يحيى محمد
لا يمكن فصل العنف والكراهية الدينية عن الجذور التقليدية للتفكير الديني، فهما وليدان هذا التفكير. ومبرراته النظرية مستمدة بشكل او باخر من النص الديني ذاته. وهنا يطرح السؤال الصارخ؟ هل للدين صلة ذاتية بالعنف والارهاب؟ ام ان النموذج الارشادي للتفكير الاجتهادي قد آل الى هذه النتيجة عندما راهن على فهم ثابت غير قابل للمراجعة والنقد؟
فمن حيث النص الديني لا ينكر ان هناك موارد تدعو الى شيء من الشدة مع المخالفين في الدين. لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد: هل تعامل القرآن مع الواقع بوصفه متغيراً ام بوصفه حاملاً لثوابت ابدية تقتضي الحكم الثابت دون مراعاة الظروف وتقلبات الواقع؟
ليس من شك ان العامل الرئيسي للعنف والكراهية الدينية يعود الى سوء الفهم الذي مازال يروج له النهج البياني بمذاهبه المختلفة، وهو النهج الذي يعتمد على حرفية النص الديني اساساً. فالنص هو الحجة الاولى التي يستخدمها دعاة العنف والكراهية وترويجها بين الشباب. وهو الاطار الذي يعول عليه الفقهاء كركيزة ثابتة غير قابلة للتغيير، وعلى اساسه تُرفع شعارات كون الشريعة الاسلامية باحكامها المنصوصة مناسبة وصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان. فلديهم ان احكام القرآن قطعية وقريب منها احكام الحديث، ولا مجال لتأويلها ولا الى تضييق مساحتها طالما انها تبدي الاطلاق والعموم.
لقد قام هذا الفهم على محورين اساسيين يمثلان مصدر ما تضمنه الفكر الديني من عنف وكراهية، هما: تجريد النص عن الواقع، وجعل القيم الاخلاقية تابعة لاحكام النص. فكل من الواقع والقيم المستقلة يشكلان عنصرين غائبين لدى المنظومة الفقهية وعموم النهج البياني، وبغيابهما اصبح العنف والكراهية وحتى الارهاب من لوازم هذا التفكير.
وبتشخيص العلتين الانفتي الذكر يمكن قلب الطاولة على الفهم التقليدي للفقه والبيان باعادة الامور الى نصابها، واعطاء العنصرين المغيبين دوراً محورياً في التفكير على شاكلة ما كان عليه الحال زمن الخطاب القرآني.
فمن حيث ركيزة الواقع يتوجب بناء التشريع الفقهي طبقاً لعلاقته بالتنزيل الديني، دون الاعتماد على النص المجرد. اذ كان هناك تفاعل وجدل بين الاحكام الدينية والواقع لدى فترة التنزيل، كالذي يشهد عليه القرآن الكريم فضلاً عما وردنا من الحديث النبوي. فقد تعامل الخطاب القرآني مع قضايا الاحكام المختلفة وفق اعتبارات حركة الواقع وتغيراته، وانه بدافع هذه الحركية جرت ممارسة النسخ[1]. لذا نستغرب كيف أجاز الفقهاء جعل هذه الاحكام معياراً للقيم الاخلاقية؟ فيما العكس هو الصحيح، باعتبارها وسائل محكومة بالقيم والمقاصد العامة.
ورغم شهادة القرآن الكريم على مراعاة الواقع عند تنزيل الاحكام، وان الاخيرة لم تنفصل قط عن هذه المراعاة، لكن للاسف اصبحت هذه الفكرة الواضحة غريبة لدى الاوساط الاسلامية، الى درجة ان الكثير يتصور بانها تعارض الفكرة الدينية من دون ان يكون لها اصالة اسلامية او قرآنية.
