يتصور الكثير خطأً أنه لا يجوز الإجتهاد في أصول العقائد والدين فضلاً عن التقليد، إذ لا بد من تحصيل القطع واليقين لا الظن الذي هو من لوازم عملية الإجتهاد غالباً، كما في الفقه..
والحال ان ذلك عسير تحصيله لدى الغالبية العظمى من الناس، ومنهم المسلمون. وانه لا دليل عليه فيما قدموه من حجج كلامية.
ومعلوم ان من النادر ما يعبر عن البحث في قضايا العقائد وعلم الكلام بالإجتهاد، بل غالباً ما يعبر عن ذلك بلفظتي (النظر والعلم)، للتصور بأن من الواجب في القضايا الرئيسة منها تحصيل الجزم واليقين لا الظن. فالظن والشك والجهل والتقليد كلها تعد - لدى أغلبهم - من موجبات الكفر والضلال. فمثلاً نُقل عن أبي الحسن الأشعري وغيره بأن كل من ليس بمستيقن في الأُصول فهو على ريب فيها، وكل من كان كذلك فهو كافر. وصرح أبو إسحاق الشيرازي قائلاً: «من إعتقد غير ما أشرنا إليه من إعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الأشعري فهو كافر». ومن الشيعة ذكر الشريف المرتضى بأن المكلف إذا كان جاهلاً أو شاكاً أو مقلداً؛ فهو مضيع للمعرفة الواجبة وبالتالي يُحكم بكفره. بل وكفّر المخالف، معتبراً أن المكلف وإن جازت عارفيته لله تعالى إلا أنه «لا يجوز أن يستحق الثواب على معرفته لوقوعه على غير الوجه الذي وجب عنه». ومثل ذلك ما فعله الشيخ الطوسي كما في بعض رسائله.
وقد غفل هؤلاء أو تجاهلوا أن ذلك يفضي الى تكفير أغلب المسلمين، إذ لا حول لهم ولا قوة في التمكن من البحث في الأدلة الخاصة بالأُصول، ومن ثم التوصل إلى القطع واليقين بالبرهان، لا سيما أن هذه الأُصول هي موضع إختلاف المختصين وموارد الأخذ والرد بينهم، فكيف يتمكن بسطاء الناس من الإستدلال عليها؟!.
فمثلاً اعتبرت المعتزلة أن أصول الدين خمسة هي التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، فيما وافقت الإمامية الإثنا عشرية المعتزلة على الأصلين الأولين وأضافت إلى ذلك أُصولاً ثلاثة أُخرى، هي النبوة والإمامة والمعاد. في حين اعتبرت الأشاعرة أن الأصول ثلاثة هي التوحيد والنبوة والمعاد. وهكذا يمكن أن يلاحظ مثل هذه الفوارق لدى الفرق الأُخرى. أما الإختلاف في المضمون فكلنا يعلم كم هو حجم الخلاف الوارد حول ماهية التوحيد، خاصة بين الأشاعرة المتقدمين من جهة، والمعتزلة والإمامية من جهة ثانية، رغم وضوحه وبداهته على نحو الإجمال، وكذا الحال نفسه يقال بصدد مفهوم العدل وما يترتب عليه من عقائد.
وبالتالي فكثرة الخلاف بين العلماء المختصين حول أُمور العقيدة، ومنها أُصول الدين، يجعل من الصعب على الانسان العادي التحقيق والاجتهاد لتحصيل العلم والقطع فيها. وبلا شك أن الخلافات الحاصلة بين العلماء تدل على صعوبة المطالب، وأن النتائج فيها ليست قطعية لدى المراقب غير المنحاز؛ وإن تصورها المجتهدون بأنها قطعية بنحو ذاتي.
هذا بالاضافة إلى أن لعامل الإلفة دوراً في حجب الناس عن التفكير خارج نطاق ما تفرضه عليهم البيئة الدينية والمذهبية. لذا فالدعوة للمطالبة بالبحث في الأُصول ما هي إلا صيغة مكرسة للتقليد.
