يتصور الكثير خطأً أنه يجب على المسلم الانتماء الى مذهب معين، فالتدين بلا تمذهب هو تمذهب بلا دين..
والحال ان المذاهب الاسلامية قد اصيبت بخطأ مشترك جسيم لدى اعتمادها الرئيسي على التراث الروائي، وهو ما جعل الدين يتلون بلون الرواية دون الدراية غالباً. واصبحت المذاهب مشبعة بالظنون والاوهام التي ألصقتها بالهوية الدينية، حتى شاعت قاعدة ‹‹ما من حادثة الا ولله فيها حكم››؛ لتبرير عدم جواز مفارقة الرواية وما يترتب عليها من اجتهاد، وغدا من الصعب على المسلم ان يصدق بان هذه التفاصيل لا علاقة لها بالدين، بل وصار من الصعب عليه ان يستغني عنها بحجة انه لولاها لم يبق للدين أثر، او كما أشار بعضهم إلى ان ترك العمل بالروايات هو في حد ذاته إبطال للدين والشريعة وترك التكليف، او انه ليس له من معنى سوى الخروج عن الدين.
لقد فُرض على المسلم ان يكون إما سنياً او شيعياً او اباضياً.. وعلى صعيد العقائد يكون إما اشعرياً او ماتريدياً او سلفياً او امامياً.. وعلى صعيد الفقه إما جعفرياً او حنفياً او مالكياً او شافعياً او حنبلياً.. ومن ثم فالتمذهب محاط بالمسلم منذ ولادته من كل جانب، مع الترويج بان التدين لا يصح من غير هذا التمذهب.. رغم ان الكل يدعي ان مذهبه الاصولي هو الصحيح المعبر عن الهوية الحقيقية للاسلام، أما سائر الفِرق فهي على خطأ وضلال وكفر احياناً.
هكذا تتحدث المذاهب بالنيابة عن الدين الحق، وكان لهذه الفكرة الدور العميق في الصراع والنزاع، بل والاقتتال فيما بينها احياناً. واصبحت كل جماعة تسعى الى نصرة ما تنتمي اليه من مذهب بدافع ‹‹العصبية القبلية›› المتمثلة بالتقليد، او بتحريك سياسي. ولكل منها قدرة قوية في اضعاف غيرها واظهار نواقصها، فيما تكون ضعيفة في الدفاع عن اطروحاتها الذاتية، اذ لم يكن الدافع في النزاع التقصي لرصد الحقيقة بالبحث والتدقيق.
إن المذهب هو نتاج بشري، ومن التعسف اعتباره نسخة طبق الأصل من الدين بلا زيادة او نقصان. فكل مذهب لا يخلو من عيوب ونواقص، وهو من هذه الناحية يتضارب مع جزء من الحقيقة الدينية. لذلك كان من الاهمية بمكان تجريده من العباءة الدينية، واعتباره مدرسة فكرية لاهوتية لها ما لها وعليها ما عليها. وبالتالي لسنا ملزمين بالتمسك بجميع ما تطرحه المذاهب من اجتهاد، سواء على صعيد الاصول والعقائد، او على صعيد الفروع والفقه والتفسير وما اليها. فقد تترجح لدى الباحث فكرة لدى هذا المذهب، فيما تترجح اخرى لدى غيره، بل قد تترجح فكرة لا تحملها جميع هذه المذاهب سوية. ويبقى اهم ما في الموضوع هو رفع الديننة عن الاجتهادات الفردية والمذهبية، فلكل رؤيته الخاصة بلا قداسة مفتعلة، والكل قابل للنقد بلا تضليل ولا احتكام لوهم امتلاك الحقيقة المطلقة.
إن اكثر من (90 بالمائة) مما تعتبره المذاهب الاسلامية من الدين هو من الظنون والاوهام المفصلة، فهي مستنبطة من الاحاديث التي لا دليل على قطعيتها ولا على حجيتها، كالذي عرضناه في (مشكلة الحديث).
وحقيقة الحال ان القضايا الدينية المطلوبة قليلة للغاية، ونجد ان اغلب الايات القرآنية تركز على مسألة الايمان بالله والعمل الصالح، وليس هناك من مسألة أولاها القرآن الكريم اهمية مثل هاتين المسألتين، واذا كان الايمان بالله يمثل جانب الاعتقاد، فان العمل الصالح مرهون بالقيم الاخلاقية وما تفرضه الفطرة البشرية.. وهي من اعظم المقاصد الدينية المطلوبة. أما التفاصيل التي تشدّقوا بها والتي أودت بعلماء الاسلام ومذاهبهم الى النزاع والصراع تحت هيمنة مقالة الفرقة الناجية؛ فليس لها اي اثر في القرآن، ومثل ذلك ما يقال حول المسائل الفقهية التي اغرقها الفقهاء بالبحث والتنقيب - واضفوا عليها القداسة الموهومة - هي ايضاً لا نجد لها ذلك الاثر في القرآن الكريم. وهي بطبيعتها لا تدع مجالاً للتمسك بالمقاصد، حيث ان احداهما تفضي الى التعارض مع الاخرى طبقاً لاختلاف الظروف والواقع. لذلك نجد المنظّرين للمقاصد لم يقدّموا شيئاً غير تبرير الاحكام ضمن تصنيفها وفق الجدول المقاصدي، فهي بمثابة أُطر جامدة لا تقوى على تفعيل الاحكام وتأسيسها استناداً الى تغيرات الواقع وتحولاته. اي انها وُضعت للتبرير لا للتأسيس. وهذا هو جوهر المشكلة المتعلقة باصحاب نظرية المقاصد.
وعلى خلاف النهج السابق يمكن ان نتبنى العمل بالمقاصد المؤسِسة بما يتناسب مع النهج القائم على الفهم المجمل، وذلك عبر الاحتفاظ بالواضحات مع ترك التفاصيل ذات الظنون والاوهام التي اعتبرتها المذاهب الاسلامية جزءاً لا يتجزأ من الحقيقة الدينية.
وبحسب منهج الفهم المجمل فان التفاصيل هي مورد اجتهادات بشرية تخلو من المقدسات، فمن اراد ان يرجح بعضاً منها فليرجح من دون قداسة دينية، بل يصبح حالها مثل سائر الاجتهادات والتصورات البشرية التي هي محل اجتهاد وأخذ ورَدّ. وبالتالي لا بد من تقليص حجم المقدس الديني الى ابعد حد ممكن. وهو الفعل الذي يقع على عاتق منهج الفهم المجمل، حيث يقوم بتضييق دائرة النص وما يترتب عليها من قداسة، لكنه ينفتح في المقابل على الواقع بهدي المقاصد، كالذي فصلناه في (النظام الواقعي) ضمن المشروع الخماسي (المنهج في فهم الاسلام).
وعليه فالفارق بين الفهمين المجمل والمفصل، هو ان الاول يعتبر النص الديني موجهاً للفكر، فيما يعتبره الثاني مكوِّناً له.
فهذا ما نعول عليه كمسلك قابل لتوحيد الامة والتخفيف عنها، خلافاً للنهج الذي اتبعته المذاهب الاسلامية في التوسعة والظنون واضفاء القداسة عليها، فاصبحت المقدسات محلاً لتفرقة الامة والتشديد عليها، ومسلكاً للنزاع والاحتراب بامتلاك القداسة الوهمية.