يحيى محمد
بداية يتعذر على النشاط الذهني المعرفي القيام بوظائفه من دون طرائق قبلية تعمل على إنتاج العلوم المختصة بهذا النشاط، سواء كان الأمر مع علوم الطبيعة، أو العقل، أو النص، أو غيرها. وفي الفهم الديني، لدينا فهم ونص وطريقة للفهم. فالطريقة تحدد الفهم، والفهم يحدد النص تبعاً لبعض الإعتبارات. فمثلما أن الفهم لا ينقل النص كما هو، فإن الطريقة لا تنقله كما هو، بل تُصوره بحسب قواعد ومسلمات قبلية تشكل محور النشاط للفهم وإنتاج المعرفة. والفارق بين النص الديني وفهمه، هو كالفارق بين الطبيعة وعلمها. ويشابه علم الطريقة ما يطلق عليه (فلسفة العلم) أو المنهج العلمي. فمثلما أن علم الطبيعة يتصور الكون ضمن إعتبارات وقواعد قد تؤدي إلى عدم المحاكاة والمطابقة بينهما، كذلك الحال في علاقة طريقة الفهم بالنص أو الخطاب، حيث أن ما تحمله من إعتبارات قبلية قد تجعل من الفهم الذي تؤسسه لا يطابق حقيقة ما عليه الخطاب. لهذا فإن إختلاف الطرائق والقنوات المعرفية غالباً ما يفضي إلى تباين طبيعة الصورة المرسومة للخطاب أو الفهم المنتزع منه. وعليه فإن من مبررات علم الطريقة هو أن المنهج هو الذي يحدد الفهم لا العكس، وبالتالي فهذا العلم كفيل بدراسة مناهج الفهم وشروطه وأدواته وأصوله.
وتدور إشكالية الفهم حول ما إذا كان من الممكن تحقيق التطابق بين الفهم والخطاب، كالذي تذهب إليه غالبية الإتجاهات التراثية، فهي إن لم تستكشف التطابق بين فهمها وبين النص اللغوي عبر الظهور والتبادر؛ فقد تستكشفه عبر ممارسة التأويل والإستبطان (أو الترميز)، وذلك بإسقاط قبلياتها الخاصة على النص وممارسة ما سنسميه بظاهرة (الحرف والعدول). وقد نعمم دائرة الإشكالية حول النص عامة، سواء كان دينياً أو غير ديني، كنصوص الأدب والشعر، فنتساءل: هل من الممكن أن يتحقق التطابق أم يتعذر ذلك كالذي يذهب إليه رجال ما بعد الحداثة في الغرب. أو أن الأمر يدعو إلى التفصيل كالذي نذهب إليه، إذ نميز بين الفهم المجمل والفهم المفصل، كما عالجنا ذلك في (منطق فهم النص)[1].
وفي القضية المعرفية الواحدة، عندما تتعلق بموضوع خارجي، لا بد من التمييز بين جانبين متحدين ومختلفين لها، أحدهما معرفي إبستيمي، والآخر موضوعي متوقف على طبيعة هذا الموضوع، فإن كان الموضوع وجودياً أو انطولوجي، فإن التمييز يكون بين ما هو إبستيمي وانطلوجي، وكذا إن كان الموضوع واقعياً فإنه يخضع لنفس المعيار. والشيء ذاته يصدق مع النص، بإعتباره من الموضوعات الخارجية.
ففي جميع الأحوال أن القضية المعرفية الواحدة يتداخل فيها الجانبان، أحدهما يعبّر عن المفهوم المعرفي الإبستيمي الصرف، وهو مفهوم منطوٍ على ذاته ومعلّق لا يشير - في حد ذاته - إلى شيء آخر خارجي. فعندما تقول إنني أرى شجرة فحسب، لا تعبّر هذه الرؤية بالضرورة عن أمر حقيقي مناط بالشجرة، فقد يرى الإنسان شجرة في منامه، أو في أوهامه. فنحن أحياناً نستيقظ للحظات من النوم في الليل ونرى أشياء أمامنا نستغرب منها، كإن نرى شخصاً واقفاً في العتمة أو غير ذلك، وبالتمعن – وبمساعدة الذاكرة - نكتشف أن ما نراه ليس سوى خزانة الملابس مثلاً. وكثيراً ما يحصل هذا النوع من المعرفة لدى علماء الطبيعة عندما يزاولون أجهزة رصد جديدة يشاهدون من خلالها أشياء معينة، فقد يفاجؤون بمشاهد غريبة لا يعلمون في البدء إن كانت تعبّر عن مشاهدات حقيقية تشير إلى أشياء خارجية، أو أنها أوهام ناتجة عن طبيعة تركيب الأجهزة الجديدة. وبالتالي فهذه المعرفة معلّقة لا تشير إلى شيء محدد حتى يتبين الأمر عبر إختبارات مختلفة لتلك الآلات القياسية. وحتى طالب البحث العلمي عندما يستخدم لأول مرة الأجهزة الجديدة للتدريب فإنه لا يعرف شيئاً عما يشاهده ويرصده، بل في أغلب الأحيان أنه يفاجئ بأن ما يتصوره نظرياً لا يجده عملياً. فالمشاهدات التطبيقية تحتاج إلى نوع من المران والممارسة لفهم ما يتم لحاظه أو حتى تأويله. وقد تبدو بعض الأشياء المألوفة حسياً شيئاً مختلفاً لدى استخدام أجهزة الفحص، فمثلاً أن بعض الأوراق النباتية الخضراء تبدو خلاياها حمراء اللون تحت المجهر، أو أنها مليئة بالحبيبات الحمراء، وهي بالنسبة للمبتدئ غير متوقعة. عموماً تصورْ نفسَك وأنت تجلس على متن طائرة لأول مرة وتنظر إلى الخارج بعد تحليقها في الجو، فقد ترى أمامك عبر النافذة طريقاً مبلطاً لا يتغير وضعه ولا شكله. طبعاً من المحال أن تتوقع بأن ما تراه يمكن أن يكون شارعاً بالفعل؛ لإعتبارات عدم التغير في الوضع والشكل، طالما أن طائرتك محلقة في الجو، وبالتالي فسوف لا تجد تفسيراً غير أن ما تراه هو جناح الطائرة المحاذي لمقعدك. لكن هذا التحقق الحاصل عندك بسبب الخبرات العامة، قد لا يكون متوافراً عندما يُفاجأ الباحث العلمي لأول مرة بظواهر بعيدة لا تتفق مع مثل هذه الخبرات، كتلك المتعلقة بالجسيمات المجهرية الدقيقة والمجرات البعيدة، وهي ما تستدعي التوقف وإجراء المزيد من البحث لمعرفة ما يُرصد إن كان له حقيقة فعلية، أو أنه نتاج ما نستخدمه من آلات قياسية غير عادية تثير الوهم.
