يحيىمحمد
خضع صدر المتأليهن الشيرازي لمنطق السنخية وتشاكلات الوجود مثل غيره من الفلاسفة التقليديين، وكان من العلاقات التي أقامها طبقاً لهذا المنطق؛ مماثلاته الكثيرة بين العالم والانسان والذات الإلهية. حيث ماثل بين العالم والانسان، معتبراً هذا الأخير نسخة مستنسخة عن الأول، فلكل منهما جسد وروح، واذا كان جسد الانسان وروحه معلومين، فان جسد العالم المعبر عنه بالانسان الكبير هو الكون بسماواته وأرضيه، أما روحه الذي يمثل حقيقة العالم وذاته وروحه الأعظم فهو عبارة عن العقل الأول البسيط الذي تحققت به خلافة البشر، باعتباره خليفة الله في السماء والأرض.
ومن صور هذه المماثلة طابق بين الحقائق الغيبية كالعرش والكرسي وكيفية الاستواء وما الى ذلك، فاعتبر مثال العرش في ظاهر الانسان قلبه المستدير الشكل، وفي باطنه روحه النفساني، وفي باطن باطنه نفسه الناطقة، اذ هو محل استواء الروح عليه. أما مثال الكرسي في الظاهر فهو صدره، وفي الباطن روحه الطبيعي الذي هو مستوى نفسه التي وسعت سماوات القوى الطبيعية السبع ـ وهي الغاذية والنامية والمولدة والجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة ـ كما وسعت أرض قابلية الجسد[1]. كما ماثل بين العالمين الكبير والصغير، فلكل منهما أربعة مقامات ذكرها بالتفصيل[2]. وناظر بين كل من الخلق والبعث لكل من الانسانين الأكبر والأصغر، فالخلق للجسم والبعث للروح في كليهما، فكما تنفطر السماء وتنتثر الكواكب وتنكدر النجوم وتتكور الشمس وتتزلزل الأرض وتدك الجبال وتحشر الوحوش، فكذا يحصل مع العالم الأصغر حيث تنفطر سماؤه التي هي أم دماغه، وتنتثر كواكبه التي هي قواه المدركة، وتنكدر نجومه التي هي حواسه، وتكور شمسه التي هي قلبه ومنبع قواه وحركته الغريزية، وتتزلزل أرضه التي هي بدنه، وتدك جباله التي هي عظامه، وتحشر وحوشه التي هي قواه المحركة. وهكذا ما من شيء خلقه الله تعالى وبعثه إلا وكان له مثال مطابق وانموذج صحيح في الانسان[3].
كما ماثل بين العالم والذات الإلهية، باعتبار ان الأخيرة تمثل كل الأشياء. فما من شيء موجود في الخارج الا وله وجود آخر بصورة أليق في عالم الذات الإلهية، فهي بالتالي لا تخلو من أرض ولا سماء ولا بر ولا بحر ولا عرش ولا فرش، فكل شيء يخرج على شاكلته، اذ ما من شيء في العالم إلا وله في الله أصله وصورته التي تشاكله، بدونها لا يظهر أي شيء اطلاقاً، باعتبار ان حقيقة المعلول تنبعث من ذات العلة، للسنخية بينهما، الأمر الذي يعني أن كل ما في الكون عبارة عن ظل لما في العالم العقلي، وكل صورة معقولة هي على مثال ما في الحضرة الإلهية، كما ان كل شيء يخلقه الله فله نظير في الآخرة، وله نظير أيضاً في عالم الأسماء والصفات. وجميع هذه الكثرة تكون موجودة بوجود واحد بسيط مجمل، وهو معنى وجود الكثرة في الوحدة[4].