لقد حدث هذا التضييق بفعل هيمنة التفكير الفقهي الذي جعل الاحكام الدينية ماهيات ثابتة دون ان تتأثر بالواقع الموضوعي واعتباراته المختلفة. ومن هنا شيع بان الاحكام صالحة لكل زمان ومكان، مع رفض كل محاولة لربطها بواقع التنزيل، واعتبار من يفعل ذلك بانه يخالف الضرورة الدينية. رغم ان الصحيح هو العكس، وان هناك خطأً تاريخياً مازالت آثاره سارية الى يومنا هذا.
لقد اصبحنا ضحية التفكير الفقهي الثابت قبل ان نكون ضحية العنف والكراهية والارهاب، فلهذه البواعث اصل متعلق بهذا التفكير المغلق، ولولا ذلك ما كان للعنف ولا للكراهية والارهاب محل لدى الافهام الدينية. فهو منبع الطاقة الفكرية والغطاء المعرفي للعنف والكراهية ولو من غير قصد. فمعلوم رأي الفقهاء حول قضايا حساسة مثل الكفر والجهاد ودفع الجزية وقتل المرتد وما الى ذلك. فالتصور الفقهي ثابت، فيما ان التصور القرآني مرن غير ثابت، وهذه المرونة تابعة لمرونة الواقع، واذا كان الفقهاء قد انتهوا الى منظومة مغلقة بحملها لاحكام منصوصة لا يمكن تجاوزها؛ فان القرآن الكريم كان على العكس من ذلك يمارس احكاماً مرنة ومفتوحة وفقاً لتغايرات الواقع الموضوعي وحركيته، ويؤيد هذا المنحى ما وردنا عن السيرة النبوية وافعال الصحابة.
هذه هي ركيزة الواقع التي غيبها الفقهاء من معجم التعامل القرآني، حيث تمسكوا بالنص وقطعوا الصلة فيما بينه وبين مراعاته لها.
أما الركيزة الثانية فهي ركيزة القيم الاخلاقية التي جعلوها تابعة وغير مستقلة عن النص، رغم ان القرآن الكريم أشاد بها في مواقف كثيرة لا تحصى، وانه اعتبر منها ما هو غاية مقصودة من بعث الرسالات السماوية[2]. وبالتالي فهي ليست تابعة للنص واحكامه المفصلة كما صوّرها لنا الفقهاء. فلدى هؤلاء ان ما يمنع ان يكون للقيم استقلال وتجاوز للاحكام هو ان الاخيرة ثابتة وغير متأثرة بالواقع الموضوعي. فهذا هو رأي الفقهاء بجميع مدارسهم ومذاهبهم. فحتى المذهب الذي يعترف بالحسن والقبح العقليين ويجعل من العقل مصدراً اخيراً للتشريع الفقهي؛ فانه لا يعير لحسن العقل وقبحه اهمية عندما يتعارض مع نص رواية[3]. وبالتالي فالجميع سواء من حيث تعاملهم مع القضايا الاخلاقية، وهي انها غير مستقلة عن النص الديني، فلكونها عامة وكلية فان الفقهاء لم يرتبوا عليها اي اثر، فكأنها غير موجودة اصلاً، فهي بالنتيجة تابعة لقرارات النص واحكامه الجزئية، حتى لو كان مصدر الاخيرة هو الروايات المنقولة رغم كثرة المشاكل التي تعترضها وضعف الاساس الذي بنيت عليه[4].
هكذا اخذت النصوص التفصيلية تتحكم في الارادة الفقهية طولاً وعرضاً. وقد انعكست هذه المواقف على المسلم العادي، فهو لا يبالي بانتهاك القيم مستنداً في ذلك الى المنظومة الفقهية ومراجعها، واحياناً الى النص المباشر.