أما الجانب الآخر فهو يشير إلى الموضوع الخارجي تبعاً للإعتقاد بأن لهذه المعرفة نوعاً من المصداقية دون أوهام أو أضغاث أحلام، فهذه المعرفة متجهة لا يرد فيها التوقف والتعليق، حتى وإن تبين فيما بعد أنها خاطئة أو كاذبة.
وعندما يكون النص موضوعاً للبحث في القضية المعرفية، فبالإضافة إلى ما يرد عندنا من المفهوم المعرفي الإبستيمي الصرف؛ ثمة الجانب الآخر من المعرفة الذي يشير إلى النص ذاته، ونطلق عليه (المفهوم النصي)، وهو المفهوم المعبّر عن دلالة النص بنحو ما من أنحاء الترجيح أو التطابق. فقد يراد من هذه الإشارة إستكناه النص وإستكشافه دون حد التطابق، كما قد يراد منها تحقيق الأخير، وفي كلا الحالين لا بد من إستكشافه عبر المظهر المعرفي، إذ لا سبيل للتحقق من الموضوع إلا به.
يبقى أن الفارق بين النص كموضوع في ذاته، والفهم الخاص بذاتنا، هو إلى حدٍ كبير يمثل الفارق بين «الشيء في ذاته» و«الشيء لذاتنا». وإذ نقول «إلى حد كبير»، فإنما نقصد بأن الفارق بين الأمرين لا يصل إلى حد القطيعة التامة. إذ لا مانع من أن يتطابق الشيئان «في ذاته ولذاتنا»، وإن كان ذلك من الأمور التي يصعب تحقيقها على وجه القطع إلا في قضايا محدودة، كتلك التي تعدّ جوهر الخطاب الديني ومبرر وجوده في الوقت نفسه، واقصد بذلك قضية «التكليف». فهي بمثابة البديهة في الخطاب، بما تقتضيه وتتضمنه من محاور أساسية؛ كوجود المكلِّف (الله)، والمكلَّف (العبد)، والواسطة بينهما (الرسالة)، والحساب كثمرة للتكليف (الآخرة أو القيامة)...الخ. فالتكليف هو القضية المركزية التي يجب أن تكون محل اطباق وموافقة جميع أنواع الفهم المنتزعة من النص أو الخطاب، إذ بدون الإعتراف بهذه القضية لا يعدّ الخطاب خطاباً حقيقة، لأنه يغدو فارغاً من مضمونه، وبالتالي يؤدي إلى انهيار جميع ما يقام عليه من فهم. وعليه فالضرورة تقتضي الإعتراف بهذه القضية المحورية؛ كشرط لإجتياز الفهم قنطرة (الموافقة) واعتباره مقبولاً من الناحية المبدئية. أما السبب الذي جعلنا نعدّ هذه القضية محل قطع وتطابق بين الشيئين «في ذاته ولذاتنا»، فهو أن القرائن النصية الدالة عليها كثيرة جداً إلى الحد الذي يصعب احصاؤها تبعاً لمنطق الإحتمالات، رغم أن تفاصيلها الخاصة تخضع للترجيحات الإحتمالية من هنا وهناك. وقد بيّنّا ما لقيمة هذا المنهج المنطقي في استكناه العديد من الصور المستخلصة من النص، كما في كتاب (منطق فهم النص).
