ينقسم كتاب " منهج العلم والفهم الدينى " للمفكر و الباحث يحيى محمد إلى جزئين، وسوف نكتب ثلاث مقالات عن هذا الكتاب المنشور لدى مؤسسة الانتشار العربي عام 2014.. المقالة الأولى تلخص الجزء الأول من الكتاب، والمقالة الثانية تلخص الجزء الثانى، والمقالة الثالثة نناقش فيها ما ورد فى الكتاب، بالاضافة إلى ما ورد فى كتابه الآخر : منطق فهم النص، ويكون له علاقة بهذا الكتاب الذى بين أيدينا.. وهذه هى المقالة الأولى.
لم نلتزم فى هذه المقالة بترتيب الفصول دائما، مع ملاحظة أن التلخيص لا يغنى عن قراءة الكتاب نفسه.
مقدمة :
------
الكتاب الذى بين أيدينا ( منهج العلم والفهم الدينى )، هو محاورة عميقة بين نظم الفهم الدينى و نظم العلم، اختار الكاتب الفيزياء بوصفها أوضح العلوم تعبيرا عن فلسفة العلم، وأوضح الكاتب علاقة الفيزياء - كتعبير عن الواقع بدرجاته المختلفة - بنظم و مناهج العلم القديمة والحديثة فى الجزء الأول، ثم ربط ذلك بمناهج الفهم الدينى فى الجزء الثانى، سوءا من ناحية التوافق أو التعارض.
يتناول الجزء الأول لكتاب " منهج العلم والفهم الدينى " ثلاثة نظم علمية رئيسة : النظام الأجرائى والنظام الافتراضى والنظام التخمينى الميتافيزيقى، ويوضح التمايزات بين النظم الثلاثة، من حيث المناهج المعتمدة فى كل منها ومن حيث التأويل، وعلاقته بالحس الوجدانى، كما يوضح تعارضات العلم، وبالذات بين العالم الجسمى الكبير ( الفضاء الآينشتينى ) وبين العالم الجسيمى الصغير (علم الكوانتم )، كما يستعرض الكتاب العلاقة بين الرياضيات والخيال، ودور الاستقراء والتجربة، فى البحث العلمى وصياغة النظريات المختلفة التى تفسر أو تؤول الواقع.
اما الجزء الثانى فيقارن بين نظم العلم ونظم الفهم الدينى، سواء من حيث الاختلاف، حيث يميل العلم إلى التقدم إلى الأمام ولا يلقى بالا إلى النظريات القديمة، بينما يميل الفهم الدينى إلى الدوران ومناقشة ما تم مناقشته من قبل، أوما بين النظامين من إشكالات أحيانا وتطابق أحيانا أخرى، ففى كل من العلم والفهم يرصد الكتاب " الشذوذ " و " المسكوت عنه " الذى يعترى كلا من العلم والفهم الدينى، ويوضح كيف عالج كل منها ذلك، ويوضح أيضا كيف عالج كل منهما مفاهيم مثل " تكافؤ النظريات "، و " البساطة " و " الحيل "، ويعرج الكتاب إلى التساؤل : هل يوجد فهم نَسَقى للفهم الدينى ؟ ثم يتعرض للمسلمات الموجودة عند كلاهما، و يناقش القصدية، والأدلة ومستويات العلاقة بين العلوم المختلفة، وبين العلم والفهم الدينى، من حيث المضامين أو القواعد الأجرائية، ويناقش أخيرا الافتراضات وأنواعها وتأثيرها.
لا مفر من أن يعترف المرء بالمجهود الكبير المبذول فى هذا الكتاب، فهو يعتبر إضافة حقيقية لمناهج التفكيرالاسلامى المعاصر، فقد تطرق لموضوع نادرا ما يتم الالتفات إليه وهو مناهج العلم المعاصر وعلاقته بمناهج الفهم الدينى، وهو موضوع حيوى للغاية، والابحاث الاسلامية الرصينة فيه شحيحة إلى درجة الندرة.
حقيقة يمكن للمرء أن يرصد كميات كبيرة من الكتب السطحية المليئة بالمغالطات العلمية والدينية التى تتناول موضوع العلاقة بين العلم والدين، وتنطلق من شعور خفى بعجز الدين أمام العلم، لذا فهدفها الأساسى هو رد الإعتبار للدين باعتباره موافقا للعلم ومشجعا عليه، وربما المزايدة، باعتبار الدين قد سبق العلم فى الكشف عن حقائق الطبيعة، كما فى " الاعجاز العلمى للقرآن " وأحيانا تضاف السنة أيضا إلى ذلك الإعجاز العلمى المفترض.