فبحسب المنظومة الفقهية – ومثلها الكلامية - ينقسم البشر الى ماهيات عقائدية مغلقة، فهم مسلمون وكفار، والمسلمون منقسمون الى فرق ضالة باستثناء واحدة ناجية، وان على المسلم ان يتبع هذه الفرقة ولا يحترم سائر الفرق الاخرى ولا يعاملهم بمنطق القيم الاخلاقية، رغم ان القرآن الكريم قد نصّ على نجاة اهل الكتاب وفق بعض المعايير[5]، وان اخلاق التقوى ومحبة الله مفتوحة دون ان تكون حصراً على المسلمين ولا شاملة لهم باطلاق[6]، كما انه لم يرد في القرآن اي ذكر لفرق المسلمين، وحتى في الحديث المعول عليه لم يتعين بصريح النص اي فرقة هي الناجية[7].
ان انتهاك الفهم الفقهي للقيم الاخلاقية خلّف لدى نفوس الناس ديناً مدنساً عوض الدين المقدس. فمن الظلم ان ننسب الى الدين القيّم ما تبناه الفقهاء وجاراهم عليه عامة الناس من مفاهيم منحرفة لمخالفتها ابسط حقوق البشر. فالله لا يأمر بالظلم ولا العدوان ولا انتهاك الحرمات ولا يؤاخذ احداً بجريرة غيره ولا يتقبل الافتراء على الاخرين دفاعاً عن العقيدة او بدافع تسقيط الاخر المختلف.
لقد تحول المقدس الى مدنس عند انتهاك الأتباع للقيم الاخلاقية. وتنبع خطورة هذا الانتهاك من تلبسه بالمقدس، فهو وحش قاتل من دون ان يقيده قيد او تحده حدود، طالما يبرر انتهاكه باتباعه احكام النص المجردة عن الواقع وملابساته الظرفية، خلافاً لتوجهات القرآن الكريم، فالقيم التي يتحدث عنها الاخير هي قيم مستقلة، كما ان تعامله مع القضايا الموضوعية اتصف بالمرونة تبعاً لتغايرات الواقع وتطوراته دون ان يحولها الى ماهيات ثابتة مغلقة.
وبحسب القرآن الكريم ليست القيم الاخلاقية مستقلة فحسب، بل انها غاية محكّمة يتوسل اليها الدين ذاته. وهي فضلاً عن ذلك تمثل قانوناً تتمسك به حتى القرارات الالهية وافعالها، رغم ان الله هو الخالق والمالك المطلق من دون شريك. فهناك نصوص صريحة تبدي ان معاملة الله للبشر تجري وفق العدل والاحسان من دون ظلم وحيف[8]، كما ان الناس مطالبون بالعدل والاحسان معاً[9].
وتعتبر هذه المفاهيم مستقلة عن التحديد الالهي او الخطاب الديني. فالله تعالى لا يحدد لنا معنى العدل ولا الاحسان ولا الظلم، لكنه منحاز للقيم المثلى ومتمسك بها دون ان تكون لوازم منبعثة من افعاله ومشيئته، فالموقف القرآني لا يجعل الذات الالهية تتخذ من القيم وسيلة للشكلانية والتجاوز، رغم كونه المالك المطلق وله المشيئة التامة. وهو ما يؤكد المعنى المستقل للقيم.
لذا فمن الواجب ان يتمسك المسلم باستقلالية القيم دون ان يربطها بلوازم الاحكام الشرعية فتكون شكلية لا فرق فيها بين الظلم والعدل، كما يختلط فيها الحق والباطل.
ورغم ان بعض البيانيين تنبّه الى هذه الاستقلالية؛ لكنه لم يرتب عليها نتائج تستحق الذكر. ومن ذلك ما يتعلق بموقف المدرسة التيمية من القيم الاخلاقية، حيث اعترفت بانها عقلية ومستقلة رغم بعض التناقضات التي اصابتها[10].
وعلى العموم تتضمن المنظومة الفقهية الكثير من الاحكام المخالفة للركيزتين الانفتي الذكر. وقد كسبت بفعل العديد من اجتهاداتها صفة التوحش لتجاوزها للقيم الاخلاقية المستقلة تعويلاً على ثبات الاحكام الاصلية وعدم تأثرها بواقع التنزيل. فهذا هو خطؤها التاريخي الجسيم، واليوم نراه جلياً لا تخطأه العين المحايدة ابداً، ولولا التغيرات الكبيرة للواقع ما تنبهنا اليه. وهو ما جعلنا نلتفت الى المعالجات القرآنية وحتى ما وردنا من سيرة النبي والصحابة الكرام.