ونحن نعبّر عن الطرائق والأجهزة المعرفية لتراثنا بأنها قنوات إجتهادية تتنافس فيما بينها على تمثيل الخطاب الديني أو جعله يطابق تصورها. وأهم عامل يجعلها تتصف بهذه النزعة من الممارسة الإجتهادية هو أن نص الخطاب ذاته يمتاز بخصوصية فريدة هي قابليته على المطاوعة لتقبل مختلف الإنساق والإجتهادات، فهو حمّال ذو وجوه كما يُنقل عن الإمام علي. وهناك من القدماء من أدرك هذه المطاوعة، كما هو الحال مع الماوردي الذي يقول: «إن كلام كل كتاب وأخبار كل نبي لا يخلو من إحتمال تأويلات مختلفة، لأن ذلك موجود في الكلام بنفس طباعه. ومعلوم أن الكلام كلما أفصح وأعرب وأحسن نظماً وأبعد مخرجاً كان أشد إحتمالاً لفنون التأويلات وضروب التفاسير، ولا كلام أولى بهذه الصفات من كلام الله جلّ ذكره، إذ كان أفصح الكلام وأوجزه وأكثره رموزاً وأجمعه للمعاني الكثيرة والأحرف اليسيرة، وكان كتابنا الذي هو القرآن أولى الكتب وأخصها بهذه المعاني، إذ كانت اللغة التي أنزل الله بها أفصح اللغات، وكان كتابنا جعل نظمه حجة على قومه وعلماً لنبيه، ولا بد في الدين من وقوع الحوادث التي يحتاج إلى النظر فيها، والنوازل التي لا يستغني العلماء عن استخراجها، وعن خبر يشكل معناه، وأثر تختلف التأويلات في فحواه على مر الأيام، فإذا دفعوا إليه اختلفت الآراء في المسائل، وتفرقت الأهواء في النوازل، وصار لكل رأي تُبَّع ومشرّعون وأئمة ومؤتمون. ثم مع طول الزمان ازدادت لها أنصار ومتعصبون وأعوان ومحامون، فكان سبباً لإختلاف الأمم وانشقاق عصاها»[2]. وعلى نفس هذه الشاكلة رأى العديد من رجال المذاهب الإسلامية بأن دلالة النص لا تفيد إلا الظن، أو أنها مما تقبل التأويل والإحتمال، كما هو رأي الغزالي والفخر الرازي والشريف المرتضى وغيرهم. بل يصل حدّ المطاوعة عند البعض إلى أبلغ من ذلك، كما هو الحال مع قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري (المتوفى سنة 168هـ)[3]، إذ يقول: «إن القرآن يدل على الإختلاف. فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب. ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بذلك فهو مصيب، لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملت معنيين متضادين. وسُئل يوماً عن أهل القدر وأهل الإجبار؟ فقال: كلٌّ مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله وهؤلاء قوم نزّهوا الله.. وكذلك القول في الأسماء، فكل من سمى الزاني مؤمناً فقد أصاب، ومن سماه كافراً فقد أصاب، ومن قال هو فاسق وليس مؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو منافق ليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب، ومن قال هو كافر مشرك فقد أصاب، لأن القرآن قد دل على كل هذه المعاني.. وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه، والقول بالسعاية وخلافه، وقتل المؤمن بالكافر ولا يقتل مؤمن بكافر، وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب.. ولو قال قائل أن القاتل في النار كان مصيباً ولو قال هو في الجنة كان مصيباً، ولو وقف فيه وأرجأ أمره كان مصيباً، إذ كان إنما يريد بقوله أن الله تعالى تعبّده بذلك وليس عليه علم الغيب. وكان يقول في قتال علي لطلحة والزبير وقتالهما له أن ذلك كله طاعة لله تعالى»[4].
وحديثاً أدرك العديد من الباحثين والمستشرقين تلك المطاوعة، فالمستشرق (جولد تسيهر) يقول: «كذلك يصدق على القرآن ما قاله في الانجيل العالم اللاهوتي التابع للكنيسة الحديثة (پيتر فير نفلس): كل امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس، وكل امرئ يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه»[5]. كذلك يقول المستشرق (هورتن) وهو استاذ فقه اللغات السامية بجامعة بون: «إن روح الإسلام رحبة فسيحة بحيث أنها تكاد لا تعرف الحدود، وقد تمثلت كل ما أمكنها الحصول عليه من أفكار الأمم المجاورة، فيما عدا الأفكار الملحدة، ثم أضْفت عليها طابع تطورها الخاص»[6].
إذاً ليست هناك قناة معرفية إلا وتمارس دورها الإجتهادي لفهم الخطاب. فحتى القناة التي تشحن حمولتها من «النقل» لا تخلو من الممارسة الإجتهادية. فهناك إعتبارات مبدئية وتصورات قبلية تقوم عليها آلية الفهم أو تتداخل معها، رغم أنها لا تتطابق بالضرورة مع الخطاب كـ «شيء في ذاته». فليست العملية مجرد نقل آية أو رواية كما هي، بل هي هضم وتحليل وتركيب لمادة النص، وهو المعني بالفهم. وتجري هذه العملية طبقاً لتصورات بعضها قبلية وبعضها الآخر يتداخل مع الفهم ذاته، كالأخذ بالظهور العرفي واللغوي، وإعتبار الشريعة بينة لا تحتاج إلى تبيين ولا تأويل، وكونها صادقة ومطلقة لا تحد بزمان ولا مكان، وما إلى ذلك من المفاهيم الكلية القبلية أو المتحدة بالفهم. ففي الأساس تستند القناة النقلية البيانية إلى قاعدة الظهور اللفظي، أي أنها تعتمد على الدلالات التي يبديها اللفظ اللغوي. لكن لهذا اللفظ حالات مختلفة من حمل المعنى، فتارة يُعوَّل عليه طبقاً للنشاط الإنتقائي بفعل ما يحمله من معاني عديدة، إذ يتم إنتقاء المعنى المراد وسط العديد من المعاني، وغالباً ما يكون هذا الإنتقاء بفعل المنظومات القبلية أو لأدنى مناسبة تُذكر، وهو الحال الذي يمارسه العرفاء وبعض الإتجاهات المعاصرة بطلاقة، وتستعين لذلك بقاعدة نفي الترادف في اللغة ليسهل عليها اختيار المعنى المراد تبعاً للنشاط القبلي. كما يُعوَّل على اللفظ تارة أخرى وفقاً لما يُعرف بالظهور اللغوي والعرفي كقاعدة عامة مستخلصة بفعل بعض القبليات[7]، والتي بفعلها يتأسس فهم النص، سيما ما يتعلق بالعرف الخاص بواقع النزول، كما تزاوله القناة النقلية البيانية. والأخيرة بهذا الإعتبار لا تستند في فهمها – غالباً - إلى عناصر خارجية كالعقل والواقع، كما أنها تنفي - ضمنياً - أن يكون فهم الخطاب مقتصراً على الخاصة، كذلك أنها تنفي أن يكون الله تعالى قد أنزل خطاباً تفهمه الأجيال اللاحقة البعيدة دون المشافهين الحاضرين وقت النبوة، أي خلافاً لما يزعمه دعاة القراءة العلمية – لعلوم الطبيعة – للقرآن، كما في عصرنا الحاضر. وكل ذلك له علاقة بالقبليات التي يشتغل عليها علم الطريقة.
