-
ع
+

تصورات خاطئة (37) هل كان صدر المتألهين غزير الإبداع؟

يتصور الكثير خطأً أن ما امتاز به صدر المتألهين الشيرازي هو إبداعاته النظرية الغزيرة، وهو بذلك يتفوق على من سبقه من الفلاسفة المسلمين..

والحال ان الإبداعات الأصيلة لهذا الفيلسوف محدودة عند التدقيق، وان ما امتاز به هو محاولاته الجمع والتوفيق فيما طرحه السابقون من نظريات مختلفة ولو بالتبني. فمنظومته الفلسفية تكاد لا تختلف عن منظومة من سبقوه، سوى جمعه لنتاجهم، وتوفيقه بين النظريات المتنافسة أو تبنيه لذلك، مع قيامه بعدد قليل من التنظيرات المتعلقة بنتاجه الخاص، مثل نظريته في الحركة الجوهرية، وكشفه عن كيفية اتحاد النفس بالعقل الفعال والعاشق بالمعشوق، نافياً أن يكون أحد من علماء المسلمين قبله إستطاع تنقيحه..

واغلب الظن ان الذين اعتبروه غزير الإبداع هو لأن الكثير من نصوصه توحي بأنها له، في حين انها مستمدة حرفاً ومعنى من فلاسفة وعرفاء سابقين، كالغزالي وابن عربي والقيصري وغيرهم.. وكمثال على ذلك نجد نصاً في (ايقاظ النائمين، ص19) يوهم أنه غير مستعار، اذ لا يشير فيه إلى أحد، في حين انه يعود إلى إبن عربي في (الفتوحات المكية، ج2، ص116)، وهو قوله: ‹‹فالعامة في مقام التشبيه أبداً. والعقلاء في مقام التنزيه خاصة. فجمع الله لأهله وخاصته بين الطرفين، وشرفهم بالجمع بين المرتبتين، فمن لم يعرف هذا؛ فما قدر الله حق قدره. فمن لم يقبل بأن الله ((ليس كمثله شيء)) فهو ثنوي، وان لم يقبل بأن الله خلق آدم بيديه: ((فما قدروا الله حق قدره))، وأين التجرد من التجسم، وأين الانقسام من عدم الانقسام، وأين التوحيد من التعدد، وهذا لا يعلمه إلا الراسخون››.

ورغم انه اشتهر بقوله بأصالة الوجود في قبال الماهية، لكن النصوص التي تؤكد هذه الأصالة نجدها لدى عدد من العرفاء الذين سبقوه، فمثلاً كان القيصري شارح (فصوص الحكم) لإبن عربي قد أكد على هذا المعنى، فالوجود عنده وعند العديد من العرفاء – السابقين على صدر المتألهين - هو الكون والحصول والتحقق والثبوت، وهو بهذا المعنى لا يمكن ان يكون إعتبارياً. ولدى العرفاء ان الوجود هو ما يتحقق به الشيء في الخارج، ومن تعابيرهم انه عبارة عن الكون في الخارج. وكان العارف عبد الرزاق الكاشاني يصرح بأن الوجود موجود بذاته لا بغيره، بل هو المقوم لكل شيء سواه، وهو غني بذاته عن كل شيء، والكل مفتقر اليه.

لقد قام صدر المتألهين بجمع وتنظيم كل ما قدّمه الفلاسفة والعرفاء من أفكار، سواء في الحضارة الإسلامية أم اليونانية أو الرومانية، فلم يزد عليه من جاء بعده بشيء يستحق الذكر. فقد جمع كل ما لقّنه الوجوديون قبله من أمثال السهروردي ومحي الدين بن عربي وإبن سينا والغزالي وإبن رشد، ومن قبلهم افلوطين وأرسطو ومن على شاكلتهم، استناداً الى منطق السنخية وتشاكلات الوجود. وحاول خلالها التوفيق بين النظريات المتنافسة أو تبنيه، مثل محاولته الجمع بين نظريتي الفلاسفة والعرفاء في حل مشكلة العلاقة بين الكثرة والوحدة لنظرية الصدور أو الفيض، متخذاً بذلك صورة معمقة للطريقة التي سبق أن أدلى بها إبن رشد خلال معارضته لطريقة «الإعتبارات» التي أسسها الفارابي ومضى عليها سائر الفلاسفة التابعون. فقد جمع بين جوهر ما يقوله كل من الفلاسفة والصوفية. فطريقة الفلاسفة تنص بأن الصادر عن مبدأ الوجود الأول لا بد أن يكون واحداً هو العقل الأول. أما طريقة الصوفية فهي تجوّز أن يكون الصادر متكثراً لتكثر إعتبارات نسب الذات الإلهية. وهو قد جمع بين هاتين المقالتين.

كما انه في العلم الإلهي وإستناداً إلى السنخية جمع ووفّق بين الطريقة الصورية للفلاسفة كما عند إبن رشد، وبين الطريقة الشهودية للإشراقيين كما عند السهروردي، فاعتقد بأن هناك علمين، أحدهما متبوع ومقدم على إيجاد المعلوم، وهو العلم الصوري الكائن في مرتبة الذات والمتصف بالإجمال. أما الآخر فهو العلم الشهودي المتأخر عن الذات. وهي طريقة تضع حداً للنزاع بين النظريتين المشائية والإشراقية. وقد نسبها إلى الصوفية واعتبرها موافقة للقوانين الحكمية.