ويمكن التمثيل على ذلك بالنموذجين النيوتني والاينشتايني للفيزياء، ففي مرحلة ما قبل القرن العشرين كان من الصعب تماماً تقبل مضمون ما عليه النموذج الاينشتايني، لكن عند الاطلاع على مساحات كبيرة من الكون يسود الشعور بان النظرية النيوتنية غير دقيقة. وكذا هو الحال فيما يخص العلاقة التشريعية قديماً وحديثاً.. فهناك ما يجعلنا نثق بان الطريقة الفقهية ليست فقط لا تتلاءم مع واقعنا بشكل صارخ وصادم، بل انها ايضاً لا تتلائم مع الممارسة القرآنية ولا مقاصدها العامة، رغم ما ابدته من توافقات مقبولة ضمن التغيرات الطفيفة للواقع. فنسبة التفاوت بين الواقعين القديم والحديث هي كنسبة التفاوت بين القرية الصغيرة والمدينة الكبيرة، فالاعراف والعادات والوظائف كلها مختلفة، ومن ثم ان ما يسود من احكام وقوانين واخلاق لا بد ان تكون مختلفة هي الاخرى. فهناك نسبية ضمن التعامل وسط هاتين الحالتين، ولعلنا نشهد اليوم في بعض بلداننا العربية نمطاً من التعامل العشائري والفقهي ما يعلو على القوانين، وهي حالة ارتدادية لا تعتبر مقبولة الا وسط الظروف الطارئة من غياب القوانين المدنية او ضعف الدولة وسلطاتها.
والقصد مما سبق هو ان المنظومة الفقهية وان كانت قادرة على تفسير الاحكام القرآنية وفق ظروفها الخاصة لكنها تعجز عن ان تعممها على مختلف الظروف والاحوال، وهذا العجز لا يمكن حله الا من خلال التفسير القائم على الواقع والمقاصد وقيم الاخلاق المستقلة. فعلى ضوئها يمكن تفسير انسجام الاحكام القرآنية مع الواقع الذي نزلت فيه، كما يمكن التعامل باتساق مع الحالات المستجدة من الواقع الحديث والذي تعجز المنظومة الفقهية وعموم المنهج البياني التعاطي معها بانسجام من دون صدام مع المقاصد والقيم.
فالواقع الموضوعي هو التجربة المباشرة التي نختبر من خلالها قيمة النظريات والمعتقدات.
ان التفكير الديني سلاح ذو حدين، فهو قابل لان يكون مدمراً للبشرية، كما قابل لان يكون مصلحاً لها. فالخط الفاصل بين ان ينتج الفكر الديني منتجات ارهابية او ثماراً انسانية هو خط الواقع والقيم الاخلاقية. فعندما يضاف الواقع الى النص فانه يبعث على الثمار الانسانية، لكن عندما يطرح من النص فانه يؤدي الى منتجات العنف والتشدد والكراهية ومن ثم الموت والفناء.
وبحسب التعبير الرياضي فان:
النص – الواقع ← افساد
النص + الواقع ← اصلاح
من هنا فنحن نضطر الى اتخاذ احد خيارين لا ثالث لهما. فاما ان نقيم الفكر الديني على اصالة الواقع والقيم الاخلاقية، او نقيمه على الاحكام المجردة المغلقة الثابتة التي تفضي بنا الى العنف والكراهية، وهي الركيزة التي آثرتها المنظومة الفقهية كصيغة من صيغ الارشاد الفكري.