وقد سبق لإبن رشد أن أدرك الشكل الإجتهادي للمذاهب بما فيها المذهب النقلي، منكراً ما يزعمه كل منها من «أنها الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع»[8]. فالجميع واقع تحت (كلمة سواء)، وبالتالي فمن كان منهم بلا خطيئة فليرمِ غيره بحجر!.
هكذا فمادامت الأجهزة المعرفية تعبّر عن قنوات إجتهادية بتأسيسها القبلي للنظر ومن ثم فهمها للنص، فإن من الطبيعي أن لا يكون لأي منها حق النيابة المطلقة للنص أو الخطاب، فضلاً عن الاستبداد بالنطق باسمه كحق فردي مطلق. فكونها قائمة على تصورات قبلية أو متداخلة مع الفهم، وكونها مختلفة فيما بينها، كل ذلك يجعلها موضع بحث ونظر، سيما وأن النص أو الخطاب كموضوع هو «شيء في ذاته» لا يطابق بالضرورة آلية الفهم المطروحة كـ «شيء لذاتنا». وهذا يعني أن وجود أجهزة فكرية جاهزة عرفها التاريخ لا تتسم بالضرورة بروح المطابقة والمصادقة إبستيمياً مع الخطاب.
وطبقاً لذلك يصبح من الخطأ الجسيم ما يتصوره البعض حديثاً بأن للنص الديني وضوحاً يجعله حاملاً للنظريات الكونية والفلسفية، كما هو الحال مع الدكتور علي سامي النشار الذي يقول صراحة: «ومن الخطأ البالغ أن يقال أن القرآن خلو من النظريات الكونية والفلسفية وأنه لم يرتد آفاق الوجود لكي يحددها في صورة نهائية». ثم يقول: «.. ولكن من المؤكد أنه لم يترك نظرية أو مذهباً فلسلفياً شغل به العقل الإنساني بدون أن يبحث فيه، وأن يضع أصوله العامة». وهو يذكر بعض الأمثلة؛ منها: فكرة خلق الأشياء من لا شيء وايجاد العالم من العدم، منكراً فكرة قِدم المادة، ومعلناً بدء الزمان ونهايته «وبهذا أنكر سرمدية المادة وعدم فنائها»[9].
لكن إذا كان النشار توصل فيما توصل إليه، من أن القرآن الكريم يثبت فكرة خلق العالم من العدم، فقد سبق لإبن رشد أن توصل من منطق القرآن ذاته إلى نقيض هذه الفكرة. فهو في البداية أنكر أن يكون في القرآن آية واحدة تنص على أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، أي مع عدم وجود شيء آخر معه. بل واستظهر بعدد من الآيات أن العكس هو الصحيح، وبالتالي فهو يرى بأن العالم وإن كان حادثاً من حيث صورته، إلا أنه كالقديم من حيث المادة، كالذي يبدو من قوله تعالى: ((هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء))[10]. فقد استظهر إبن رشد بأن الآية دالة على وجود أشياء سابقة لوجود صورة العالم، كالماء والعرش والزمان الذي يقيس وجودهما. كذلك هو الحال مع قوله تعالى: ((ثم إستوى إلى السماء وهي دخان))[11]، معتبراً خلق السماء كان من مادة سابقة هي الدخان[12].
مع ما يلاحظ إن الموقف السابق لإبن رشد، إذا ما أُخذ على ظاهره، فإنه لا يناسب حقيقة معتقده الفلسفي في ثبات السماء وقدمها، وكذا عدم انفصال صور الأشياء الأرضية عن المادة أو الهيولى بأي شكل من الأشكال. صحيح أن صور الأشياء عنده حادثة، لكن من حيث لا بداية حاسمة للحدوث، وبالتالي فالأشياء وإن كانت حادثة من حيث جزئياتها الفردية، إلا أنها قديمة من حيث النوع، فكل فرد حادث يسبقه فرد حادث آخر وهكذا من غير بداية أو نهاية. والموقف ذاته يتكرر مع مدرسة إبن تيمية، فهي أيضاً ترى الخطاب الديني - عموماً - دالاً على عدم وجود بداية للخلق، مستشهدة عليه بصفة (الفعّال)، كما في قوله تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[13]، وموظفة لذلك قول أحد علماء السلف، فكما نُقل عن عثمان بن سعيد الدارمي أنه قال: «كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل»[14].
