يتصور الكثير خطأً أن هدف النظريات العلمية (الفيزيائية) هو معرفة الحقائق الموضوعية للواقع كما هو..
والحال انه قد تغيرت النظرة العلمية منذ بداية القرن العشرين إلى يومنا هذا، فلم يعد الاهتمام بالكشف عن حقيقة الواقع الموضوعي بعد أن تعرضت الثقة العلمية للاهتزاز، وساد جو من الاعتقاد بأن الوصول إلى فكرة التطابق مع الواقع الموضوعي هو أمر مستحيل، لإعتبارات بعضها علمية كتلك التي قدمتها نظرية الكوانتم في التفاعل بين الذات والموضوع، أو لإعتبارات نظرية الشواش (Chaos theory) أو مبرهنة جودل، لا سيما عندما يكون الموضوع المدروس بعيداً وغير مباشر. لذلك لجأ العلم إلى مبادئ براجماتية وتمثلية عديدة قد تعوض الخسارة التي منيت بها النظرة العلمية حول الكشف عن الواقع الموضوعي، ومن ذلك المبدأ الاصطلاحي لبوانكاريه والتكافؤ وثنائيات نظرية الأوتار (الإزدواجات) والبساطة والجمال والإتساق وتقبل النظريات التي تعاني من الشذوذ، وغيرها من المبادئ والقواعد التي أخذت تتحكم في القضايا العلمية عوض فكرة التطابق أو الكشف عن الواقع الموضوعي كما هو. فعلى الأقل ان بعض هذه المفاهيم يتنافى مع هذه الفكرة، وان البعض الآخر لا يقتضيها بالضرورة. وانه كلما كانت الظاهرة المدروسة أكثر إبتعاداً عن المباشرة كلما زاد العمل بتلك المبادئ دون الالتزام بفكرة التطابق وإحتمالاتها التقريبية، كالذي تشهده الفيزياء المعاصرة اليوم.
وعليه ظهر هناك من يحاجج بأنه لا يوجد دليل يمكن تبريره للكشف عن الأشياء غير المشاهدة، كالدليل على وجود قطة خلف هذا الجدار مثلاً. وأقوى تطبيق لهذه النزعة ما يتعلق بالجسيمات غير المرئية كالإلكترونات وما إليها. فالرصد يكون في مثل هذه الحالات رصداً غير مباشر، مثل رؤية نقطة سوداء على لوح فوتوغرافي، أو سماع قعقعة صوتية لعداد جيجر، أو مشاهدة اثار الجسيم في غرف الفقاقيع لدى المسرعات أو المصادمات؛ فمن خلال معرفة ثخن المسار وانحنائه يتم التعرف على طبيعة الجسيم الذي يكوّن هذا المسار، وهي اشبه بالطريقة التي تخلّف فيها طائرة نفاثة ذيلاً في السماء. ويطلق على المذهب الذي يتبنى هذه النزعة بالـ (Reductionism) ويسمي تلك الأشياء غير المرئية بالتركيبات المنطقية أو الكيانات النظرية (theoretical entities)، فليس ثمة دليل على وجودها، وإنما هي اختراعات ذهنية فحسب. ومن بين الفلاسفة الذين تبنوا هذه الرؤية برتراند رسل في كتابه (مقدمة إلى فلسفة الرياضيات) ووليم نيل في كتابه (الإحتمال والإستقراء).
وتعتبر هذه النزعة مخالفة للنظرة الوضعية التي ترى أن العلم يتحدث عن أشياء واقعية حقيقية وان لم تثبتها التجربة والمشاهدة. فلو سئل الطرفان عما إذا كانت الجسيمات المجهرية بحسب الوصف العلمي موجودة أم لا؛ لكانت اجابتهما مختلفة، فبحسب النزعة البراجماتية ان هناك حوادث تخضع للملاحظة في غرف الإختبار، وهي يمكن وصفها بدوال رياضية معينة ضمن نظام نظري محدد، وكل ذلك لا علاقة له بحقيقة هذه الجسيمات ان كانت موجودة بالفعل كما هو الوصف العلمي أم لا؟ ويمكن التعبير عن هذا الإتجاه بما سبق إليه الفيلسوف الهولندي اسبينوزا خلال القرن السابع عشر، وهو قوله: ‹‹العلم صادق لأنه ناجح، وليس ناجحاً لأنه صادق››.
في حين ان النظرة الوضعية تخالف تلك الاجابة وترى ان العلم يتحدث عن كيانات موجودة بوسعه اثباتها عندما تحين الادوات المناسبة، مثلما اثبت أشياء عديدة كانت تعز على الرؤية والمشاهدة، كالخلية والفيروس والجزيء والذرة وما إلى ذلك، لدرجة ان ارنست ماخ كان يعارض التفكير في الجزيء أو الذرة بوصفه شيئاً موجوداً، واعلن ذات مرة أنه ‹‹محض خيال لا قيمة له››، في حين أنه اليوم امكن تصويره فوتوغرافياً، ويمكن ان ينطبق الأمر على كل إكتشاف جديد لجسيم مجهري أو كيان فلكي.
