-
ع
+

تصورات خاطئة (31) هل التوسع الكوني فرضية أم حقيقة نهائية؟

يتصور الكثير خطأً أن التوسع الكوني هو مسلّمة يقينة غير قابلة للتشكيك وفقاً للأدلة القاطعة..

والحال ان هناك شكوكاً حول توسع الكون كما أبداها جملة من الفيزيائيين استناداً إلى الأدلة الفلكية المعتبرة.

ومعلوم ان التصورات الفيزيائية وصفت الكون منذ قرون وحتى بداية القرن العشرين بانه يمثل قبّة ضخمة ساكنة وانه لا يتعدى مجرتنا (درب التبانة). لكن أول فلكي استطاع اظهار أن كوننا لا يقتصر على هذه المجرة هو إدوين هابل (Edwin Hubble ) الذي كشف عن الكثير من المجرات خلال العشرينات من القرن الماضي. بل زاد على ذلك اكتشاف تباعد بعضها عن بعض وازدياد سرعاتها بما يصل إلى سبع سرعة الضوء. وبذلك تغيرت النظرة نحو الكون بحسب هذه الاكتشافات، فمن كون سكوني يحمل مجرة واحدة فقط إلى كون دينامي لا يستقر على حال. ويعتبر هذا التغير الجذري ثاني اعظم تغير في الفيزياء بعد ثورة كوبرنيك (Copernican Revolution).

لم تكن نظرية التوسع مقنعة في بداية ظهورها، ولم يُعطَ لها شيء من الاعتبار الا بعد اربعينات القرن الماضي. وقد كانت فكرة وجود كون استقراري ساكن هي المعول عليها لدى الكثيرين حتى بعد ان شاعت اكتشافات هابل خلال ثلاثينات القرن الماضي. وفي نهاية الاربعينات اعقبتها فكرة اخرى جذبت الفيزيائيين، تدعى نظرية الحالة الثابتة (Steady State theory). فقد وجد فيها الفيزيائيون ضالتهم المنشودة والند الذي ينافس نظرية التوسع الكوني. ولم ينحسم التنافس بينهما الا عند منتصف الستينات بعد ان تم اكتشاف اشعاع الخلفية الكونية المايكروي (Cosmic Microwave Background)، اذ كان لنظرية التوسع الكوني الانتصار الحاسم، رغم انها ظلت تواجه مشاكل كثيرة، مثل تخبطها في تقديرات عمر الكون..

ورغم اهمية اكتشافات هابل استناداً لانزياح طيف الضوء الوارد من المجرات، الا انه لم يربط بينها وبين التمدد الكوني، فلم يتصور ان لذلك دلالة على التوسع والتمدد، فكل شيء يتباعد عن كل شيء باضطراد. لكن اول من وظّف هذه الاكتشافات في اثبات هذا التوسع هو الفيزيائي والقس البلجيكي جورج ليميتر (Georges Lemaître)، ورتّب على ذلك انه لا بد من ان يكون الكون قد بدأ من نقطة تمثل بداية الانطلاق والتوسع. ففي ورقة نشرها (عام 1927) فسّر فيها ازاحة دوبلر الضوئية بانها دالة على تمدد الكون، اذ عمل على حل معادلات النسبية العامة لاينشتاين، وتنبأ بان الكون يتمدد، وبدت الفكرة غريبة على الفيزيائيين وعلى رأسهم اينشتاين.

لكن عدداً من الفلكيين البارزين شككوا في ان يكون للإزاحة الحمراء صلة بمفعول دوبلر او بتوسع الكون. ومن هؤلاء الفلكي الامريكي البارز هالتون آرب (Halton Arp)، والفلكي الاسترالي برين شميدت (Brian Schmidt)، كذلك الفيزيائي الامريكي الشهير ستيفن واينبرغ (Steven Weinberg) الذي اعتبر ان ما قدّمه هابل من حجج بهذا الصدد انما هي بسيطة او ساذجة.

واغرب ما في الامر هو ان هابل نفسه صاحب الاكتشاف المتعلق بهذا الصدد كان كثير التشكك فيما تعنيه الازاحة الحمراء، ففي اواسط الثلاثينات من القرن الماضي انهمك في جدل محتدم مع عدد من علماء الكون النظريين بشأن التفسير المناسب لانزياح طيف الضوء. فقد كان هابل يشعر بان قياسات هذا الانزياح لم تكن جديرة بالثقة، ورفض ان يفسرها كدليل على ابتعاد المجرات عنا، وقد ادى به الرفض المشار اليه (عام 1936) إلى الاستنتاج القائل بان المجرات ساكنة بلا توسع، فتعرّض استنتاجه إلى هجوم من قبل العديد من علماء الكون النظريين.

وفي مطلع ثمانينات القرن الماضي وجد الفلكيون ان اعتمادهم على قياسات الازاحة الحمراء تجعلهم ينتهكون احياناً السرعة الثابتة للضوء.

