يتصور الكثير خطأً أن الفلاسفة المسلمين يُثبتون القدرة والإرادة الإلهية بعبارات صريحة..
والحال ان منظومتهم الفلسفية تتأسس على علاقة الحتمية في الصلة بين العلة والمعلول، وهم يطبقون ذلك على الوجود الإلهي. فالمبدأ الحق لديهم يعتبر واجباً من جميع الجهات، ومنها وجوبه كعلة، وان هذه العلية مرتبطة بالعلم الإلهي، حيث العلاقة الوثيقة بين هذا العلم والمراتب الوجودية. فالعلم هو علة ايجاد الموجودات الممكنة من دون عكس. وكما قال إبن سينا بأن إحاطة علم المبدأ بالموجودات هو ‹‹سبب لوجودها حتى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء››. وكذا قال الغزالي: ‹‹فعلمه سبب الوجود، لا الوجود سبب علمه››. ومثله قال إبن باجة: ‹‹علمه بالموجودات هو سبب وجودها››. لذلك قام الآهري بتأويل الآية الكريمة: ((وما تحمل من انثى ولا تضع إلا بعلمه))، حيث قال: ‹‹انظر كيف صرحت الآية بأن سبب وجود الأشياء هو العلم لا غير››.
ومن حيث التفصيل، يستند ايجاد العالم من وجهة نظر الفلاسفة والعرفاء إلى علم الله بالعناية. والعناية عند الفلاسفة هي العلم بالنظام الأتم للعالم والذي يمثل عين ذاته. ولا شك ان هذا التقدير لا يدع فرصة لتبرير وجود علم ببقية النظم الممكنة، بإعتبارها من المعدومات، الأمر الذي يتنافى مع شرط حصول الاختيار. فالأخير لا يتحقق إلا مع وجود إمكانين معلومين على الأقل، كي يمكن ترجيح أحدهما على الآخر. مما يعني ان علم الحق بالعناية يصبح فاقداً لبعض وجوه العلم والاختيار معاً. إضافة إلى ان إعتبار علمه وتعقله عين الوجود والايجاد؛ هو في حد ذاته مما يستلزم نفي الإرادة والاختيار.
والشيء ذاته ينطبق على نظرية العرفاء، فالعناية الإلهية كما يحددها القيصري على قسمين: قسم تقتضيها العين الثابتة باستعدادها، فتكون العناية تبعاً لها، وقسم تقتضيها الذات الإلهية لا العين الثابتة. والقسم الأول هو بحسب الفيض المقدس المترتب على الأعيان وأحوالها واستعداداتها. اما الثاني فهو بحسب الفيض الأقدس الجاعل لها ولاستعداداتها. وهذه العناية متبوعة إذ يترتب عليها الفيض الاقدس. والملاحظ انه سواء كانت العناية بحسب الفيض الأقدس أو المقدس، فإنه لا مجال للإرادة والاختيار مطلقاً.
أما القدرة الإلهية فالملاحظ ان الفلاسفة وإن لم ينكروها صراحة، إلا انهم حددوها بمحض الفعل بلا قوة، حيث لا توجد جهة إمكانية في ذات الواجب، فهو واجب من جميع الجهات، وهو فعل تام من دون قوة، بإعتباره عين الوجود بلا عدم. إذاً، هناك تساوق بين الوجود وهذه القدرة. فحيث الوجود طارد للعدم، فإنه لا شيء إلا وهو مقدور عليه بالايجاد والتكوين. وبالتالي كانت القدرة متعلقة بكل شيء، إذ لو كانت متعلقة ببعض الأشياء دون البعض الآخر لما كانت صرف حقيقة القدرة وتمامها. فالمعتبر في قدرة المبدأ الحق وكذلك إرادته انما صرفها من غير شائبة إمكان أو عدم، وهو ما يساوق معنى الوجود.
