي بالغرض، وهي اعتبار المستقبل كالماضي، حيث لا يكفي تبرير ذلك وفقاً للحساب الرياضي، كالذي اشار اليه في مبحث التواتر[21].
وفي (الاسس المنطقية للاستقراء) لوّح الى هذه المصادرة في نص له بقوله: «غير أني لا بد لي أن أشير هنا إلى أن هذه العلاقة لا يمكن استنتاجها من المبادئ المتقدمة لنظرية الاحتمال فحسب، لأن المبادئ المتقدمة بإمكانها أن تحدد نسبة تكرار الذكاء في العراقيين، ولكن ليس بإمكانها أن تقرر أنه في حالة اطلاعنا على أن هذا الفرد المعين عراقي وعدم اطلاعنا على أي شيء آخر لا بد أن تكون درجة الاحتمال مطابقة لتلك النسبة، فلا بد لاستنتاج هذا التطابق من بديهية أخرى - كما سوف نعرف فيما بعد إن شاء الله تعالى -. ولنفرض الآن التطابق بينهما إلى أن يأتي الحديث عن تلك البديهية».
ثم بعد ذلك حدد هذه المصادرة او البديهية وهو بمناسبة مناقشة مبدأ الاستقراء والتكرار الذي اشار اليه برتراند رسل كما في مثال احتمال وجود زرادشت، فقال: «إن احتمال وجود زرادشت احتمال واقعي ولا يمكن أن تتحدد درجته على أساس التكرار ومبدأ الإستقراء فقط، لأن التكرار ومبدأ الإستقراء يؤديان إلى تحديد نسبة معينة للصدق في مجموع أعضاء تلك الفئة من البينات وهذا هو ما أطلقنا عليه سابقا اسم الاحتمال الافتراضي، ولا يكفي هذا وحده لاستنتاج درجة احتمال صدق البينة الدالة على وجود زرادشت ما لم نضف إلى التكرار ومبدأ الإستقراء البديهية التي أشرنا إليها سابقا والتي تقرر أن درجة الاحتمال الواقعي للحادثة في عضو معين من فئة يجب أن تطابق نسبة تكرار الحادثة في أعضاء تلك الفئة، إن هذه البديهية لا يفرضها التكرار ولا مبدأ الإستقراء وبدونها لا نقدر على تحديد درجة الاحتمال الواقعي، فالقول بأن التكرار ومبدأ الإستقراء يكفيان لتحديد درجة احتمال وجود زرادشت غير صحيح».
ويلاحظ ان المصادرة او البديهية التي ذكرها الصدر شكلية ولا علاقة لها بالعلية، بل هي مناطة بنظرية الاحتمال ومصادراتها.
***
هكذا ننتهي الى ان الصدر يميل الى الحفاظ على مفهوم العلية المتضمن للضرورة الحتمية، وهو ما يجعلنا نفترض انه يصادر هذا المفهوم قبلياً مثلما عليه المنطق الارسطي. ويعتبر هذا الميل أقل كلفة من الميل الى السببية التجريبية عند الاخذ بنظر الاعتبار اعتزازه بنظريته في (الاسس المنطقية للاستقراء)، ومن ذلك تعبيره في بعض رسائله المتأخرة بعبارة «نظريّتنا في الأسس المنطقية للاستقراء» كما سبقت الاشارة اليها. وهو أمر مفهوم، اذ في هذه الحالة تبقى جميع المسائل المطروحة في الكتاب على ما هو عليه من دون تغيير سوى ما يتعلق بالعلية. وكل ذلك يأتي بانسجام تام طالما ان الموضوعات المطروحة تبتعد عن القضايا الدينية التي لها علاقة بالمعجزات، ولو تم طرح مثل هذه الموضوعات لتوقعنا ان يتغير البحث والحديث ليأتي على شاكلة ما جاء في (بحث حول المهدي)، فهو بمثابة الايمان في قبال العقل. ولكل مقام مقال يناسبه.
لذا علينا ان ندرك بان ما آل اليه المفكر الصدر هو التردد في حقيقة ما يجري في الواقع الموضوعي، إن كان يقع تحت هيمنة مفهوم العلية المتضمن للضرورة، أم تحت رحمة الارادة الالهية وقدرتها؟ وفي كلا الحالين لم يشكّل (الاسس المنطقية للاستقراء) آخر محطته الفكرية بكل ما ما يتضمنه من شروط.
[1] أهم ما صدر عن الشيخ أحمد أبو زيد العاملي موسوعته القيمة بعنوان (محمد باقر الصدر: السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق) في خمسة مجلدات، عن مؤسسة العارف ببيروت.
[2] انظر المقال المشار اليه في موقع فيهم الدين: http://www.fahmaldin.net/index.php?id=2436
[3] انظر حول ذلك ما جاء في النظام الوجودي.
[4] انظر: نُظم التراث.
[5] النظام الوجودي.
[6] انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي.
[7] محمود الهاشمي: بحوث في علم الأصول، تقرير ابحاث السيد محمد باقر الصدر، المجمع العلمي للامام الصدر، الطبعة الأولى ، 1405هـ، باب مباحث الحجج والاصول العلمية، ج1، ص131ـ132.
[8] بحث حول المهدي، ص45ـ46، ضمن موضوع (المعجزة والعمر الطويل).
[9] لاحظ النص في مقالة ما اورده الناقد. كذلك: كاظم الحائري: الإمامة وقيادة المجتمع، ص122ـ123، عن مكتبة نرجس الالكترونية: http://www.narjes-library.com/2012/12/blog-post_870.html
[10] انظر: النظام المعياري.
[11] انظر: السببية والزمن الفيزيائي، موقع فلسفة العلم والفهم:http://www.philosophyofsci.com/index.php?id=107
[12] كاظم الحائري: مباحث الاصول، القسم الثاني، الجزء الاول (بحث الدليل العقلي)، ص441ـ442. اظر: http://www.almarjeya.com/pages/book-detail.php?bid=21&pid=441
[13] حسن عبد الساتر: بحوث في علم الاصول، ج4، ص78ـ79. انظر:http://www.narjes-library.com/2013/12/blog-post_1.htmlكذلك: محمود الهاشمي: بحوث في علم الاصول، مباحث الدليل اللفظي، الجزء الثاني. انظر:http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/osul/osolbohoth/bohoos/bohoos2/hp-bohoos2.htm
[14] أحمد أبو زيد العاملي: محمد باقر الصدر: السيرة والمسيرة، مؤسسة العارف، بيروت، الطبعة الاولى، 2006م، ج3، ص392.
[15] حسن عبد الساتر: بحوث في علم الاصول، ج8، ص337 وما بعدها. وج10، ص12 وما بعدها.
[16] المصدلار السابق، ج8، ص339 وما بعدها.
[17] المصدر السابق، ج10، ص12 وما بعدها.
[18] دروس في علم الاصول، الحلقة الاولى، دار الكتاب اللبناني – دار الكتاب المصري، ط1، 1978، ص140.
[19] دروس في علم الاصول، الحلقة الثالثة، اعداد وتحقيق لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للشهيد الصدر، ط1، 1421هـ، ج1، ص150.
[20] المصدر السابق، ص153.
[21] حسن عبد الساتر: بحوث في علم الاصول، ج10، ص27ـ28..