مهما يكن فالواقع أن الصور الإجمالية في القرآن الكريم تجعل من الصعب أو المستحيل التقرير بما هو أمر حاسم يعود إليه، فمع أنه جاء ذكر الماء والعرش والدخان كموجودات سابقة على الأرض والسماء، إلا أنه لم يتبين أمرها على وجه القطع إن كانت حادثة أو قديمة. وبالتالي فمن السذاجة القول بأنه يمكننا التوصل بيقين إلى نظريات مبثوثة في القرآن من هنا وهناك، ما لم تكن قرائن الإستقراء أو الإحتمال كثيرة في الوقت الذي تخلو فيه من وجود المحور المنافس لها. وحتى في هذه الناحية فإن الصورة الإجمالية هي البادية غالباً، مما لا يدع مجالاً لإعتبار القرآن أو الخطاب محلاً لحمل النظريات «الممنطقة». وقد كشفنا في (جدلية الخطاب والواقع) عن خطأ الطريقة التقليدية التي حوّلت الخطاب الديني إلى خطاب «ممنطق» يكتفى به في الكشف عن أحوال الأشياء بصورة قطعية، كتلك التي تتعلق بغاية خلق النجوم والعلم بالأرحام ضمن العلوم الخمسة المعتقد بأنها مستأثرة عن الخلق، وكذا مفهوم القوة في آية رباط الخيل: ((وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..))[15]، ومثل ذلك ما يتعلق بالأنظمة الإجتماعية؛ كنظام الرق والجزية والخلافة وتوزيع الأراضي وغنائم الحرب وغيرها مما يخالف الكثير من تصوراتنا الحديثة عن فهم النص أو الخطاب[16].
وعليه فنحن في الواقع نعيد من وجه موقف ذلك الإخباري الذي يقول بأن القرآن كله متشابه وأنه يتعذر معرفة مدلول آياته وسوره بما في ذلك سورة التوحيد، وهذا ما جعله مثاراً للعجب من قبل الأصوليين لظنهم أن ذلك من الواضحات[17].. بل هناك من أنكر وجود النص القطعي أو الصريح، وحكاه الباجي عن أبي محمد بن اللبان الأصفهاني، وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن أبي علي الطبري أنه قال: يعز وجود النص – القطعي أو الصريح - إلا أن يكون كقوله تعالى: ((يا أيها النبي)) وقوله: ((قل هو الله أحد))، وجاء في (المنخول) قول الأصوليين: لا يوجد النص في الكتاب والسنة إلا في ألفاظ متعددة، كقوله تعالى: ((قل هو الله أحد)) وقوله: ((محمد رسول الله))، وقول النبي (ص): «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا»، وقوله: «ولا يجزي عن أحد بعدك»[18]. ومن القدماء من اعتبر القرآن الكريم ورد على الإقتضاب كما هي طريقة العرب من الإنتقال من موضوع إلى آخر دون أن تكون بينهما مناسبة، كما هو رأي أبي العلاء محمد بن غانم[19]. ومثل ذلك ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وهو أن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يأتي ربط بعضه ببعض. ومن ربط ذلك فهو متكلّف[20].
والسؤال الذي يرد بهذا الخصوص هو أنه لو كان القرآن الكريم من الواضحات كما ينبغي؛ فلماذا - إذاً - هذا الزخم الذي لا ينتهي من الفهم المختلف والمتناقض في مسائل تعد واضحة تماماً مثل مسألة التوحيد التي هي على رأس أصول الدين وأهمها جميعاً؟ إذ تجد مفهوم التوحيد مختلفاً حوله عند الكلاميين، كما ويختلف عند أهل الحديث، وهو غيره عند الحشوية، وخلافه عند الفلاسفة، ومثله عند الصوفية والباطنية وهكذا.. وينطبق هذا الحال على مفهوم العدالة الإلهية، فرغم وضوحها إلا أن عليها خلافاً يجعل نظريات العلماء لا تقل عن ثلاث، كالخلاف الحاصل بين الفلاسفة والعرفاء من جهة، وبين الأشاعرة من جهة ثانية، وبين هؤلاء جميعاً من جانب، والمعتزلة والإمامية الإثني عشرية والزيدية من جانب آخر، ناهيك عما يمكن أن يقدّمه أهل النقل والبيان من مفاهيم مستمدة من النصوص بهذا الصدد.
لكن حين نقول بأننا نعيد موقف ذلك الإخباري لا يعني أننا نسلم معه بأن الوضوح مضمون عند سبرنا للأحاديث وأقوال السلف. كما لا يعني أننا نسلم معه بأن القرآن خلو من كافة مستويات الوضوح والبيان، فهو ليس رموزاً ولا ألغازاً، لا سيما إذا ما عولنا على القرائن التي يثيرها هنا وهناك والتي تكشف عن فهم بعض الدلالات العامة والخصوصيات، وإن كان التفصيل يحتاج إلى نوع من المعايير المساعدة لفهمه والتي ينتج عنها إختلاف التصورات لإختلاف الأدوات والمعايير كما سنعرف. أما الموقف العام فهو أن التفاصيل تظل مفتقرة إلى البيان؛ لأن قرائن الوضوح التام قد ذهبت مع ذهاب عصر الرسالة النبوية، لا سيما عندما كان القرآن خطاباً مشافهاً قبل أن يتحول إلى نص مدوّن، إذ يعاني الأخير من فقر الفهم مقارنة بغنى الخطاب المشافه، وذلك لمشاركة العديد من الدلالات الأخرى غير اللغوية في إفهام السامع عند الكلام المشافه، وهو ما يفتقر إليه النص، وبالتالي كان فهم النص أقل قدراً من فهم ذلك الكلام. فللواقع أثر بليغ في تحديد معنى الخطاب مما يفتقر إليه النص المكتوب. وهذا يعني إن نص القرآن لا يسعه منافسة الخطاب القرآني المنزّل في التعبير وايصال الدلالة الكافية للمتلقي، فالأخير أكثر غنى من الأول تبعاً لقانون (الإفتقار النسبي) الذي فصلنا الحديث عنه خارج هذا الكتاب[21].
وعلى العموم أنه إذا كان من المتفق عليه - تقريباً - بأن قضايا الفقه الجزئية تشهد على الإفتقار البياني وضعف الوضوح، فإن الإختلافات الواسعة حول قضايا العقائد والتفسير وغيرها؛ كلها تشهد هي الأخرى على ذلك بما لا مزيد عليه.