يعتبر كتاب " منهج العلم والفهم الدينى "، حافزا لمزيد من الأبحاث الجادة حول هذا الموضوع المعقد، خصوصا أن العلم يمثل المشترك الأكبر و الأكثر تأثيرا فى حياتنا المعاصرة، ليس هذا فحسب، بل إنه قد أعتبر بديلا موثوقا به للأديان فى القرن الماضى، فيما يختص الوصول للحقيقة، وما زال ينظر إليه على أنه أكثر دقة من الدين، سواء فى نتائجه أو مناهجه، فضلا عن فائدتة النفعية التى لا يستغنى عنها أحد، بما فى ذلك الدين نفسه، لذا فالطريقة التى اختطها الكاتب لنفسه فى مجمل كتبه كلها هى طريقة جديدة، سواء من ناحية المفاهيم النظرية أو التطبيقية، لذا فقد أسماها " علم الطريقة "، وبالنسبة لى شخصيا، يعد الكتاب الذى بين يدينا " منهج العلم والفهم الدينى "، هو أهم تجل من تجليات "علم الطريقة "، ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا يوجد تشابه بين الإسم وبين نفس الأسم الذى يتبادر إلى الذهن عن الطرق الصوفية أو خلافه، فالكاتب يقصد بهذا العلم، أنه طريقة منهجية للنظر إلى النص وينظر إليه كما تنظر العلوم الفيزيائة إلى الطبيعة باعتبارها " مادة خام "، تحتاج إلى استخدام طرق ومناهج مختلفة للكشف عنها، وفى هذا يختلف الكاتب مع كل العلوم الاسلامية التى تبدأ من النص باعتباره دليلا على الواجب أو المحرم كما فى الفقه أو باعتباره موافقا للعقل وبديهياته أو مخالفا له كما فى علم الكلام أو باعتباره مجالات لاسقاط المفاهم الفلسفية كما فى الفلسفة، أو باعتبار مجالا خصبا للتأويل كما فى العرفان ( الصوفى )..
يختلف "علم الطريقة" الذى ابتدعه الكاتب يحيى محمد مع كل تلك العلوم، ويبدأ من نقطة مماثلة للنقطة التى بدأت منها العلوم الطبيعية باعتبار الواقع مادة خام تحتاج للكشف ومن ثم النظريات، وبالمثل اعتبر الكاتب "علم الطريقة" يبدأ من اعتبار النص كمادة خام تماثل الواقع، وتحتاج إلى الكشف عنها سواء فى علاقاته المختلفة أو عبر استخدام الواقع أو الافتراضات القبلية ( القبليات المعرفية حسب تعبير الكاتب ) للكشف عن معنى النص، و يستفيد الكاتب من العلوم اللغوية الحديثة و بالذات " الهرمنوطيقا " ( علم التأويل )، الذى ظهر فى الغرب لتأويل الكتاب المقدس ثم امتد وتوسع إلى كافة النصوص الأدبية، لكنه يضع حدا للتأويل الهرمنوطيقى، مستخدما الإبستمى ( المعرفى ) فى عمل توازن بين التأويل المفرط الذى لا ضابط له، وبين معطيات النص نفسه سواء كان فى مرحلة الاشارة أو السياق أوالمجال كما أوضحه فى كتابه " منطق النص "، وكما فصله فى كتابه " علم الطريقة "، لكننا هنا سنتعامل أساسا مع كتاب " منهج العلم والفهم الدينى "، والذى لا يخلو من مفاهيم "علم الطريقة " لكنها مطبقة ومقارنة مع العلوم الطبيعية الحديثة من أول كوبيرنك مرورا بنويتن إلى آينشتين إلى علم الكوانتم إلى نظرية الأوتار الفائقة.