فعند الفلاسفة انه إذا نسبت الممكنات إلى حيث صدورها عن علمه تعالى كان هذا العلم قدرة بحسب هذا الإعتبار، وإذا نسبت إلى حيث علمه كاف في صدورها كان العلم بذلك إرادة. فالفارق بين الفعل القائم على أساس الطبع المحض والفعل القائم على أساس الإرادة؛ انما يُردّ إلى ذات العلم والشعور، إذ الأول منفك عن العلم بالفعل والمفعول بخلاف الثاني، لأن الفعل الذي لا يخلو من العلم والشعور؛ لا يخلو أيضاً عن الإرادة والاختيار، من دون لزوم للسبق الذاتي والزماني للفعل. ولما كان مبدأ الموجودات يعلم حقيقة النظام في الكل؛ فلا محالة ان يكون علمه سبباً لوجود المعلوم، وبهذا تكون إرادته عين علمه بلا فرق. لذا حين يكون التعلق العلمي بالذات، كما هو نحو الوجود، فإن الإرادة يكون تعلقها بالذات أيضاً، اما لو كان التعلق العلمي بالعرض والتبعية، كما بالنسبة إلى الأعدام والنواقص، فإن الإرادة تكون كذلك أيضاً. وفي جميع الأحوال ان الفلاسفة يعدون العلم الإلهي بالأشياء هو سبب وجودها، وهو من هذه الناحية يعبّر عنه بالقدرة، كالذي أشار إليه إبن سينا في رسالة (العرشية).
والواقع ان القدرة والإرادة والاختيار ليست منفكة عن العلم، لكنها لو كانت عينه لاقتضى ان تكون صورية مسلوبة الحقيقة، ولو كان العلم شرطاً في تحققها لاقتضى ان تكون حقيقية لا مجازية؛ بغض النظر عما لو سبقت الفعل أم اقترنت معه.
لهذا نسب الجامي إلى الحكماء نفيهم للإرادة عن المبدأ الحق بالمرة، معتبرين الاثر القديم لا يمكن ان يستند إلى الفاعل المختار، بإعتبار ان المختار مسبوق بالقصد قبل ايجاد الشيء ضرورة.
كذلك نسب شيخ الإشراق السهروردي إلى الحكماء بأنهم لا يعتقدون بابداع الأشياء بناءً على إرادته، لكون الإرادة لا تكون إلا عند ترجيح أحد الجانبين على الآخر، فبذلك تقتضي الغرض إما لذاته أو لغيره، وهو منزه عنه، لأن ذاته بنفسها مما تقتضي الوجود.
وما هذا إلا تعبير آخر عن أصالة الحتمية في علية المبدأ الحق. بل ان إعتبار الوجود حقيقة واحدة منبسطة على الأشياء بذاتها من دون إعتبار آخر، كما عليه رأي صدر المتألهين، لا يدع مجالاً للقول بالإرادة والقدرة ولا الخلق والابداع على النحو الحقيقي.
لهذا فإن ما يلزم عن مقالة الفلاسفة في عينية الإرادة للعلم ليس القول بقِدم العالم من حيث الأفلاك وأنواع الحوادث فحسب، بل يلزم عنها أيضاً القول بأزلية أفراد الحوادث قاطبة، حيث العلم بالحادث أزلي، والإرادة عين العلم، وهي متعلقة بالمراد المعلوم، فلا بد للحادث ان يكون أزلياً معها، بل وان يظل على حدوثه أبداً، وهو تناقض إن لم نقل بأنه عبارة أخرى عن قِدم الأشياء جميعاً من دون فرق بين الحوادث وغيرها. فهذه المشكلة هي التي جعلت الفلاسفة يضطرون - اتباعاً لافلوطين - إلى القول بحضور الحوادث أمام الحق من دون غياب وعدم، وما هذا الذي نراه من غياب وعدم للحوادث انما هو بحسب بعض أوعية الوجود ذات الأفق الضيق.
هكذا فإن إعتبار الإرادة والقدرة هما عين العلم ذاته، وان هذا العلم هو عين الوجود، وان هذا الوجود منبسط.. إن إعتبار كل ذلك إنما يدل على قِدم الكل من غير استثناء، وهنا تتولد لدينا شبهة الصوفية في جعل الكل واجباً من غير تمايز..