الأنساق المعرفية وظاهرة العدول
إن إعتبار القنوات والأجهزة المعرفية إجتهادية يثير أمامنا مشكل «المقياس» الذي يتم به ترجيح وتقييم تأسيسها وممارستها لآلية فهم النص أو الخطاب. فنحن نعترف أنه ليس لدينا مقياس مطلق وموحد يمكن إعتماده في عملية الترجيح والتقييم، إضافة إلى أن المقياس ذاته غير محايد. فحيث إنه ليس من الممكن مسح الطاولة والتحرر من كافة أصنام الوهم البيكوني، أو السلطات المعرفية القبلية المنضبطة منها وغير المنضبطة، فإن مآل المقياس بإعتباره أحد هذه السلطات القبلية هو خدمة بعض الأجهزة على حساب البعض الآخر، خصوصاً إذا ما كان موجهاً بحسب رغباتنا الذاتية خلاف «موضوعية» التقييم.
لكن ذلك لا يمنع من وضع بعض الشروط والإعتبارات التي يتقبلها «الوجدان العلمي» لإتخاذ الشكل المناسب للمقياس المشار إليه، ولو كخطوة أولية تحتاج إلى ما يتممها كالذي عالجناه في (منطق فهم النص).
فمن المعلوم، أن قراءتنا للنصوص، ومنها النصوص الدينية، هي قراءة «تأويلية» أو هرمنوطيقية، يتأثر فيها الفهم بالمعاني الثقافية واللغوية الحاضرة. وقد تتضخم هذه الممارسة التأويلية عندما تتجسد بظاهرة الحرف والعدول، أي الحرف والعدول عن المعطيات الظاهرة أو البادية لنا، ولو بعد التحقيق. ومن الناحية المبدئية، إن غرض كل جهاز معرفي هو تقديم اطروحته كمنظومة ذات أنساق متسقة تعبّر عن صور موافقة أو مطابقة لروح الخطاب. ولما كان تطابق النسق مع «نص الخطاب» لا يتحقق كلياً دائماً، لذا فوظيفة الجهاز المعرفي هي أنه يعزو «العدول والإنحراف» إلى النص عن روح الخطاب وحقيقته، مع تقديم ما يبرر حالة «الإلتواء» المفترضة في النص قياساً بالنسق الصوري المسلّم به، أو تبعاً لتأسيس النظر القبلي.
بالضبط كما يحصل مع الفهم المعاصر للهندسة الكونية. فطبقاً للمذهب الإصطلاحي الذي أذاعه الفرنسي الرياضي (بوانكاريه) أنه لا فرق من حيث الصحة والإتساق بين فرضين متعارضين ومتكافئين يصفان شكل الطبيعة المتمظهر بالهندسة اللاإقليدية كما يبدو أحياناً. فبحسب هذا التمظهر فإنه يمكن القول بأن هندسة الطبيعة لا إقليدية، فيما لو لاحظنا مثلاً إنحراف الأشعة الضوئية عن استقامتها، كالذي تنبأ به أينشتاين من أن أشعة الضوء التي تمر بالقرب من الشمس يصيبها الإنحراف بفعل المجال الجاذبي، الأمر الذي تمّ لحاظه لأول مرة وقت كسوف الشمس (يوم 29\5\1919)[22]. لكن يمكن القول – أيضاً - بفرض معارض ومنافس لهذا النسق الصوري، وهو أن هندسة الطبيعة إقليدية، إلا أن هناك قوى كونية تحرف الأشعة الضوئية عن استقامتها وتجعلها تبدو وكأنها لا إقليدية[23]. وقد كان بوانكاريه يعتقد بأن الفيزيائيين سوف يفضلّون الاحتفاظ بالهندسة الإقليدية باعتبارها أكثر بساطة وملائمة من اللاإقليدية[24]، مثلما أشار أينشتاين وغيره إلى ذلك[25]، لكن لم تمضِ إلا سنوات قليلة حتى ظهرت نظرية النسبية العامة (سنة 1915) وهي تتبنى الهندسة الأخيرة على خلاف ما توقعه بوانكاريه، إذ رغم ما ظهر من اعتراضات قوية على أينشتاين لإقتراحه الهندسة الجديدة للمكان، سيما وأنها بدت خلاف التوقعات والحس المشترك العام common sense، إلا أن الفيزيائيين أخذوا يتقبلونها ويرجحونها على الأولى فيما بعد[26]. وقد أصبح من المقرر بأن الهندسة الإقليدية رغم أنها أبسط من اللاإقليدية على الصعيد الرياضي، إلا أنها أعقد من غريمتها على الصعيد الفيزيائي، وهو ما جعل الفيزيائيين يميلون إلى الأخيرة بفضل صاحب النظرية النسبية[27]. ونستثني من ذلك - إلى وقت قريب - عدد قليل من الفيزيائيين ظلوا يعتبرون نظرية أينشتاين معقدة ومجردة، لهذا حسبوها خاطئة لتصوهم بأن الحقيقة الفيزيائية ينبغي أن تكون مفهومة ببساطة، وبالتالي فقد حاولوا الرجوع إلى فكرة المكان والزمان المطلقين كما بشّر بهما نيوتن من قبل[28]. مما يعني أنه لا يمكن إلغاء إحتمال صحة الهندسة الإقليدية كلياً. وبحسب وجهة نظر بوانكاريه فإنه ليس للهندسة الإقليدية ما تخشاه من تجارب جديدة، وكذا الأمر مع الهندسة اللاإقليدية، فما من تجربة البتة تتناقض مع مصادرة إقليدس، وما من تجربة البتة – في قبال ذلك – تتناقض مع مصادرة لوباتشفسكي، وبالتالي فكلا التأويلين يمكن أن يكون صحيحاً، والإختلاف بينهما يعود إلى البساطة وما يلائمنا، حيث التأويل بحسب الهندسة الإقليدية أكثر بساطة وملائمة بالنسبة لنا عند بوانكاريه[29]، وإن ظهر أن الأمر معكوس منذ أينشتاين وحتى يومنا هذا. وعليه فمن وجهة نظر الباحث (الإصطلاحي) أن الكشف المنهجي يثبت بأن النتائج التجريبية ليس بإمكانها القضاء على النظرية وقتلها. فكل نظرية يمكنها أن تنفذ إما بإضافة بعض الفروض المناسبة، أو بإعادة صياغتها بشكل مناسب[30].