كما وماثل بين الانسان والذات الإلهية اعتماداً على أثولوجيا افلوطين، فاعتقد بوجود عوالم متعددة ومتسانخة للانسان، فمنها ما هو انسان طبيعي وهو مثال وصنم للانسان النفساني الأشرف منه، وهذا الأخير يعدّ مثالاً وصنماً للانسان العقلي المشرق بنوره على من دونه. وهناك فوارق بين هذه الأنواع من الانسان، فالانسان الطبيعي له أعضاء محسوسة متباينة في الوضع، فليس موضع العين موضع السمع، ولا موضع اليد موضع الرجل، ولا شيء من الأعضاء قط في موضع العضو الآخر. أما الانسان النفساني فله أعضاء متمايزة لا يدرك شيء منها بالحس الظاهر، بل يدرك بعين الخيال والحس الباطن المشترك، فهو بعينه يبصر ويسمع ويشم ويذوق ويلمس بتلك الأعضاء من غير تخالف في الجهات والأوضاع، بل لا وضع لها ولا جهة، ولا يقع نحوها اشارة حسية لكونها ليست من هذا العالم وجهاته، كالانسان الذي يُرى في النوم، والنوم يعدّ جزءاً من أجزاء الآخرة وشعبة منها. أما الانسان العقلي فأعضاؤه روحانية وحواسه عقلية، له بصر عقلي وسمع عقلي، وكذا ذوق وشم ولمس كلها عقلية. وكذا فله يد ووجه وجنب كلها عقلية أيضاً. وكل تلك الأعضاء والحواس العقلية موجودة بوجود واحد عقلي. وهذا هو الانسان المعد مخلوقاً على صورة الرحمن والذي يمثل خليفة الله في العالم العقلي، وهو مثال الحق المنزّه عن المثْل لا المثال. وهكذا اذا كان الانسان العقلي هو مثال المبدأ الأول، فان الانسان الخيالي مثال مثاله، كما ان الانسان الطبيعي يكون مثالاً لمثال مثاله[5]. وهذا التسانخ متحقق حتى في علاقات الفعل والارادة، فعلاقة النفس الناطقة بالحواس هي على شاكلة علاقة الحق بملائكته، فالنفس اذا أرادت شيئاً نهضت الحواس طائعة دون تكلّف ولا عصيان، وذلك على سنخ العلاقة الأمرية بين الحق وجنوده[6].
وهو وإن كان ينكر أحياناً علاقة الشبه مع المبدأ الأول لكل ما سواه من العالم، لكن حقيقة مذهبه تؤكد هذه العلاقة وفقاً لمنطق السنخية، الى الحد الذي لا يخفي القول بالمشابهة صراحة، ربما لأول مرة، كما جاء في قوله: «..أن العلة المفيضية لا بد وأن يكون بينها وبين معلولها ملائمة ومناسبة لا يكون لها مع غيره تلك الملائمة كما بين النار والاحراق والماء والتبريد والشمس والاضاءة.. فلو صدر من واحد حقيقي اثنان فاما بجهة واحدة أو بجهتين، لا سبيل الى الأول، لأن الملائمة هي المشابهة، والمشابهة ضرب من المماثلة في الصفة، وهي الاتحاد في الحقيقة، الا ان هذا الاتحاد اذا اعتبر بين الوصفين كان مماثلة، واذا اعتبر بين الموصوفين كان مشابهة، فمرجع المشابهة الى الاتحاد في الحقيقة»[7].
وطبقاً لحالة التردد التي شاعت لدى الفلاسفة فان هذا التقدير المذكور لصدر المتألهين لم يرضِ بعض أتباعه ومريديه، كما هو الحال مع السبزواري صاحب (المنظومة) والمرحوم الطباطبائي صاحب (الميزان في تفسير القرآن)، فكلاهما قررا بأن «مبدأ المبادئ لا يشبهه شيء»، وقدّر الأخير أن الأولى أن يقال بينهما مناسبة ذاتية وارتباط خاص مما يقتضي «السنخية بينهما بحيث لا يفترقان الا بالشدة والضعف»[8].
وهذا يعني ان حالة التردد قد وصلت حداً من التضخم لم تستطع إخفاء التناقض حتى في عبارة قصيرة واحدة كتلك التي ذكرها الطباطبائي قبل قليل. وذلك أن الافتراق بالشدة والضعف بين العلة والمعلول يؤكد المشابهة بينهما لا أنه ينفيها. كيف لا؟ وقد حكم المشار اليه سلفاً على مراتب الوجود بهذا التمايز، وأيده بمثال النور التقليدي الذي تتحد فيه الحقيقة بين الشديد والضعيف فلا تزيد المرتبة القوية منه على المرتبة الضعيفة بشيء آخر غير النور، كما لا تفقد المرتبة الضعيفة من حقيقة النور شيئاً، ولا تختلط بالظلمة، فكل مرتبة هي عبارة عن ذات الحقيقة المتمثلة بالنور[9].
