يتصور الكثير خطأً أن كبار العرفاء لا يتناقضون في دعاويهم ومكاشفاتهم الصوفية..
والحال ان تناقضات الكشف قد تحصل لدى العرفاء أحياناً، لا سيما عندما يتعلق الأمر بقبلياتهم الدينية والمذهبية.
فابتداءاً ان العرفاء يعتبرون العارف معصوماً في كشفه عن الخطأ، إن لم يكن معصوماً كلياً عن الذنوب والزلات. وعلى رأي محي الدين بن عربي إن الصوفي وإن كان قد يخطئ في مدلول الكشف والتعبير عنه، لكن يبقى الخطأ ليس في الكشف ذاته، وانما في الحكم الذي يتصوره العارف، إذ قد يلحقه نوع من التأويل نتيجة الأمور العارضة عليه؛ كالنظر أو التأويل وما إلى ذلك.
هذا ما يقوله ابن عربي ويوافق عليه مجمل رجال الصوفية، رغم أننا نجد أحياناً تناقضات في الكشف ما لا يمكن إرجاعها الى مجرد الحكم العارض على الكشف.
فمثلاً أظهر العارف الشيعي حيدر الآملي في كتابه (المقدمات من كتاب نص النصوص) أن له كشفاً مناقضاً لكشف عارف آخر سبق أن اعترف له في الكتاب نفسه بالعصمة وأنه لا يخطئ الواقع، كما هو الحال مع شيخه إبن عربي الذي أقرّ له بصدور كتابه (الفتوحات المكية) عن إملاء إلهي وإلقاء رباني، كما أكد بأن كتابه الآخر (فصوص الحكم) جاء كقرآن صادر عن نفس النبي، رغم ما في هذا الكتاب الأخير من بعض المواضع التي لم تقنعه ولم ترضه.
فقد شهد الشيخ إبن عربي في (الفصوص) وغيره من الكتب على نفسه وعلى النبي عيسى بختم الولاية، فاعتبر نفسه خاتم الأولياء بالولاية الخاصة، وأن عيسى هو خاتمهم بالولاية العامة، فذكر أنه اجتمع مع جميع الأنبياء حين أقام بقرطبة فبشّره هود بأن الأنبياء اجتمعوا لتهنئته على ختمه للولاية. وهو القائل:
لما أتاني الحق ليلاً مبشراً بأني ختام الأمر في غرة الشهر
وفيه أنا وارث لا شك علم محمد وحالته في السر مني وفي الجهر
وإني لختم الأولياء محمد ختام اختصاص في البداوة والحضر
كما هو القائل:
وأنا ختم الولاية دون شك يورث الهاشمي مع المسيح
هذا هو كشف ابن عربي الذي أنكره حيدر الآملي لأسباب مذهبية، بل وقابله بكشف مضاد، ليثبت أن خاتم الأولياء بالولاية العامة هو الإمام علي، وبالولاية الخاصة هو الإمام المهدي.
ويتكرر مثل هذا التناقض الكشفي مع صدر المتألهين الشيرازي. ومن ذلك تقريره لمسألة الخلود في العذاب. فقد اعترف إبتداء بأن علماء الكشف يختلفون في ما بينهم حول هذه القضية، فبعضهم أقرّ ذلك الخلود، والبعض الآخر ذهب إلى أن لهم نعيماً بعد العذاب، وإن اتفقوا على بقائهم ماكثين في دار الشقاء إلى ما لا نهاية له. ففي بعض كتبه أحال الخلود في العذاب إتّباعاً للشيخ إبن عربي وإستناداً إلى ما ادعاه من صريح الكشف وصحيح البرهان، لكنه مع ذلك خالف هذا الإعتقاد بكشف جديد اثبت فيه دوام العذاب من دون انقطاع، وذلك في رسالته المسماة (حكمة العرشية).
هكذا فالكشف ليس منزهاً عن الإختلاف والتناقض كما يصوره لنا العرفاء. ومع ذلك فنحن نقر بحقيقته كواقع إنساني يفرض علينا الإذعان له، رغم أن مضامينه ورؤاه ليست مؤكدة دائماً، وهو لا ينحصر بفرد دون آخر، وإن كان هناك تفاوت بين الأفراد طبقاً لإختلاف الطبيعة والظروف مع كم ونوع المجاهدة.