يتصور الكثير خطأً أن كتاب (الأسس المنطقية للإستقراء) هو آخر ما توقف عنده المفكر الصدر من نتائج فلسفية من دون تقويض..
والحال ان السيد الصدر ولاعتبارات دينية قام بنسف الأساس الذي شيده في هذا الكتاب، مثلما جاء في كراس صغير ليس له قيمة علمية او فلسفية مقارنة بالأول، وهذا ما كان عليه (بحث حول المهدي) الذي تمّ تدوينه عام 1977، فيما ظهرت الطبعة الأولى لـ (الأسس المنطقية للإستقراء) عام 1972، كما لدى دار التعارف ببيروت، بل قيل انه تمّ نشر الكتاب قبل ذلك بثلاث سنوات في احدى مطابع النجف الاشرف في العراق.
ففي (الأسس المنطقية للإستقراء) اعتبر المفكر الصدر ان القوانين والتعميمات الإستقرائية لا يمكن تبريرها واثباتها منطقياً ما لم تثبت السببية بحسب مفهومها العقلي. والمقصود بالسببية العقلية هو انها تتضمن علاقة الضرورة بين السبب والمسبب بخلاف السببية التجريبية، كما انها تتعامل مع الأفراد بوصفها تعود إلى ماهية تحمل صفة مشتركة عليها يعول تحديد العلاقة السببية بالنسبة إلى الكل، خلافاً للسببية التجريبية التي تتعامل مع الأفراد كأفراد من دون ان تعود إلى ماهية مشتركة. وقد كان لهذا التحديد دوره الهام في اتهام الطريقة التجريبية بالعجز عن إثبات أو ترجيح السببية، فضلاً عن إثبات وترجيح القوانين والتعميمات الإستقرائية المتأسسة عليها. إذ إعتبر الصدر أن حقيقة السببية التجريبية تنطوي على الصدفة المطلقة لكونها لا تقر بالضرورة واللزوم في تلك العلاقة. وهي نتيجة تتسق مع موقفه السلبي إزاء مبدأ التعلم من التجارب السابقة في الحسابات الإحتمالية المستقلة. وسبق لنا نقد هذا الموقف الذي التزم به مع عدد من الفلاسفة والباحثين الغربيين.
لهذا اعترض على بعض المحاولات الغربية التي استهدفت اثبات أو ترجيح تلك القوانين والتعميمات عبر المفهوم التجريبي الآنف الذكر. وهو يتفق مع ديفيد هيوم حول حاجة التعميم الإستقرائي إلى إثبات الضرورة في علاقة السببية، لكنه يختلف معه حول إمكانية هذا الأمر. فهيوم يحيل إثبات الضرورة السببية، ومن ثم يحيل إمكانية قيام الدليل الإستقرائي برمته، بخلاف الحال مع المفكر الصدر الذي اعتبر هذه الضرورة، سواء في السببية العامة أو الخاصة، تقبل الخضوع إلى منطق الدليل والإثبات بطريقة الإستقراء، بل وكذا الحال في جميع قضايا الضرورة واللزوم العقلية الأخرى، باستثناء مبدأ عدم التناقض ومصادرات الإحتمال.
هذا هو الأساس الذي شيّد عليه الصدر اطروحته في (الأسس المنطقية للإستقراء)، أما في (بحث حول المهدي) فنجد نسفاً لهذا الأساس. فكما ذكر وهو بصدد البحث عن تفسير المعجزة: ‹‹نواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن أن يتعطل القانون، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية وإستقرائية؟ والجواب: ان العلم نفسه قد أجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي››، معللاً ذلك بأن الضرورة حالة غيبية لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الإستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإن منطق العلم الحديث يؤكد ان القانون الطبيعي، كما يعرفه العلم، لا يتحدث عن علاقة ضرورية بل عن إقتران مستمر بين ظاهرتين. ثم أضاف: ‹‹والحقيقة ان المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية، فقد كانت وجهة النظر القديمة، تفترض أن كل ظاهرتين اطرد إقتران إحداهما بالأخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورية، والضرورة تعني ان من المستحيل ان تنفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الإقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون إفتراض تلك الضرورة الغيبية››. وعليه رجّح الصدر إفتراض وجود حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار دون حاجة لافتراض الضرورة التي سبق له أن اعتبرها في (الأسس المنطقية للإستقراء) مما لا غنى عنها في اثبات القوانين والتعميمات الاستقرائية.
وبلا شك ان ‹‹منطق العلم الحديث›› كما ذكره الصدر في (بحث حول المهدي) هو ذاته ‹‹المنطق التجريبي›› المذكور في (الأسس المنطقية للإستقراء).
ونشير إلى أن للفكر الإسلامي ثلاثة مواقف ازاء طبيعة العلاقة السببية الخاصة، وإن اتفقوا على ما تتميز به السببية العامة من وجود العلاقة الضرورية. فهناك الموقف الذي يرى ان العلاقة السببية الخاصة تتحكم بها الضرورة، وهو ما يمثل وجهة النظر الفلسفية، والتي أيدها الصدر في (الأسس المنطقية للإستقراء). كما هناك الموقف الذي يرى تلك العلاقة تمثل اطراداً ناشئاً بفعل ‹‹الخلق المستمر››، مثلما تقول بذلك الاشاعرة. كذلك هناك الموقف الذي يرى العلاقة المشار إليها محكومة بالصور الطبعية كسنّة شاء الله تعالى ان يطبع بها مخلوقاته، وهي بالتالي ثابتة لكنها ليست ضرورية الثبات، بدلالة ان خرقها جائز للأنبياء ليبرهنوا على صدق دعواهم، كما هو رأي ابن حزم، وكما هو رأي المعتزلة فيما عبروا عنه بالتوليد. وهو الرأي الذي تتفق معه وجهة النظر المسجلة في (بحث حول المهدي).