وظهر مثل هذا التناقض في التردد لدى الأهري صاحب (الأقطاب القطبية)، فمع أنه يعترف بوجود المشابهة بين العلة والمعلول، الا أنه ينكر أن يكون للحق تعالى أي نوع من الشبه والمماثلة مع غيره من المعلولات، مستدلاً على ذلك بما ينقض اعترافه الأول، بمثال من واقع الطبيعة، وهو أن الحركة ليست من جنس الحرارة مع انها علة لها، اذ الحرارة من الكيف، والحركة فصل شامل للكم والكيف والأين والوضع وغيرها[10].
لقد ظهرت ترددات عديدة لدى الفلاسفة تخص علاقة تطبيق منطق السنخية على مبدأ الوجود الأول، بعض منها يتعلق بمشكلة وجود الكثرة الصورية في الذات الإلهية، وبعض آخر يتعلق بمشكلة المشابهة بين هذه الذات وما دونها من الموجودات، كما ظهر تردد آخر يتعلق بطبيعة وحدة الوجود إن كانت عضوية أم نوعية؟
وبلا شك ان صدر المتألهين قد أصابه التردد فيما يخص المشكلة الاخيرة؛ ومن ثم ان له محاولة صاغ فيها تردده بطريقة توفيقية تصب في المعنى الصوفي من وحدة الوجود.
والواقع أن المحاولات التوفيقية التي أقامها هذا الفيلسوف وفقاً لمنطق السنخية والشبه عديدة. أهمها محاولته الجمع بين نظريتي الفلاسفة والعرفاء في حل مشكلة العلاقة بين الكثرة والوحدة لنظرية الصدور أو الفيض، متخذاً بذلك صورة معمقة للطريقة التي سبق أن أدلى بها ابن رشد خلال معارضته لطريقة «الاعتبارات» التي أسسها الفارابي ومضى عليها سائر الفلاسفة التابعون. فابن رشد يرى أن صدور الواحد عن الواحد صحيح من وجه، كما وأن صدور الكثرة عن الواحد هو أيضاً صحيح. لذا صرح بأن الوحدانية التي صارت بها الكثرة واحداً هي معنى بسيط صدرت عن واحد مفرد بسيط، فكل كثرة انما يكون منها واحد، والوحدانية تقتضي أن ترجع الكثرة الى الواحد، وهو ما يفسر كيف يصدر العالم الواحد بما يضم من كثرة عن الواحد البسيط[11]. وهذا الموقف يتفق مع طريقة صدر المتألهين الذي عمل على التوفيق بين الفلاسفة والصوفية. فهو أيضاً نقد طريقة «الاعتبارات» الفارابية واعتبرها ليست سليمة، معولاً على الجمع بين جوهر ما يقوله كل من الفلاسفة والصوفية. فطريقة الفلاسفة تنص بأن الصادر عن مبدأ الوجود الأول لا بد أن يكون واحداً هو العقل الأول. أما طريقة الصوفية فهي تجوّز أن يكون الصادر متكثراً لتكثر اعتبارات نسب الذات الإلهية. وهم تارة يطلقون على الصادر الأول بأنه نسبة عقلية سابقة على سائر الاعتبارات، وأخرى يطلقون عليه بأنه الوجود العام المفاض على الممكنات، إذ يكون مشتركاً بين سائر الموجودات وبين العقل الأول، ومع ذلك فهم يطلقون على هذا الصادر تسميات كثيرة؛ منها العقل الأول والقلم الأعلى والروح الكلي والعدل والعرش والحق المخلوق به والحقيقة المحمدية وروح الأرواح والامام المبين، كما ويسمى كل شيء وغير ذلك من الأسماء[12].
على أن هناك من وجّه هذين القولين للصوفية فجعلهما غير متعارضين، معتبراً الصادر الأول في الشهود العلمي هو تلك النسبة، وفي الوجود العيني هو الوجود العام. لكن صدر المتألهين سعى لايجاد جسر مشترك عام يوحد فيه بين نظريتي الفلاسفة والصوفية، فهو بحسب اعتبارين جمع بين صدور الكثرة المجملة من جهة، وبين صدور الترتيب المستند الى قاعدة الصدور الفلسفية من جهة أخرى، معتبراً العالم قد صدر صدوراً واحداً بجعل بسيط، لكنه في الوقت نفسه يتضمن سلسلة الترتب من العقل الأول الى آخر المراتب الوجودية كما سبق أن عرفنا. فلو نظرت الى مجموع العالم بما هو حقيقة واحدة حكمت بأنه صدر عن الواحد صدوراً واحداً وجعلاً بسيطاً. أما لو نظرت الى معانيه المفصلة فستحكم بأن الصادر الأول هو العقل الأول لأنه أشرف أجزاء ذلك العالم وأتم مقوماته باعتباره يمثل كل الأشياء. وهكذا الأشرف فالأشرف، إذ العقل الأول هو عين العالم ككل، والاختلاف بينهما هو من حيث الاجمال والتفصيل، مما يعني ان صدور العالم وابداعه يصبح بكليته دفعة واحدة باعتباره ذا وحدة حقيقية جامعة لكل ما فيه؛ بما في ذلك التجددات والحركات التي عدّها صدر الحكماء مطوية في جناب هذه الوحدة من العالم[13].