فيما يتعلق بالدين، يركز الكاتب نظره على نصوص القرآن الكريم، باعتباره الثابت الأكبر فى الاسلام، بينما لا يطبق نفس المفاهيم على السنة النبوية نظرا لاختلاف ثبوتها بين العلماء والمذاهب المختلفة، بل بين أتباع المذهب الواحد، فعلم الطريقة لا يناقش ثبوت النص من حيث هو نص، لكنه يعنى بنظرية فهم النص، إذ صح التعبير
ربما بعد ثبوت المفاهيم النظرية يمكن فى مرحلة لاحقة توسيع مفهوم " علم الطريقة " ليتناول النصوص النبوية، وربما الأحداث التاريخية فى وقت لاحق.. ربما فى تصور آخر، لدى الكاتب نفسه أو لدى آخرين، حيث تُسمد البداية من ذلك العلم الحديث، لم يتعرض الكاتب لهذه الملاحظة الأخيرة، لكن من يعلم ما يخبأه المستقبل ؟
نُظم ثلاث : الأجرائى والافتراضى والتخمينى :
-----------------------------------------
فى الفصول الثلاثة ألأول يستعرض الكتاب، نظم العلم الثلاثة : 1- الإجرائى 2- الافتراضى 3- التخمينى الميتافيزيقى..
النظام الإجرائى :
---------------
" تبدأ الحركة العلمية الحديثة منذ أن تم التخلص من النظام القديم... الذى كان من صفاته تعاليه على الواقع وامتناعه عن المراجعة والتحقيق "، وهذا النظام القديم " يطابق بين الحقيقة والواقع.. ويعمل على مبدأ انقاذ الظواهر عند لحاظ أى تعارض بين الطبيعة وبين المسلمات العقلية ( ص 23 ) "
، فعندما اكتشف جاليليو بواسطة مقرابه ( منظار مكبر ) أن هناك أربعة أقمار تدور حول المشترى ولا علاقة لها بالأرض، رفض العلماء ورجال الدين النظر فى مقرابه، لإن هذا يخالف الأصول وحسب تعبير جاليلوا أنهم يؤمنون "...أن لا حقيقة سوى ما يمكن مقارنته بالأصول " ( ص 24).
إذن تبدأ المرحلة العملية الحديثة على أشلاء النظام القديم، وإن كان الكاتب قد ذكر مرحلة العلوم الاسلامية عرضا، فقد كان " النظام الإجرائى "، حسب الكاتب، موجودا كشذرات مع ابن الهيثم، ويتميز " النظام الإجرائى ( الحديث ) بأنه قائم على التحقيق والمراجعة ضمن الممارسات التجريبية والقرائن الاستقرائية، فهو يعمل على استخلاص النتائج التى تدل عليها المشاهدات والتجارب، ومن ثم انتزاعها وتجريدها وبالتالى تعميمها ضمن قوانين عامة، وبعد ذلك اختبارها ليعرف مدى صدقها وكفائتها، وقد تتخذ هذه القوانين صبغة رياضية (ص 26) "..
وهنا لا بد من وقفه، إذ أن جوهر النظام الإجرائى من مراجعة واعتماد على التجارب وانتزاع القوانين وربما تحويلها إلى صيغ رياضية، كل ذلك كان بالضبط هو تاريخ العلم فى الحضارة الاسلامية، وليس فقط " بوادر متناثرة "، وهو ما سنناقشة بالتفصيل فى المقال الأخير تحت اسم " المناقشة ".
يبدأ " النظام الاجرائى "، حسب الكاتب، مع كوبيرنك البولندى، الذى وضع نظاما تدور فيه الأرض حول الشمس، بدلا من النظام البطلمى القديم الذى تدور فيه الشمس والكواكب كلها حول الأرض، وقد رفض رجال الكنيسة ذلك بشدة، ليس فقط رجال الدين التقليديين، لكن أيضا زعماء الاصلاح البروتستانتى : مارتن لوثر وكلفن، ويستمر "النظام الاجرائى" مع كبلر الذى خطا خطوة تبسيطية لنظرية كوبيرنك ( ص 30)، ثم خطا خطوة أخرى بخلاف الوصف، وهى التفسير الفيزيائى للدوران بقوة مغناطيسية، وبالرغم من أنه أخطأ فى التفسير، إلا أنه الأسبقية فى محاولة التفسير وعدم الإكتفاء بوصف حركات الكواكب حول الشمس.