كما برغم ان علماء الكلام يحثّون على النظر والبحث في العقائد؛ إلا أن هذه الدعوة لم تتجرد غالباً عن نزعة التكفير والتضليل التي كان لها أثر بالغ في جمود هذا العلم وتوقفه. فقد يصعب على الفرد في هذه الحالة أن يخرج عن الضغوط النفسية والإجتماعية للبيئة التي تربى في احضانها، خاصة وأن الإنسان ميّال للتقليد بسبب الإلفة. وهذا ما جعل المكلف مقلداً لا يتجرأ على الإجتهاد والنظر حتى لو تظاهر بذلك؛ كالذي جرى لدى الكثير من المتوسمين بإسم العلم.
فمثلما ان حال الإلفة يفضي إلى جعل الناس على حالهم من التقليد دون تغيير؛ فكذا أن نزعة التكفير المقترنة بالحث على النظر في الأدلة تكرس التقليد، هي الأُخرى، بعدم مخالفة حدود المذهب. وللسبب السابق، تكون نزعة التقليد قد لاحت العلماء إلا ما شذّ منهم، اذ العالم لا ينشأ عالماً إبتداءاً، بل لا بد من أن يمرّ بمرحلة التقليد والتغذي من المذهب أو البيئة التي تربى في أحضانها، فتنعكس في نفسه صورة المذهب بما يتضمنه من معارف وميول تكبر معه عند الكبر، فيترآى له حين ذاك وكأنه محقق، لديه ما يكفي من الأدلة على العقائد، رغم أنه حملها معه وهو ما زال في مرحلة النشء والصغر. لذلك لا نرى من العلماء من إنقلب على إعتقادات بيئته، فكلٌ يدافع على ما يمنعه الآخر بحسب موقعه المذهبي والديني، من غير تبادل في المواقع إلا ما شذ وندر. فالشيعي يظل شيعياً، كما أن السني يظل سنياً، وكذا اليهودي والنصراني وغيرهم من علماء المذاهب والأديان والطوائف. وقديماً قام الغزالي بتحليل هذه الظاهرة من تقليد العلماء للبيئة التي نشأوا فيها، تبعاً للحيل النفسية.
وهناك من رأى بأنه يكفي معرفة الإجمال من الأدلة كما ذهب إلى ذلك الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وغيرهما. وهو أمر صحيح من حيث المبدأ، لكنه لا يتحقق في الغالب على وجهه الصحيح. اذ تندفع الناس إلى أخذ المجمل من الأدلة بالتقليد من غير تحقيق؛ وفاقاً مع السائد فيما تفرضه الظروف الاجتماعية والبيئات المذهبية.
كما هناك مشكلة أُخرى تتعلق بسن البلوغ، اذ السن المقرر للبلوغ والتكليف لا يتناسب كلياً مع المطالبة بمعرفة الأدلة على الأُصول والعقائد. فقد ذهب أغلب العلماء إلى أن بداية البلوغ لا تتعدى سن الخامسة عشرة، اذ يحصل التكليف عند الإنزال للغلام والحيض أو الحمل للفتاة.
مع أن الواقع يشهد بأن البلوغ الجنسي للغلام والفتاة لا يحولهما في الغالب إلى رجل وإمرأة، كما أنه لا يدخلهما - عادة - في سن الكمال والرشد العقلي؛ رغم ما له من تأثير على نمو العقل وإدراكاته. وبالتالي فمن غير المعقول أن يُحدد التكليف بالعقائد بحسب تلك الإعتبارات من الإحتلام والحيض والإنزال، أو بلوغ سن الخامسة عشرة أو ما دونها.
أخيراً هناك شخصيات علمية نادرة دعت إلى تبرئة ذمة المخطئ في العقائد سواء كان مجتهداً أو مقلداً، مثل الشيخ زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني الذي وجد من شدّد عليه النكير كالشيخ الأردبيلي.