ان اقامة الفكر الديني على الواقع يقتضي اعتبار الخطاب القرآني نزل في بيئة نموذجية تتصف بجغرافيا معينة وزمن محدد، وهو ما يجعل الاحكام الدينية نموذجية لا مركزية طالما ان شبه الجزيرة العربية ليست مركزاً للارض ليستنتج منها مركزية الاحكام.
واذا كانت الاحكام مرتبطة ببقعة معينة محدودة؛ فليس من المعقول تعميمها على جهات لها ظروف تختلف عنها تماماً، بدلالة ما نشهده من ظاهرة الجدل بين الخطاب والواقع كما يتجلى في نسخ الاحكام وتغييرها خلال فترة عمر الرسالة الاسلامية الوجيزة. فالنظر الى النص القرآني يجعلنا ندرك حجم مراعاته للواقع. مثلما ان دراستنا لذلك الواقع تجعلنا نتفهم لماذا تضمّن هذا النص الكثير من الصور الخاصة التي لا يمكن فهمها من دون لحاظ ما كانت عليه شبه الجزيرة العربية. وعليه كانت الاحكام الدينية ملائمة للواقع الذي نزلت فيه.
فذكر القرآن للخيل والبغال والانعام والجمال والرق والعورات الثلاث وغيرها من الصور انما هي تعبير عن ذلك الواقع الخاص، وعليها تأسست الاحكام. وحتى الشدة في بعضها نراها تتفق مع طبيعة الواقع الصحراوي الخشن وظروفه القاسية، فقد اقتضى ان يكون التعامل مع أناس لهم مواصفات من الشر والكراهية والتعصب هي بمثل ما يتصف به المتشددون ذوي العنف والتعصب الشديد في واقعنا المعاصر. فلهؤلاء المتشددين من الصفات البذيئة ما يشابه تلك التي كانت لأحبار اليهود والنصارى والمشركين في زمن الخطاب القرآني. وعليه كانت جميع الاحكام تتناسب بشكل طبيعي مع ذلك الواقع إما ابتداءاً او عبر النسخ والتأجيل. فمثلاً لم يكن في القرآن حكم ووعيد اشد غلظة من ذلك المتعلق بالشرك[11]، فيما لا نجد ذِكْراً صريحاً ولا موقفاً معلناً حول الالحاد، رغم ان الاخير أسوء حالاً من الشرك بكثير. ويعود السبب في ذلك الى كون الالحاد لم يشكل ظاهرة عامة مثلما هو الحال مع الشرك، خلافاً لما يشهده عصرنا الحالي.
هكذا تتصف الاحكام الدينية بالنمذجة لتبعيتها الى عصر ذي مواصفات محددة، خلافاً لما يتصف به عصرنا من مواصفات. وهو ما يفرض علينا اعادة النظر في طريقة قراءتنا للقرآن من منظور الواقع وعلاقته بالقيم والمقاصد الدينية العامة. وعندها سوف تتغير نظرتنا الى الاحكام الشرعية وكيفية التعامل مع القضايا الحديثة. فالدين من خلال المنظور الديني ليس نصاً مجرداً كما يُخيل للفقهاء والعلماء التقليديين، بل هو حصيلة التفاعل بين الخطاب القرآني والواقع، وعليه كان لا بد من ان يستظل بظل القيم والمقاصد، وبدونها ليس للاحكام الدينية من معنى سوى العبث والتدمير.
ان العلاقة بين النص والواقع تجعلنا في غنى عن ان نكون متمذهبين ضمن اي من المذاهب الاسلامية المعروفة. فليس بين هذه المذاهب من يعول على مرجعية الواقع، كما ليس منها من يولي القضية الاخلاقية قيمتها كمصدر للاحكام الفقهية او موجه لها، كذلك ليس منها من يلتزم بالطرح المنهجي كما تطرحه هذه العلاقة الوطيدة.
ومن حيث المبدأ ليس من الممكن فهم الاحكام الدينية وتطبيقها باتساق وصلاح دون التعويل على ركيزتي الواقع والقيم الاخلاقية. فهما الخيار الذي يمنعنا من الوقوع في متاهات التشديد والتكفير والتضليل والانغلاق. وبالتالي فكل علاج لا يستعين بما ذكرنا سيفضي الى الفشل والتعارض مع ابسط حقوق البشر.