يأخذ " النظام الأجرائى " شكله الحقيقى مع السير اسحق نيوتن ( ت 1727 م )، والذى يمثل " آخر حلقة كبرى شهدها هذا النظام التقليدى.. فكما تغنى الكسندر بوب منشدا : الطبعية وقوانين الطبيعة كانت مختبئة فى الظلام.. قال الله ليكن نيوتن، فأصبح كل شىء نورا " ( ص 32)
فنيوتن هو أول من صاغ حركة الكواكب فى نهج تفسيرى ضمن قانون رياضى محدد، كما أنه أول عالم طبيعى اعتمد على نهج الاستقراء فى اكتشافه للجاذبية، ففى كتابه " المبادىء الرياضية للفلسفة الطبيعية "، رفض نيوتن الفروض التى لا تعتمد على التجربة والاستقراء ( ص 33).
لكن مع ذلك، استعان نيوتن ببعض الفروض الميتافيزيقية (الميتافيزيقا هنا تعنى أمور فوق الطبيعة غير قابلة للبحث والفحص الفيزيائى )،مثل فرض العطالة ( = القصور الذاتى )، فهو فرض لا يمكن التحقق منه، ( وقد اعترض عليه آينشتاين فيما بعد واستخدم بدلا منه فرض التسارع وإن كان يؤدى نفس الوظيفة )، أيضا فرضية نيوتن حول الزمان والمكان هى فرضية ميتافيزيقية لا دليل عليها، فهو اعترف بأن الزمان المطلق هو شىء لا يمكن ادراكه، لذا فاعتمد على وجود الله الذى يصنع الزمان والمكان، بدلا من الاعتماد على قوى طبعية يمكن ادراكها بالاختبار والقوانين 5 ( ص 35 )، مما جعله عرضة لانتقاد ارنست ماخ معتبرا إياه قد خالف طريقته المعلنة فى بحث الظواهر الفيزيائية القابلة للرصد و التحقق "، " فبالرغم من أن نيوتن كان يتجنب الميتافيزيقا من أن تكون ملاذا للفيزياء، إلا أنه كان يلجأ إليها عند العجز عن التفسير، وهو ما يعرف بالاستعانه بإله الفجوات، فقد لاحظ - مثلا – بأن حركات الكواكب المذنبات فى النظام الشمسى منتظمة من دون انحراف، خلافا لسائر المذنبات التى تدور خارج هذا النظام، (إذ تدور) فى مدارات منحرفة كثيرا عن المركز، فإنه قد عزا ذلك إلى الفكرة الميتافيزيقية القائلة بـ " التدبير الالهى"، وراء الجمال الذى يتصف به نظامنا الشمسى بكواكبه ومذنباته، ( فالفكرة الميتافيزيقية هنا هى افتراض بلا دليل فيزيائى، على جمال نظامنا الشمسى مقابل انحراف الأنظمة الأخرى غير الشمسية)، كذلك لاحظ نيوتن، بأن لحركات الكواكب حول الشمس شذوذا طفيفا لا يمكمن تفسيره عبر قانون الجاذبية، ولو أن هذه الحركات الشاذة تراكمت مع مرور الزمن، لأدت إلى انحرافات عظيمة تقلب ميزان النظام الشمسى كله رأسا على عقب.. لذا فقد لجأ إلى التفسير الميتافيزيقى، وهو أن الله يتدخل بين الحين والحين الآخر ليعيد الكواكب الضالة إلى مسارها الطبيعى...
أيضا ما زال العلماء يجدون صعوبة فى ارجاع قانون الجاذبية إلى محض الطريقة الاستقرائية... ويثور هنا سؤال عن العلاقة التى تؤثر بها الأجسام على بعضها دون وسيط مكتشف ؟ ( ص 36) ".
