-
ع
+

تصورات خاطئة (33) موقف ديفيد هيوم والغزالي من السببية؟

يتصور الكثير خطأً أن انكار ديفيد هيوم للسببية لا يختلف عن انكار الغزالي وعموم الاشاعرة لها..

والحال ان الطرفين قد اتفقا بالفعل على انكار السببية بمعناها الطبيعي الخاص، أما السببية بمعناها العام فهما مفترقان..

والمقصود بالسببية بمعناها الطبيعي الخاص، هو انها تحدد السبب الطبيعي بعينه، سواء من حيث التأثير او الضرورة، مثل ان تكون الحرارة سبباً مؤثراً لتمدد المعادن. أما السببية العامة، او بمعناها العام، فهي لا تحدد السبب بعينه، لكنها تقر بان لكل حادثة لا بد من سبب.

والغزالي وعموم الاشاعرة - خلافاً لهيوم - لا ينكرون السببية العامة او مطلقها، بل يؤمنون بضرورة ان يكون للحوادث سبب يتمثل بالخالق، لذلك أنهم يستدلون على المسألة الإلهية عبر مبدأ إستحالة الترجيح من غير مرجح، وهو ما يعني إستحالة وجود حادثة ما من غير سبب. ومثلما عبّر الغزالي عن هذا المبدأ في (الاقتصاد في الاعتقاد) بقوله: إن كل حادث له سبب، هو مما يجب الإقرار به لأنه «أولي ضروري في العقل».

أما بحسب المعنى الأول للسببية فالملاحظ ان ديفيد هيوم يتفق مع الغزالي وعموم الاشاعرة في انكارها، رغم وجود بعض الفوارق. فالأخيرين وإن انكروا السببية الخاصة بمعناها الطبيعي، لكنهم يعولون على سببية اخرى ميتافيزيقية، وهي السببية الالهية، وهم يتبنون في هذا المجال مبدأ (لا فاعل في الوجود إلا الله)، وهو يدل على نفي التأثير السببي بين الأشياء الطبيعية او الكونية، حتى قال بعضهم: إنه عند تحريك الإنسان للقلم يخلق الله أربعة أعراض ليس منها ما هو سبب للآخر، بل هي متقارنة الوجود لا غير. وهذه الأعراض عبارة عن: إرادة تحريك القلم، والقدرة على تحريكه، ونفس حركة اليد، وحركة القلم. وجميعها يخلقها الله مباشرة دون أن يكون بينها تأثير أو سببية، بل يعبرون عن ذلك بأنه إقتران العادة. لذلك قال الغزالي في (تهافت الفلاسفة): إن ‹‹الإقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً ليس ضرورياً عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر››.

وهو ذات التعبير الذي استخدمه ديفيد هيوم، حيث التركيز على الاقتران والعادة، مع فارق ان الاخير لا يعول في انكاره للسببية الطبيعية على سببية اخرى ميتافيزيقية، كما انه ينكر ايضاً السببية العامة باطلاق. فسواء من حيث السببية الخاصة او العامة يرى انه لا علاقة موضوعية بين الحادثة وبين اي سبب اخر مفترض، فكل ما نراه إنما هو وجود إقتران مطرد، فالتجربة لا تتمكن من أن تضيف لنا شيئاً آخر أكثر من ذلك، ومن ثم لا يمكن اكتشاف الضرورة في علاقة السببية ولا إقامة الدليل عليها مهما كان حجم الاطرادات التي نراها. وفسّر الحال بالعادة النفسية وتداعي المعاني. فحين نلاحظ ظاهرتين تتصفان بالإقتران والتعاقب باطراد فإنه سينشأ في مخيلتنا رباط قوي بين فكرتي الظاهرتين، بحكم العادة. فلو أنه حضرت إحدى الفكرتين؛ فما على الفكرة الأخرى إلا أن تعقبها. فمثلاً في حياتنا اليومية نتحسس على الدوام بأن هناك تلازماً بين ظاهرتي النار والاحراق، وبحكم العادة تنشأ في مخيلتنا علاقة قوية بين فكرتي هاتين الظاهرتين، لكن بسبب هذه القوة فانا نضطر إلى أن ننزعها على الواقع ونظن أنها خارجية، بحيث كلما لاحظنا ناراً سنحكم عليها بأنها تحرق، مع أنه من الناحية المنطقية لا دليل على ذلك، رغم ما نجده من التهيؤ الذهني الحاد الذي أطلق عليه هيوم ‹‹تداعي المعاني››.

comments powered by Disqus