لما كان الدين منظومة شاملة تندرج في إطارها كل مجالات الحياة المختلفة، فإنّ هذه المنظومة بحاجة إلى تطوير خطابها الفكري وإلى تجديده وتنقيته من الشوائب والمثالب التي تعتريه بفعل الـتأويلات والأفكار البشريّة الساعية إلى محاولة فهم هذه المنظومة وتقريبها من الأذهان على وفق ضرورات وشرائط وتصورات مجسّدة لهذه التأويلات المشدودة بدورها إلى مرجعيّات فكريّة متنوعة تتجاذب فيما بينها أحيانا، وتتنافر أحيانا أخرى.
وهذا ما يعني حاجة الفكر الديني الإنساني، بما فيه الفكر الديني الإسلامي في كلّ عصر وزمان إلى إعادة صياغة مفاهيمه ومناهجه ورؤاه إلى الأشياء وإلى العالم بغية تحقيق مقاصد الإسلام النبيلة من خلال خطاب تنويري يبين عالميّة الإسلام الحقّة ونظرته المتفائلة إلى المستقبل، ويوضِّح سماحتَه ومناقبَه المتعددة وما امتاز به من رقي ومن اعتناء بالخلق والسلوك وبالعلاقات الإنسانيّة العامة.
وفي هذا الصدد، وعلى مدى زاد على العقدين من الزمان حاول الباحث والمفكر العراقي الكبير يحيى محمد المولود ببغداد عام 1959م ,والمقيم الآن بلندن أن يصوغ محاولاته الخاصّة لمساءلة الفهم العربي والإسلامي للظاهرة الدينيّة وهو الفهم الذي مثّل إشكاليّة حقيقيّة تجلّت بأبشع صورها في السنوات الأخيرة مع تنامي خطر الحركات الإسلاميّة المتطرّفة التي أجاز بعض فقهائها ومنظّريها قتل الأطفال وسبي النساء وزرع الموت المجاني والخوف والرعب والشرّ في كل مكان حلّوا فيه.
كانت محاولة يحيى محمد الحثيثة لمساءلة الفهم البشري للدين تمثّل نقطة البداية والنهاية في الوقت نفسه، لأنها أخذت في الحسبان خطورة الدائرة العلمية التي انبثقت منها هذه المساءلة، ووعت ضرورة بلورة تصوّر معرفي متكامل الوسائل والغايات يتوخى صاحبه استعادة موقف حضاري يحفل بالنقد والتجديد، ويحثّ على ضرورة الاجتهاد وعلى أهميّة ابتداع الأفكار الملائمة لروح العصر الذي نعيش تفاصيله الراهنة، وعدم الاكتفاء بسبيل النقل من ثقافتنا الفكريّة الموروثة.
ليحيى محمد مشروع فكري يمتد لأكثر من ثلاثة عقود ابتدأه مع مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي، وقد حاول من خلاله تقديم رؤية تسهم في تأهيل المسلم العادي وعاشق المعرفة لفهم النص الديني بطريقة منهجية أسماها (علم الطريقة) وهي آلية معرفية تهدف إلى صياغة نظم بحث منقطعة عن كلّ ضروب التفكير المذهبي ومعتمدة على مبدأ المراجعة الدائمة للأفكار، وعلى عرض النظريات والصياغات الفكريّة على الفحص والتحليل المستمرّين لغرض الوقوف على حقائقها وأبعادها الفلسفية والتاريخيّة.
وقد دشّن هذا المفكر مشروعه العلمي عبر مجموعة كبيرة من المؤلفات الفكريّة، أهمها: (مدخل الى فهم الاسلام) و(نقد العقل العربي في الميزان) و(الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر) و(القطيعة بين المثقف والفقيه) و(جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع) و(الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية) و(العقل والبيان والاشكاليات الدينية) و (الاستقراء والمنطق الذاتي) و (مشكلة الحديث) و(منطق فهم النص) وسوى ذلك من بحوث ومقالات ومحاضرات متنوعة في الفكر الإسلامي تدور في هذا المحور الذي كان شغله الشاغل.
تفتح اجتهادات يحيى محمد باب المساءلة الواعية على الصراعات الدينية بين الفرق والمذاهب المختلفة، فهذه الصراعات – بواقع الأمر- صراعات أشبه ما تكون بهيأة جبل الجليد العائم في البحر، إذ عندما يبدو سطحه الظاهري ستختفي عن العين أصوله وجذروه المشاكلة للمنهج أو لطبيعة الفهم المغذّي لأسباب الصراع والتنازع، مما يستوجب البحث عن الاصول المعرفيّة لهذا الصراع، والوقوف على دقائقها بغية الإحاطة بها وتقديم الاقتراحات والحلول لإذابة جبل الجليد وتقريب الرؤى بين الأفكار المتعارضة ما دام الإسلام دينا قد اشتمل على قدر من المرونة التي أبقت على مساحة حرّة وواسعة من الحوار بينه وبين الأديان الأخرى، وهي المساحة التي يجب أن تكون بين المسلمين أنفسهم أكثر اتساعا وديناميكيّة.
يقرع يحيى محمد من خلال هذا المشروع الضخم جرس إنذار ويوجه صيحة تنبيه ليفيق البعض من غفوتهم أو من انخداعهم بتأويلات تسويقيّة براقة قادت إليها ظروف تاريخيّة وسياسيّة سابقة داعياً لاستعادة دور العقل والاجتهاد والتفكير والتدبّر في صلاحيّة هذه التأويلات في زمان مختلف كليّا هو زماننا الحاضر، دون أن يعني ذلك - بالطبع- الدعوة إلى التنصل من القيم الإسلاميّة الأصيلة، ولا الحث على نبذ الفضائل والمعارف الإسلاميّة الباذخة التي اشتمل عليها جوهر ديننا الإسلامي السمِح، وكما أثبتها أسلافنا الصالحون من العلماء.
إنها دعوة للاجتهاد والتفكير، وليست دعوة للنقل ولترديد مكاسب القدماء وإنجازاتهم المعرفيّة بطريقة المنتشين التي تتخذ نماذجها التقديسية لا في الشخصيّات العلميّة فحسب، بل حتى في أفكارها ورؤاها المعبّرة عن واقع تاريخي منفصل عن واقعنا انفصالا تامّا، فتقديس شخصية تاريخيّة معينة - بحسب يحيى محمد- هو غير تقديس الفكرة العائدة لها، وليس بالضرورة أن يُلزم أحدهما الطرف الآخر.
وعلى هذا الأساس، فالباحث الجاد في زماننا - ونتيجة لاطلاعه على التراكمات العلميّة الهائلة التي سبقته - قد يمتلك من القدرة والمعرفة لفهم واقعه الديني أضعاف ما كان يمتلكه سلفه من العلماء والباحثين الذين ينظر إليهم هذا الباحث بعين التعظيم والإجلال مثمّنا عطاءاتهم العلميّة الثرّة ومُكبرا أساليبهم في الكشف والاستنتاج، لكن من دون أن يمتلك هذا إمكانيّة تسجيل اعتراضه على طريقتهم الخاصة في فهم واقعهم الديني المختلف بالضرورة عن كل واقع آخر، بما في ذلك واقعنا الراهن الذي أصبح مجالا خصبا لإسقاطات معرفيّة وفكريّة سابقة لا تمت إلى روحه ومزاجه بأدنى صلة، ولا تعبّر عن جوهره وحقيقته.
المصدر: مجلة الروضة الحسينية، العدد 82