النظام الافتراضى :
------------------
بدأ النظام الافتراضى مع بداية القرن العشرين، وما زال سائدا إلى يومنا هذا... وهو قائم على فرعين مختلفين للتفكير، أحدهما خيالى ( تأملى ) والأخر رياضى صورى.. فقد وجد العلماء صعوبة فى رد بعض المفاهيم مثل الزمان والمكان إلى الحس والتجربة 7 ( ص 41)، وكثيرا ما يتداخل الفرعين، فماكسويل اتخذ النمط الصورى الرياضى، ثم توج لدى الكوانتم، والآخر تأملى خيالى كما يتمثل بنسبية آينشتاين، والأخير يمتاز بقدر واسع من الحرية وإطلاق العنان للخيال دون الاعتماد على منهج محدد فى تكوين الفروض، وكلا المنهجين ( الرياضى والخيالى ) يبتعدان عن الحس المشترك common sense))، والفرق بين النظامين أن النظام الخيالى يبدأ بالخيال وينتهى بالرياضيات، والنظام الرياضى يبدأ بالرياضيات وينتهى بالخيال، وكلاهما يمارس نوعا من التأويل والهرمنة، أى أن البدايات مختلفة لكن النهايات – من الناحية الصورية – متشابهة، فعلم الكوانتم كما ذكرنا يبحث فى الجسيمات الصغيرة، بينما تبحث النسبية ومن بعدها نظرية الأوتار الفائقة فى الأجسام الكبيرة، ولكل علم مجاله المختلف عن الآخر، وإن كان بينهما تشابكات فى بعض المواضيع ( ص 43) "
النسبية الخاصة :
--------------------
لم يكن آينتشتاين يؤمن بالطابع التجريبى، إذ لم يكن من الفيزيائيين التجريبيين، وهو نفسه يقول : " لاتوجد مجموعة من الحقائق التجريبية، مهما كانت مفهومة، يمكن أن تؤدى إلى صياغىة تلك المعادلات المعقدة ( التى صاغها ) "، كذلك لم يتميز آينشتاين بقوته فى الرياضيات، فكان يستعين بأصدقائه الرياضيين، كى يضع أفكارة وخيالاته فى صيغ رياضية مقبولة، وقال لابنه فى نبرة تعبر عن الحسرة : " آه لو كنت أعلم قدرا أكبر من الرياضيات "،... وهكذا لم يكن لآينشتانين قورة بارعة غبر تلك المتعلقة بسعه خياله وحدسه وبصيرته... فأعظم اكتشافاته جائت عن طريق الخيال، وليس بطريق تجريبى أو رياضى... وهو فى سن السادسة عشرة من عمره ( 1895) كان يتخيل ماذا سيحدث لو انطلق بمحاذاه شعاع ضوئى بالسرعة نفسها، إذ تخيل بأنه سيرى الشعاع ساكنا رغم تذبذبه فى الفضاء... وكان آينشتاين فى صياغته لنظريته فى النسبية الخاصة ينهج النهجين المتعاكسين، تارة يبدأ بالخيال لينتتهى بالرياضيات، وأخرى على العكس، وقد كانت تأملاته فى النظرية النسبية الخاصة تدور حول قياس الزمن والمسافة لدى سرعة الضوء فى قطار متحرك بسرعة كبيرة.. وتوصل من خلال نظريته الخاصة إلى تغير سرعة الزمن وفقا لسرعة الجسم، فكان التزامن عنده نسبيا وليس مطلقا ( وهذا التغير فى الزمن يكون فى السرعات العالية فى الفضاء وليس كما نشعر به على الأرض )، كما أن النظرية النسبية الخاصة تقوم على ثبات سرعة الضوء بغض النظر عن مصدره، كما أنه أكثر سرعة من أى شىء آخر، كما أن النسبية الخاصة تقول أنه لا يوجد نظام ثابت ثباتا مطلقا، وبالتالى نفى فكرة الزمان والمكان المطلقين لنيوتن.
ومن نتائج النسبية الخاصة تغير الفاصل الزمنى بين حدثين من مراقبين يتواجدان فى إطارين مرجعيين مختلفين، وبهذا نفى آينشتين فكرة التزامن، فيمكن أن نتخيل أننا نقف فى نفس الحجرة، فيكون سقوط شىء من سقف الغرفة إلى الأرض يتم فى نفس الزمن لأننا نقف فى نفس الإطار المرجعى وهو الحجرة،لكن لو تخيلنا أننا نقف على ظهر كوكبين مختلفين ( أى إطاريين مرجعيين مختلفين ) سنرى فارقا فى الزمن بالنسبة لأى شىء يسقط على كوكب ثالث، وكما أن التزامن يختلف، أيضا القياسات تختلف من مرجعيين عطالين مختلفين، ومرجعين عطاليين تعنى لكل منهما عطالة Inertia، أو قصور ذاتى، ويمكن ملاحظة القصور الذاتى، عندما نكون فى سيارة متحركة بسررعة ثابتة، ثم تزيد السيارة من سرعتها فجأة، نجد أن أجسامنا ترجع إلى الوراء بسبب القصور الذاتى ( أو العطالة )