كما انه في العلم الإلهي واستناداً الى السنخية جمع ووفّق بين الطريقة الصورية للفلاسفة كما عند ابن رشد وبين الطريقة الشهودية للاشراقيين كما عند السهروردي. فهو قد اعتقد بأن هناك علمين، أحدهما متبوع ومقدم على ايجاد المعلوم، وهو العلم الصوري الكائن في مرتبة الذات والمتصف بالإجمال. أما الآخر فهو العلم الشهودي المتأخر عن الذات. فبحسب مذهبه أن مبدأ الوجود الأول يعلم جميع الأشياء على وجه الوحدة بما يعلم به ذاته لا بأمر آخر[14]. اذ تكون ذاته في هذه المرتبة مجلاة يرى بها وفيها صور جميع الممكنات المسماة بالأعيان الثابتة، من غير حلول ولا اتحاد[15]. ففي هذه المرتبة يعقلها في حد ذاته لا في العقل الأول ولا في غيره كما هو الحال مع طريقة الفارابيين وغيرهما من المشّائين. ومع هذا فان ذلك لا يخدش بوحدته، إذ العلم بهذه الصور هو عين علمه لذاته من دون اختلاف، بل انه عين الذات، كما ان الصور هي عين الذات ايضاً بحسب الحقيقة والوجود وإن كانت غيره من حيث التعين والتقيد[16]، لذا فعقله لذاته هو عقل جميع ما سواه، فيثبت ان علمه بالأشياء هو في مرتبة ذاته قبل وجود الأشياء، إذ تكون المعلومات على كثرتها وتفصيلها موجودة بوجود واحد بسيط مجمل، وهو معنى وجود الكثرة في الوحدة. فهو علم كمالي تفصيلي بوجه، واجمالي بوجه آخر[17].
فاعلى مراتب المشاهدات هي مشاهدة الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية الالهية، وبعد ذلك مشاهدتها في العقل الاول وغيره من العقول، ثم مشاهدتها في اللوح المحفوظ وباقي النفوس المجردة، ثم في كتاب المحو والاثبات، ثم في باقي الارواح العالية والكتب الالهية من العرش والكرسي والسماوات والعناصر والمركبات، حيث لكل من هذه المراتب كتاب الهي مشتمل على ما تحته من الاعيان والحقائق.
ولا شك ان هذا العلم يتسق مع السنخية بين المبدأ الأول والأشياء. أما القول بالعلم الشهودي فانه يقتضي بدوره افتراض السنخية بين وجود المبدأ وحضوره من جهة، وبين وجود الأشياء وحضورها من جهة ثانية. فمبرر الاعتقاد بالشهود الحضوري لوجود الأشياء يستند الى قاعدة العلم بالعلة مستلزم للعلم بالمعلول. فحال تعقل الباري تعالى لذاته المتمثلة بكل الأشياء، يستلزم عنه تعقل معلولها القريب، وبتعقله يتعقل معلول معلولها، وهكذا على التسلسل[18]. ويعتبر هذا التعقل عين الوجود والحضور والانكشاف أمامه تعالى، ويتصف بأنه اجمالي من وجه وتفصيلي من وجه آخر، فوجود العقول المجردة تعتبر علوماً تفصيلية له بذواتها، لكنها علوم اجمالية له بمعلولاتها، وكذا الحال في مرتبة النفوس بعد العقول، حتى يصل الأمر الى مرتبة العلم التفصيلي البحت كما في الطبايع المادية والجسمانية ذات الصور المنقوشة على لوح الهيولى. وبهذا فان مبدأ الوجود الأول يكون قد عقل الموجودات بعين واحدة قبل الايجاد أولاً وبعد الايجاد ثانياً. ففي الأزل يراها واحدة بشكل صوري، وبعدها يراها متكثرة بوجودها لا صورها[19].