على ان من الممكن تفسير الازاحة الحمراء وشدتها وفقاً لشدة الثقالة (Gravity) التي يمر من خلالها الضوء الصادر عن المجرات البعيدة. وسبق للباحث جيرولد ثاكر (Jerrold Thacker) ان شكك في نظرية التوسع لدى كتابه (الكون المخادع The Deceptive Universe)، ومن ذلك انه اعتبر الازاحة الحمراء لا تدل على التباعد والتسارع، بل لأن الضوء الصادر عن المجرات البعيدة يمر بقرب مجرات اخرى فانه يتسبب بفعل حقول جاذبيتها الكبيرة إلى انحناءات الضوء، ومع كثرة هذه الانحناءات خلال سفر الاخير فانه يبدو اكثر احمراراً، وكل ذلك لا علاقة له بتوسع الكون ولا التباعد والتسارع. لذا عاب على الفلكيين تجاهلهم لهذه الحقيقة عند تعاملهم مع هذه الازاحة.

هذا بالاضافة الى ان تباعد المجرات عن بعضها البعض لا يدل على نظرية التوسع. فكثافة المجرات تعتبر ضئيلة جداً مقارنة بحجم الفضاء المنظور، وفي بعض التقديرات انها لا تزيد على (10%) من الفضاء الكوني المرصود. وبالتالي اذا كانت نظرية التوسع الكوني صحيحة؛ فلا بد من اثبات تباعد سحب البلازما والغازات التي تملأ هذا الفضاء.

أما حول اشعاع الخلفية الكونية، فقد تبين مؤخراً أنه مختلط بالغبار الدائر في مجرتنا، ومن ثم فهو غير متجانس تماماً، فأُصيب الدليل المتعلق به بالضعف ومن ثم ضعف النظرية القائمة عليه.

بل يمكن القول ان تخلّق المجرات وتجمعها وتداخلها وتصادمها لا ينسجم مع التمدد الكوني، ولا يبرره القول بسوء توزيع عشوائي لكثافة المادة؛ باعتبار ان الكون بدأ متجانساً بصورة تامة او شبه تامة؛ وفقاً للافتراضات الفيزيائية.

وبعبارة ثانية، ان تصادم المجرات وتقارب بعضها من بعض مع تماسك العناقيد والشرائط الضخمة؛ كلها تشكل عائقاً امام التفسير التوسعي للكون. والغريب ان الفيزيائيين يفسرون هذا التقارب والتماسك بفعل قوى الجذب المتبادل بين المجرات. وهو زعم لا ينطبق على غيرها من التكتلات التي يتباعد بعضها عن بعض، فلماذا هذا التباعد لدى البعض، والتماسك والاقتراب والتصادم  لدى البعض الاخر؟ او كيف يخضع بعضها للتمدد؛ فيما يخضع البعض الاخر للتجاذب؟

وعليه نقول ان نموذج الكون السكوني قد لا يقل قيمة عن الكون التوسعي، طالما لا يوجد في الافق دليل مباشر او ملزم بان الكون يتوسع سوى علامات وقياسات عرضة للتفسير والتغيير على الدوام. ولكل من النموذجين مبرراته. لذلك ما زال بعض الفيزيائيين ينكر فكرة التوسع ويحتفظ بصورة الكون الساكن كما هو التصور التقليدي الذي سبق عشرينات القرن الماضي.

وانقل بهذا الصدد انه صادف ان احتدم الجدل بين الفيزيائي المعاصر نيل توروك Neil Turok (المولود عام 1958)، والمعروف بانه ابرز المعارضين لفكرة التوسع الكوني، وفيزيائي اخر أصرّ على ان هذا التوسع هو الحل الوحيد لمشكلتي التسطح والأفق (التجانس)، فانكر عليه نيل توروك قائلاً: ان لديّ آلافاً من التأويلات والافكار البديلة تتصل بألغاز الانفجار العظيم. افترض انه عند ولادة الكون نشأ شيء ما، مبدأ يؤكد ان لا وجود الا لكون اقرب ما يكون إلى التناظر، ألا يفرض ذلك كوناً متجانساً ومسطحاً؟ وهذا في حد ذاته حل للغزي الافق والتسطح.

وما زالت فكرة الكون السكوني مطروحة في بعض الاوساط التعليمية، ومن ذلك ان بعض المجالس الاكاديمية في امريكا ما زالت تحتفظ بمثل هذا الاعتقاد من دون تغيير.

ومع ان النظريات قد تصاب بصدام مع الاكتشافات العلمية، لكنها ليست خاطئة بالضرورة؛ طالما من الممكن اصلاحها بما يتفق مع هذه الاكتشافات الجديدة. واذا اخذنا بعين الاعتبار ان عموم علم الفلك يخضع للتغيير والمفاجئات باستمرار، وبعضها يعتبر من المفاجئات الانقلابية، كتلك المتعلقة بالتوسع الكوني، لذا لا يمتنع من اننا قد نواجه في المستقبل فكرة اخرى مختلفة قد تعود بنا إلى ما كنا عليه قبل عشرينات القرن الماضي.. او ان يكون التأييد العلمي لصالح نظرية اخرى مختلفة، وربما معاكسة لفكرة التوسع، مثل نظرية الانكماش الكوني التي نظّرنا لها في بعض الدراسات المستقلة.

comments powered by Disqus