كذلك هو الحال مع الإنساق الصورية التي تجتهد للوصول إلى مطابقة حقيقة الخطاب، إذ يمكن أن تكون متعارضة ومتنافسة، الأمر الذي يعني أن أي نسق صوري قد يجد لنفسه مكاناً للدخول والتعبير أو التمثيل عن واقع الخطاب وحقيقته، حتى لو أدى ذلك إلى إضفاء صفة الحرف والعدول على نص الخطاب لأسباب هي بمثابة القوى الكونية المؤثرة على أدوات القياس أو الأشعة الضوئية، كما في مثالنا الآنف الذكر.
فعلى سبيل المثال أن طريقة الإنساق العقلية ترى النص يعتريه العدول عن حقيقة روح الخطاب لتعارض النص مع النسق العقلي الذي تؤمن به سلفاً، وهو ما يجعلها تفترض حكمة تقف خلف هذا العدول، من قبيل إعتبار النص إقناعياً خطابياً جاء لعامة الناس دون الخاصة كما يقول الفلاسفة التقليديون من أمثال إبن سينا وأتباعه[31]، أو إعتبار علّة الإنحراف هي لحث المكلفين على التفكير والنظر في النص كالحال مع طريقة أهل الكلام ومن على شاكلتهم[32]، أو لإعتبارات وأغراض أخرى.
إن إضفاء صفة العدول على النص أو ما يلابسه من ظروف يفضي إلى تعارض الإنساق الصورية حتى داخل الدائرة المعرفية الواحدة. فإختلاف قضايا التأسيس القبلي للنظر وإختلاف أساسيات الفهم ذاته، كل ذلك يجعل من الإنساق بعضها يعارض البعض الآخر، مما يعرضها إلى خلع ظاهرة الحرف والعدول على النص أو ما يلابسه لأجل الحفاظ على الإتساق مع قضايا التأسيس وأساسيات الفهم.
وإذا كان هذا الأمر يصدق مع الممارسات التي يقوم بها «الجهاز العقلي» بأصوله المتعددة التي يفرضها على فهم الخطاب، الأمر الذي ينتج عنه تضارب إنساق الفهم لتضارب حالات الحرف والعدول المنزوعة على النص، مما تبرره ظاهرة التضاد في تلك الأصول العائدة إلى التأسيس القبلي للنظر، كما هو الحال مع الخلاف العقلي لمسائل الحسن والقبح والقضاء والقدر والعدل والجور وغيرها من مسائل التأسيس القبلي.. فإذا كان هذا الأمر يصدق مع الممارسات العقلية للفهم، فإن ذات الأمر يصدق مع الممارسات البيانية النقلية أيضاً، كما هو الحال مع الخلاف بين الشيعة والسنة حول الإمامة أو الخلافة.
فالنسق الشيعي يعبّر عن فكرة حضور الوصية على ولاية الأمر لعلي بن أبي طالب عبر استشهاده بالنص الثانوي (الحديث)، خلافاً لما عليه النسق السني الذي ينفي مثل هذا الحضور من خلال أخذ إعتبار الظروف الملابسة للنص المذكور، فضلاً عن غياب الفكرة لدى النص الأساسي (القرآن). وطبقاً لهذا التعارض فإن الإتجاهين يمارسان نوعاً من خلع العدول على النص أو ملابساته الظرفية. فلو توقفنا عند حدود ما اتفق عليه الطرفان في الغالب لوجدنا ظاهرة الحرف والعدول لدى الإتجاه السني تلوح النص الثانوي ذاته، سيما حديث الغدير المتفق عليه غالباً[33]، إذ النظر السني لا يراه نصاً دالاً على ولاية الأمر لعلي كما يوحي إليه الظاهر، كما لا يرى هذه الدلالة في سائر النصوص التي تدعمه من هنا وهناك، كحديث المنزلة وحديث السفينة الناجية وحديث الثقلين وحديث مدينة العلم[34]، وغيرها من الأحاديث المعتبرة لدى الإتجاه السني[35]. أما لدى الإتجاه الشيعي فنجد أن ظاهرة العدول لا تلوح النص المشار إليه، بل تلوح النص الأساسي (القرآن)، من حيث عدم وضوح الفكرة فيه رغم خطورتها وأهميتها، إذ تأتي هذه الأهمية بعد النبوة والرسالة لنبينا (محمد بن عبد الله) المشار إليها صراحة في مواقف كثيرة من النص الأساسي (القرآن) خلافاً للحال مع الولاية المذكورة. كذلك نجد أن ظاهرة العدول تلوح الملابسات الظرفية المناطة بالنص الثانوي، والتي أهمها أمارة إرادة النبي (ص) لأن يكتب أمراً يضمن السلامة في الدين للمسلمين وهو مسجّى على فراش الإحتضار، لكنه لم يفعل ذلك لبعض الظروف[36]، مما يوحي بأنه أراد تعيين ولاية الأمر دون أن يفعل، ودون أن يكون لإرادة هذا التعيين سابقة، الأمر الذي يعارض الفهم السابق المتعلق بحديث الغدير.. كذلك عدم احتجاج الإمام علي بالنص، مع أنه قد احتج بحقه. وأيضاً إجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لتداول أمر الخلافة بينهم قبل تحرك المهاجرين إليهم كردّ فعل[37]، مما يعطي إنطباعاً بعدم وجود تخطيط سابق للأمر، لا من جهة المهاجرين ولا من غيرهم. أيضاً غياب ذكر النص في السقيفة وعدم احتجاج الأنصار به مع حاجتهم الماسّة إليه حين يأسوا من تحقيق النصر على خصومهم المهاجرين.. وغير ذلك من الأمارات التي مفادها عدم وجود نص يتعلق بالخلافة السياسية، كالتي عرضناها في كتاب (مشكلة الحديث).