هكذا أمعن صدر المتألهين في تمديد حكم السنخية، فهي تنطبق ليس فقط على علاقة الشبه بين الذات الإلهية وذوات الأشياء كما تدل عليه نظريته في العلم الإلهي الصوري، بل تنطبق ايضاً على علاقة الوجود والحضور للأشياء أمام ذات الحق، أزلاً وأبداً، كما دلت عليه نظريته في العلم الإلهي الشهودي. وهي طريقة تضع حداً للنزاع بين النظريتين المشائية والاشراقية. وقد نسبها فيلسوفنا بدوره الى الصوفية واعتبرها موافقة للقوانين الحكمية[20].
ان أهم ما قدمه صدر المتألهين من جديد بهذا الصدد هو أنه استطاع أن يزاوج بين الطبيعتين العقلية والجسمية للوجود وفق منطق السنخية، فهما متحققان معاً في جميع المراتب من أولها الى آخرها بلا تضاد ولا اثنينية. واذا كنّا قد تناولنا نظرية صدر المتألهين حول جسمانية الوجود في مقالة مستقلة[21]؛ فان ما تبقى هو التعرف على رأيه فيما يخص الطبيعة العقلية للوجود. فهو كغيره من الفلاسفة يعتبر الصور المادية في الخارج ظلالاً معكوسة عن الصور العقلية، فلكل شيء من الأشياء النوعية والمفاهيم المحدودة، كالانسان والماء والأرض والسماء، أنحاء وأطوار متفاوتة من الوجود والكمال، قد تكون طبيعية أو نفسانية أو عقلية أو أسمائية أو إلهية. فما نتعقله أو نتخيله من الأشياء، كتعقلنا للسماء مثلاً، يجعل في عقلنا سماء عقلية، وفي خيالنا سماء خيالية، وكل واحدة من الصورتين تعتبر حقيقة لا مجازاً، بل هما يعدان أولى وأكمل من صورة السماء في الخارج. اذ تتصف السماء في الخارج بأنها مموهة ومغشوشة بغواشي المادة الزائدة على ذاتها فتصبح عرضة للأعدام والظلمات والتغيّر والتجدد، بعكس ما عليه الصورتان (الخيالية والعقلية)[22]. لذا تكون الصور المادية ظلالاً للصور العقلية كما تصوره نظرية افلاطون في المثل.
وعليه لم يكن هناك فرق بين العلم والمعلوم؛ سوى أن المعلوم في مادة والعلم مجرد عنها. فالمانع للشيء أن يكون معقولاً بالفعل انما هو المادة ذاتها، والمانع للصورة أن تكون مدركة بذاتها انما هو نفس تلك الهيولى، فلولاها لكان الشيء عقلاً وعاقلاً ومعقولاً، وهو عبارة عن اتحاد العلم والعالم والمعلوم، فالعلم نفس المعلوم الذي هو عين العالم. فكل صورة ادراكية، كإن تكون عقلية، فوجودها في نفسها ومعقوليتها ووجودها لعاقلها شيء واحد بلا تغاير، فلا تباين للصورة في وجودها عن وجود عاقلها حتى يكون لكل منهما وجود. فاذا كانت الصورة معقولة فهي عاقلة أيضاً، ولا يتصور حصول المعقولية بدون العاقلية، وإذا كانت مجردة عما عداها فستكون معقولة لذاتها ولا تحتاج الى تقشير؛ ما دامت خالية من غشاوة العوارض المادية. هكذا يكون كل عاقل جميع معقولاته، وكلما ازدادت هذه المعقولات تصبح أشد عقلية وأكمل ذاتاً وأقوى وجوداً وأكثر آثاراً، وبذا تتفاوت درجات العقول المفارقة بعضها فوق بعض حتى ينتهي الأمر الى المصدر الأول المتمثل بواجب الوجود. بل الأمر لا يقتصر على اتحاد العاقل بالمعقول، انما يصدق كذلك على سائر الادراكات الأخرى، الوهمية والخيالية والحسية. فالجوهر الحساس يتحد مع الصورة المحسوسة بالذات، وكذا الجوهر الخيالي والوهمي، حيث يتحدان مع الصورة الخيالية والوهمية أيضاً[23].