ومن الناحية التربوية ينبغي ان نربي اولادنا - في البيوت والمدارس - وفقاً لمنهج ديني جديد قائم على العلاقة التي تشدّ الدين الى الواقع والقيم الاخلاقية تجنباً للمسخ الروحي والاخلاقي الذي يستشري في مجتمعاتنا يوماً بعد آخر، حتى جعل الكثير يتخلى عن الدين اصلاً.
أخيراً، إن من يريد الكشف عن قيمة ايمانه ينبغي ان لا يلجأ الى تعداد ما يتعبد به من شكليات، ولا الى لحاظ ما يعتقده من معتقدات، فكل هذه الامور لا تغني شيئاً امام تهذيب النفس في العلاقة مع الاخرين. فاذا كان جوهر الدين قائماً على اسس اخلاقية، فان تطبيقات هذه الاسس قابلة للترجمة الى الواقع الموضوعي، وبالتالي فمقياس الايمان يتوقف على اخلاق التعامل مع الناس.
ومبدئياً كلما كانت العلاقة مبنية على الانفتاح الاخلاقي بالسعة والشمول؛ كلما كان الايمان اعظم درجة، والعكس بالعكس. ويصل مدى هذا الايمان في حده الاقصى الى ان يتعامل الفرد مع عدوه بلطف وعطف وان يتمنى له الخير والهداية دون الشر والعذاب كما اعتدنا ان نعتبر ذلك من الايمان. فهذا هو محك الايمان بصدق العلاقة وعدلها واحسانها. حتى ان الله تعالى امرنا بالاحسان مثلما امرنا بالعدل. ففي كثير من الاحيان ان العدل وحده لا يكفي، فهو لا يرقق القلوب ولا يجعلها متعاطفة. وفي حالات الصراع قد يؤدي العدل المحض الى سلسلة متواصلة من الاعتداء المتبادل. فمن العدل ان يُرد الاعتداء بالمثل، لكنه قد يكون سبباً في استمرار الصراع وردود الفعل المتبادلة بين الطرفين. فيما العفو والاحسان قد ينهي الصراع اساساً. وكما يقول غاندي: إذا قابلنا الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة. فالتسامح والتجاهل والتغافل عن الكثير من الاساءة قد تعمل على انهاء الكثير من المشاكل والصراعات التي قد تتفجر هنا وهناك لأتفه الاسباب. وكل ذلك بفضل الاحسان لا العدل، والله تعالى هو القائل: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ))[12]، وهو القائل ايضاً: ((وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))[13]. وكم تتجلى هنا عظمة الحكمة التي رويت عن النبي عيسى وهو يوصي بالقول: مَن صفعك على خدك الايمن فأدر له الايسر. ومثل ذلك ما روي عن الامام علي بانه فضّل العفو على القصاص من قاتله، وجاء في نهج البلاغة قوله قبل وفاته: (إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي، وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فَاعْفُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ).
[1] للتفصيل انظر: جدلية الخطاب والواقع.
[2] كما في قوله تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) الحديد \25 .
[3] للتفصيل انظر الفصل الاول من: فهم الدين والواقع.
[4] للتفصيل انظر: مشكلة الحديث.
[5] كما في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) البقرة\62.
[6] مثلما جاء في هذه الآيات: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) الحجرات\13.. ((وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) سورة آل عمران\75-77.
[7] حول نقد الفرقة الناجية انظر القسم الاول من: مدخل الى فهم الاسلام.
[8] كقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)) النساء\40.
[9] كما في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) النحل\90.
[10] للتفصيل انظر الفصل الثامن من: العقل والبيان والاشكاليات الدينية.
[11] ومن ذلك قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)) النساء\48.
[12] الشورى\40 و43..
[13] فصلت\34.