وعلى الصعيد الإبستيمي فإن المنظومات والأنساق الصورية التي يقدمها الجهاز أو الأجهزة المعرفية كصور معبّرة عن الخطاب هي منظومات وأنساق إجتهادية ليس من المنطقي قبولها قبولاً مطلقاً، كما ليس من المنطقي - أيضاً - رفضها رفضاً مطلقاً. بالضبط كما هو حال النظر إلى النظريات العلمية ذات التعميم العالي، حيث التصور المعاصر يميل إلى عدم وجود نظرية تحظى بالقطع والقبول المطلق، وكذا هو الحال مع الرفض، مع الأخذ بعين الإعتبار حالة الترجيح للنظرية العلمية الأكثر تعميماً وتأييداً على غيرها، مثل ترجيح نظرية أينشتاين على نظرية نيوتن في الفيزياء الكونية[38]. إذ أصبح الإعتقاد السائد بأن النظريات العلمية غير قابلة للإثبات، بل كما يرى فلاسفة كامبردج أنها تتفاضل بدرجات الإحتمال والتأييد تبعاً لعلاقتها بالأدلة التجريبية المتوفرة، خلافاً للتصور السابق لدى كل من التجريبيين والعقليين الذين أشبعوا الرؤية العلمية بالقطع واليقين، وقد أدرك الفلاسفة هذا الخطأ ببطئ [39]. مما يعني أن هناك أكثر من نظرية تجد لنفسها الطريق في التعبير عن الإتفاق مع الوقائع كما في العلوم الطبيعية، أو التعبير عن الإتفاق مع الخطاب كما في العلوم الدينية، مهما كانت حالة الحرف والعدول التي تنطوي عليها، سواء في هذه العلوم أو تلك.
ويصدق الأمر ذاته على آلية تطبيق النسق على الواقع. فمثلاً أن فشل نظام الحكم الإسلامي ـ أو غيره من الأنظمة الأخرى ـ على أرض الواقع، لا يدل بالضرورة على خطأ فكرة نسق النظام، وإن كان يضعه موضع الإتهام على الصعيد الإبستيمي، حيث يُنظر فيما إذا كان فشله عائداً إلى خطأ أساسي في قضايا النسق، أو خطأ في القضايا الثانوية التي لا تعبّر عن صميمية النسق وجوهره. ومع وجود الإحتمال الأخير تصبح ممارسة ظاهرة الحرف والعدول من قبل المؤمنين بالنظام ضرورة إجرائية للحفاظ على نسق النظام وتبرير فشله طبقاً لإعتبار الخطأ في القضايا الثانوية دون الأساسية.
هكذا أصبح واضحاً بأن إعتبار الإنساق الصورية إجتهادية لا تحظى بدرجة الرفض والقبول المطلقين إنما هو تعبير آخر عن قوتها الإحتمالية، الأمر الذي يعني أن التنافس بين هذه الإنساق يجري طبقاً لهذه القوة، وهو ما يفرض علينا أن لا نعاملها معاملة متماثلة، بالرغم من اننا نواجه مشكلة هامة على صعيد الحساب الإحتمالي، ذلك أن القوة الإحتمالية المتجمعة من القرائن المختلفة لا يمكن حسابها حساباً متساوياً، وبالتالي فإنه قد يصعب أحياناً ترجيح نسق على نسق آخر لإختلاف نوع القرائن المتجمعة لصالح قيمة إحتمال كلٍ منهما[40]، مثلما يصعب ترجيح رواية ذات متن قوي وسند ضعيف على رواية أخرى ذات متن ضعيف وسند قوي، أو العكس. لكن بالرغم من كل ذلك فإن من الممكن وضع معايير يُعتمد عليها في حالة القبول والرفض النسبيين. فعلى الأقل أن من المفترض كشرط أولي أن نعتبر الجهاز السليم من الناحية الذاتية وقبل كل شيء؛ ذلك الذي يحافظ على نسق الإتساق في ذاته لكل من عمليات التأسيس والفهم والإنتاج المعرفي، بعيداً عن التناقضات الذاتية والمفارقات الضمنية. كما أن من المفترض أن لا يصادم الجهاز كلاً من بديهيات العقل والمنطق والواقع، وأن لا يعرّض النص أو الخطاب في صدام مع هذه المعايير.
ونحن نعتبر هذه الإفتراضات خطوات احترازية هامة على الصعيد المنهجي، إلا أنها غير كافية، بل لا بد من التعويل على معايير أخرى تسدد حاجة تقييم الأجهزة والإنساق تبعاً لما يفرضه «الوجدان العلمي»، كالذي فصلنا الحديث عنه في (منطق فهم النص).