يتصور الكثير خطأً أن الاجتهاد الفقهي يحظى بدليل شرعي خاص من النص.. والحال ان الأصل في العمل بالاجتهاد كان وليد الحاجات الزمنية التي فرضها الواقع.. وهناك العديد من العلماء من ذكر بأن العمل بالإجتهاد إنما جاء وفقاً لتناهي النصوص قبال تجددات الواقع غير المتناهية، ومن ذلك ما نقله أبو بكر بن العربي عن بعض العلماء قولهم أن النصوص معدودة والحوادث غير محدودة، ومن المحال تضمن المعدود ما ليس بمحدود[1]، وكذا ما أشار إليه الشهرستاني والشاطبي وغيرهم[2].
لقد ظهر الإجتهاد الفقهي في فترة مبكرة أوائل القرن الثاني للهجرة، وربما قبل ذلك بقليل، وكان يراد به أول الأمر معالجة القضايا التي لا نص فيها. وظل هذا المعنى مستحكماً لدى المذاهب الفقهية التي ظهرت خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة، ومن ثم أخذ يتوسّع فشمل القضايا المنصوص فيها[3].
ففي بادئ الأمر طُرح الإجتهاد كمرتبة بعد مرتبة النص، وكان يُعبّر عنه بصور وقواعد متعددة لم تثر خلافاً بين الفقهاء القائلين به، وكان القياس على رأس هذه القواعد. ويُعد الشافعي (المتوفى سنة 204هـ) أول من أثار الخلاف في الإجتهاد، وذلك عند ضبطه والتنظير له، حيث قصره على القياس فخالف سابقيه الآخذين بالمصالح المرسلة والإستحسان وغيرهما. مع هذا بقي الإجتهاد مطروحاً عند مرتبة تالية للنص، أي الكتاب والسنة، وكذا الإجماع بإعتباره كاشفاً عنه، أو كون حجيته تستمد منه مباشرة تبعاً للحديث المروي بهذا الخصوص.
فالنص أولاً ثم الإجتهاد ثانياً!
لقد كان الشافعي يرادف بين الإجتهاد والقياس، وحاول أن يستدل على القياس من النص القرآني بصورة غير مباشرة، لكن استدلاله كان قائماً على القياس ذاته، وبالتالي فقد صادر على المطلوب. وهو في محل آخر استدل على الاجتهاد من نص الحديث، لكن ذلك كان بصدد القضاء، لا بمعناه المصطلح عليه، ولا بمعنى القياس. وهو لم يستدل عليه بحديث معاذ بن جبل، ربما لاعتباره مرسلاً، والمرسل عنده ليس بحجة الا ضمن شروط[4].
لقد أخذ مفهوم الإجتهاد يتسع ويتغير مع مرور الزمن، حيث كسب معنىً شمل فيه حالة الإجتهاد في النص، ولم يبقَ حبيساً وموقوفاً على ما لا نص فيه كما كان لدى القدماء. وظهرت محاولات واسعة للإستدلال عليه في الوسط السني، مثل دعوى الاجماع وذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وسيرة بعض الصحابة واقوالهم.. لكنها جميعاً لم تفِ بشيء مقنع..
وعلى هذه الشاكلة أُثيرت محاولات مماثلة للاستدلال عليه لدى المتأخرين في الوسط الشيعي، لكنها جميعاً كانت مورد نقد واعتراض. وسبق لابراهيم القطيفي المعاصر للمحقق الكركي (المتوفى سنة 940هـ) أن أشار الى حالة الاضطرار للعمل بالإجتهاد بقوله: إن «الإجتهاد في مذهب الامامية ليس طريقاً جائزاً بالأصالة، وانما جاز للضرورة الحاصلة من غيبة الإمام، وبعده أُجيز للمجتهد مادام قائماً بالمحافظة على الأدلة»[5].
فمعاني الأخبار والأحاديث عن أئمة أهل البيت تعطي دلالة مخالفة للاجتهاد. فهي تنهى عن العمل بكل ما يفضي إلى الظن؛ سواء سُمي إجتهاداً أم قياساً أو رأياً أو غير ذلك من المسميات.
وبالتالي إن كل الأدلة (الشرعية) التي تمّ تقديمها لإثبات حجية الإجتهاد كما تعارف عليه لدى الفقهاء هي ضعيفة، ومثلها الأدلة المتعلقة بالتقليد. انما نشأ الإجتهاد بسبب الحاجة الواقعية؛ بغض النظر عن الطريقة المنتهجة إن كانت صحيحة أم خاطئة أو كارثية!!
[1] أبو بكر بن العربي: المحصول في أصول الفقه، شبكة المشكاة الإلكترونية، ضمن الفصل الثاني: في الدليل على صحة الأصل (لم تذكر ارقام صفحاته).
[2] الملل والنحل، ص86. والشاطبي: الاعتصام، دار الكتب الخديوية بمصر، تقديم محمد رشيد رضا، الطبعة الأولى، 1913م، ج3، ص197ـ199. كذلك: أعلام الموقعين، ج1، ص333 وما بعدها.
[3] انظر حول ذلك كتابنا: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، طبعة دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2010م، الفصل الأول.
[4] انظر: الآمدي، سيف الدين علي: الإحكام في أُصول الأحكام، كتب هوامشه الشيخ إبراهيم العجوز، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأُولى، 1405هـ ـ1985م، ج4، ص296.
[5] روضات الجنات، طبعة الدار الاسلامية، ج1، ص38ـ39 .