لكن اذا استثنينا عالم الغيب الذي لا نعلم نوع الادراك الذي يحمله؛ فيمكن القول أنه لا يقتضي من وجود الصورة في العقل اتحادهما بالضرورة وكون احدهما عين الاخر. صحيح ان وجود الصورة بدون العقل غير ممكن، وكذا وجود العقل من دون صورة مستحيل، لكن يجوز كون احدهما يتوقف على وجود الاخر بلا دور ولا اسبقية بالذات والزمان، وحاجة احدهما للاخر لا كاحتياج العلة للمعلول، ولا كونهما معلولين لعلة اخرى، بل بينهما علاقة لزومية من وجه، كالعلاقة المفترضة بين النفس والبدن، ومثلها بين الصورة والمادة، من حيث احتياج احدهما الى الاخر وجوداً بلا دور. فقد ذكر صدر المتألهين ان بين البدن والنفس حاجة لدى كل منهما للاخر على وجه غير دائر ولا مستحيل، فالبدن محتاج في تحققه الى النفس؛ لا بخصوصها بل الى مطلقها، والنفس مفتقرة الى البدن؛ لا بحقيقتها المطلقة العقلية وانما بوجود تعينها الشخصي وحدوث هويتها النفسية، وبالتالي فان بينهما علاقة لزومية لا كمعية المتضايفين، ولا كمعية معلولي علة واحدة، بل كمعية شيئين متلازمين بوجه ما؛ كالتلازم بين المادة والصورة، فالبدن علة مادية للنفس بما لها وجود نفساني[24].
[1] انظر كتب صدر المتألهين: أسرار الآيات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات انجمن اسلامي حكمت وفلسفه ايران، 1402هـ، ص93ـ94 و109. والمظاهر الإلهية، تحقيق وتقديم وتعليق جلال الدين اشتياني، چابخانه خراسان في مشهد، ص62ـ63. ومفاتيح الغيب، ص87ـ88. وتفسير صدر المتألهين، ج4، ص166ـ167.
[2] أسرار الآيات، ص68ـ70.
[3] المظاهر الإلهية، ص63.
[4] لاحظ كتب صدر المتألهين: الاسفار، ج6، ص271ـ272. والشواهد الربوبية، ص41ـ42. ومفاتيح الغيب، ص87ـ88.
[5] انظر ما كتبه صدر المتألهين في: عرشية، ص240. وشرح اصول الكافي، كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسم والصورة.
[6] الشواهد الربوبية، ص352ـ353.
[7] الاسفار، ج7، ص236.
[8] الاسفار، ج7، حاشية كل من ملا هادي السبزواري ومحمد حسين الطباطبائي، ص236 ـ 237.
[9] محمد حسين الطباطبائي: نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الاسلامي لجماعة المدرسين بقم، 1404هـ، ص18.
[10] قارن ما جاء في صفحات كتاب: الاقطاب القطبية، لعبد القادر بن ياقوت الأهري، مقدمة وتصحيح محمد تقي دانش پژوه، انجمن فلسفة ايران، 1399هـ، ص24ـ25 وص34.
[11] تهافت التهافت، ص249ـ250.
[12] كتاب المسائل، من رسائل ابن عربي، ج1، ص9ـ10.
[13] انظر كلاً من: الاسفار، ج7، ص116ـ117. وعرشية، ص23. كذلك حاشية الأشتياني على المظاهر الإلهية لصدر المتألهين، ص38. كذلك: الدرة الفاخرة، ص41ـ42 و46ـ47. أيضاً: أصل الأصول، ص80ـ81 و93ـ97.
[14] الاسفار، ج6، ص247ـ249. ومفاتيح الغيب، ص326. والشواهد الربوبية، ص41.
[15] الشواهد الربوبية، ص40.
[16] الاسفار، ج6، ص261ـ262.
[17] نفس المصدر، ص271.
[18] المصدر السابق، ص273 ـ275. كذلك: المبدأ والمعاد، ص90.
[19] انظر كتب صدر المتألهين التالية: الاسفار، ج6، ص283ـ284. والشواهد الربوبية، ص52. والمبدأ والمعاد، ص122 و491. ومفاتيح الغيب، ص270. كذلك: تحفه، ص256 و251.
[20] الاسفار، ج6، ص284.
[21] انظر مقالة: هل كان صدر المتألهين مجسماً؟، موقع فهم الدين الالكتروني: http://www.fahmaldin.com/index.php?id=2225.
[22] لاحظ الاسفار، ج8، ص369 وحاشيتها.
[23] مفاتيح الغيب، ص582ـ583. والمبدأ والمعاد، ص85ـ86. وشرح رسالة المشاعر، ص245ـ255.
[24] الاسفار، ج8، ص382ـ383.