كذلك تبنى حالة الجمع بين أداتي الفكر الوجودي للعرفان والفلسفة، وذلك للتوفيق بين الرؤيتين الفلسفية والعرفانية، ولو بتوظيف إحداهما لحساب الأخرى. إذ رأى أن إدراك وحدة الوجود الصوفية ليس كما يُدعى بأنه وراء طور العقل، بل اعتقد بأن فهم هذا المعنى يحصل حتى في حدود هذا الطور الذي يتولى إثباته والبرهان عليه، واعترض على من يدعي عدم اطالة العقل لهذا المعنى. وبذلك فإنه قد خالف أولئك الذين يرون بأن هناك طوراً وراء طور العقل يحال على العقل أن يصل إليه. كما خالف في الوقت ذاته من ينكر وجود ذلك الطور وراء طور العقل، كالذي يدعيه المحقق اللاهيجي.

ولأنه كان يسعى الى الجمع والتوفيق بين النظريات المطروحة، ومن ذلك ما يتعلق بوحدة الوجود، فقد وقع في صورة من صور التردد بين الوحدة النوعية للوجود كما لدى الفلاسفة من أمثال إبن رشد، والوحدة الشخصية لدى العرفاء كما لدى ابن عربي. وقد أدى به الحال الى ان يصيغ تردده بطريقة توفيقية تصب في المعنى الصوفي من وحدة الوجود. وهي رؤية توفيقية أفادت من تحقيق المحققين الإشراقيين الذين استهدفوا توظيف الفلسفة لخدمة العرفان، وذلك بتحويل المثنوية التي تقتضيها علاقة العلية إلى وحدة وجود شخصية عبر جعل النسبة بين العلة والمعلول إعتبارية محضة، كالذي أفاده المحقق الخفري.

كما حاول هذا الفيلسوف ان يوفق بين المنظومتين الفلسفية والدينية، ومن ذلك اعتقاده بمعاد الجسم الصوري العيني كمحاولة للتوفيق والتوسط بين النص الديني وقبلياته الفلسفية. والأهم من ذلك تبنيه لنظرية المشاكلة في الفهم الديني؛ رافضاً مسلك التأويل الذي لجأت اليه نظرية المثال والممثول المطروحة لدى الفلاسفة المشائين.

لكن محاولات الجمع والتوفيق بين هذين المجالين جعلته يقع في الكثير من التلفيق والتناقض. ومن ذلك تأويلاته للنصوص الدينية أحياناً، على خلاف مبدئه الذي أنكر فيه التأويل بشدة.

ومن مفارقاته أيضاً جمعه بين الاعتراف الفلسفي بأن المادة هي أصل الشرور تبعاً لقاعدة ‹‹كل ما هو أكثر برائة من المادة فهو أقل شراً ووبالاً››، وبين الإعتبار الديني بأن ابليس والشياطين هما أصل الشر والضلال، رغم ان رتبتهما الوجودية أعظم من رتبة المادة وكثافتها. وعلى هذه الشاكلة جمعه بين الإعتبار الفلسفي بأن الوجودات كلما كانت أكثر تجرداً كانت أشد كمالاً وتماماً، وبين الإعتبار الديني بأن الإنسان قد ينزل إلى مستوى يكون فيه منكوصاً على عقبيه بأقل من الأنعام درجة، أو يتحول فيصبح بمستوى القردة والخنازير. ومثل ذلك جمعه بين الإعتبارات الوجودية التي تثبت إرادة الله تعالى لجميع آثاره وحبّه إياها بإعتبارها أفعاله، وبين الإعتبارات الدينية التي تؤكد بغضه ولعنه لبعض منها. وعلى هذا النحو جمعه بين إعتبار الموت أمراً كمالياً بحسب المنظور الفلسفي من جهة، وإقراره بحسب المنظور الديني بما ينتاب الكافرين من العذاب بعد الموت، إلى الدرجة التي يتمنون فيها ان يكونوا ترابا، من جهة ثانيةً.

أيضاً جمعه بين الإعتبارات الفلسفية القائلة بضرورة أزلية الفيض وأبديته واستحالة عدم الكائنات أو خلقها من العدم تبعاً لمنطق السنخية، وبين الإعتبارات الدينية التي تقر بأن الله قادر على ان يخلق السماوات والأرض في لحظة واحدة، كما وله القدرة على افنائهما متى شاء في أي لحظة، وان الدنيا ستفنى بقيام الساعة الكبرى.

ومثل ذلك جمعه بين الاعتقاد الفلسفي بأنه لا بد للعقول المجردة أن تظل ثابتة لا تتعرض للتغير والتحول بإعتبارها ليست من جملة العالم ومما سوى الله، بل باقية ببقائه وموجودة بوجوده من دون جعل وتأثير، وبين اقراره بفناء العقول ورقيها بالتحول إلى ما هو أعلى منها شأناً، تلفيقاً مع بعض النصوص الدينية التي صرحت بموت وفناء الكل.

comments powered by Disqus