مع هذا فقد ترسّخ الاعتقاد بأن العلم لا يعبّر في تنبؤاته وكشوفاته عن حقائق الواقع بقدر ما يعبّر عن الكيانات النظرية والنزعة الأداتية والإعتبارات النفعية البراجماتية. وكما أكد الفلكي ادنجتون بأن العقل البشري هو من يصنع أفكار المكتشفات من غير رؤيتها ودون ان يدل ذلك على حقيقتها، فهو بحسب وصفه كالفنان يصنع في ذهنه ما يريد تشكيله. وقد طبق ذلك على إكتشاف رذرفورد للنواة مع أنه لم يرها أحد، كذلك البوزيترون وايضاً النيترينو الذي كان يشك في وجوده، وهو يرى ان التجريبيين ليس لديهم البراعة الكافية لصنع النيوترينوات. وهو يذكّر بالاتجاه الفلسفي الذي يرى ان العقل هو ما يحدد الموضوع دون عكس؛ كالذي نظّر له (عمانوئيل كانت)، ثم أخذ يتوسع حتى أصبح مهيمناً على النظرة الكلية للعلم إلى يومنا هذا.
إن ما يعزز الروح البراجماتية للعلم هو استناده إلى التعميمات ذاتها، فهي تشكل صلب نسيج العلم الحديث، رغم الاعتقاد السائد بأن التعميم لا يجد له تبريراً على الصعيد المنطقي، لا سيما بعد ان كشف ديفيد هيوم عن تهافته خلال القرن الثامن عشر، وبعد ان تبنت الوضعية المنطقية الموقف السلبي اتجاه هذه التعميمات من الناحية المنطقية خلال القرن العشرين، فهذه التعميمات غير مقبولة لديها، إلى درجة ان البعض يراها قضايا لا معنى لها. لكن العلم - مع ذلك - أصرّ على ضرورة الأخذ بهذه التعميمات لاهميتها، حتى وان وُجدت بعض الشواهد التي تكذبها أو تتنافى معها. فقد اظهر العلم أنه يغض الطرف عن الشواهد السلبية للتعميمات، ويعتبرها وكأنها غير موجودة، أو أنها لا تعنيه ما لم تكن هناك نظرية تعميمية افضل. وكل ذلك يفرض الجانب البراجماتي على العلم حتى في مسلكه الوضعي أو الواقعي الذي ساد منذ النهضة العلمية وحتى بداية القرن العشرين، كالذي يتبين من شواهد الشذوذ التي ألِفها العلم دون ان يضطره الأمر إلى تكذيب النظرية، أي خلاف ما كان يتبناه كارل بوبر في نزعته التكذيبية المعروفة.
كذلك فإن العلم يتقبل وجود نظريتيتن متناقضتين طالما ليس هناك بديل عنهما ولا سبيل للتوحيد بينهما، واعظم شاهد على ذلك النظريتان المتناقضتان النسبية وميكانيكا الكوانتم. فلو كانت الإشكالية هي إشكالية تطابق لكان من المفترض على العلماء ان ينقسموا إلى فريقين، أحدهما يأخذ بوجهة النظر الخاصة بالنسبية دون الكوانتم، والآخر يعول على العكس من ذلك، مع ان الحاصل بين العلماء هو غير ذلك تماماً، فهم يعولون على كلا النظريتين، كل في مجاله رغم التعارض بينهما، والغاية من ذلك هو الحصول على أكبر قدر ممكن من الفائدة والاستثمار العلمي. فقد اعتبرت النسبية أكثر جمالاً واقناعاً لكنها أقل تطبيقاً، في حين ان الكوانتم ضبابية غامضة لكنها ذات نجاحات قياسية لم يسبق لها مثيل في العلم. والعلماء يقدرون ان التعارض بينهما ينطوي على خلل عميق وخطير في قلب الفيزياء. فالكثير من الفيزيائيين لم يرتاحوا لمثل هذا التناقض، وهم يشيرون إلى وجود عيب أساس في فهمنا للعالم الفيزيائي. في حين يتجاوز فيزيائيون آخرون هذه المشكلة عبر تقسيم التعامل إلى عالمين.
وبذلك يتبين أن ما يهم العلم اليوم هو الوصول إلى حالة تأويلية عامة بغض النظر عن مطابقتها للحقيقة الواقعية لإعتبارات نفعية وتمثلية عديدة كتلك التي أشرنا اليها سلفاً..