أيضا من نتائج النسبية الخاصة ما يعرف بمفارقة التوأمين، فلو أن توأمين، صعد أحداهما إلى الفضاء وبقى الآخر على سطح الأرض، ولاحظنا مرور الزمن عليها بعد نفس المدة ( ليكن أربعين سنة مثلا )، نلاحظ أن التوأم الموجود فى الفضاء ما زال شابا بينما شاخ التوأم الموجود على سطح الأرض
إعتمد آينشيتن فى نسبيته الخاصة على التبادل بين الخيال والرياضيات، فمرة يستخدم الخيال ومرة يستخدم الرياضيات، كما أنه اعتمد الهندسة الاقليلدية ( نسبة إلى العالم اليونانى إقليدس) والتى تنطبق على الأسطح المسطحة، بينما فى النسبية العامة فقد بدأت بالخيال، ثم صاغ ذلك بحسب الأبعاد الرياضية، وعلى أثرها بدأ يولى الرياضيات اهتماما خاصا.. فعندما أراد أن ينشىء نظريته حول النسبية العامة، والتى أدخل فيها الجاذبية، استفسر عما إذا كانت هناك رياضيات تتعلق بالفضاءات المنحنية ذات الأبعاد الأربعة، فأشار عليه صديقه جروسمان بوجودها كما لدى هندسة ريمان خلال القرن التاسع عشر، وهذه الأخيرة تسمى الرياضة اللاقليدية، وتتعامل مع الأسطح المحدبة ولا تكون زوايا المثلث فيها تساوى 180 درجة، ويتلاقى فيها الخطان المتوازيان إذا مدا على استقامتيهما..
على كل حال لم يحصل آينشتاين على جائزة نوبل من أجل أيا من نظريتيه النسبية الخاصة أو العامة،مع شهرتهما، بل حصل عليها نتيجة قيامه بنشر بحث حول ظاهرة تفاعل شعاع الجسم الأسود، والتى عرضها فى ورقة واحدة، فكان ما قدمه هو تفسيره لتجربة تم الكشف عنها، لكنه أعطاها شيئا من المعنى غير المتوقع.
بخصوص الطريقة التى يتم بها الإكتشاف، يقول كارل بوبر : " ليس للاكتشاف العلمى منطق محدد ولا نسق منطقى للاكتشاف "، وكما صرح به هلتون :"... أن سيرورة الاكتشاف متنوعة بقدر ما تتنوع أمزجة العلماء "، وذلك ما أكده الفيزيائى إرنست ماخ من أن العلمية الذهنية التى ينجز بها المرء مفاهيم جديدة ليست بسيطة، وإنما هى بالغة التعقيد.. فالمجهود الرئيس الذى يؤدى إلى اكتشاف معرفة جديدة إنما يرجع إلى التجريد والخيال..
النسبية العامة :
-------------
سوف نقفز إلى الفصل السادس حتى نستكمل فهم نظرية آينشاتين فى النسبية العامة، وبعدها نعرض إلى علم الكوانتم، وكلاهما ينتميان إلى النظام الافتراضى، ثم نعود مرة أخرى إلى الفصل الثالث لنوضح النظام الثالث و الأخير وهو النظام التخمينى الميتافيزيقى، والذى تنتمى له نظرية الأوتار الفائقة.
فى الفصل السادس المسمى " التأويل الآينشتاينى وتجاوز الحس الوجدانى "، يستعرض الكاتب أهم الأسس التى قامت عليها النظرية النسبية العامة، سواء فى المبادىء الفلسفية أو العلمية، وسوف نحاول إعطاء لمحة مختصرة لبعض المفاهيم الورادة فى هذا الفصل، وليس كلها بالطبع، ومن شاء مزيد من التوسع عليه الرجوع للكتاب نفسه، وهذا ينطبق على المقال بصفة عامة.
يبدأ الكاتب فى توضيح كيف تحولت الفيزياء إلى مجالات بعيدة عن المألوف والحس المشترك العام، وذلك بداية مع ماكسويل أواخر القرن التاسع عشر، إذ حول الفيزياء إلى حالة صورية رياضية صرفة عير قابلة للتخيل، كما هو الحال فى نظريته فى المجال الكهرومغناطيسى، والذى وجد دعما تجريبيا من الألمانى هيرتز فى إثبات الطابع الكهرومغناطيسى للضوء، وهو ما فتح المجال أمام آينشتاين للتعبير عن نظريته فى فكرة التأثير الهندسى المنبى على الحقل أو المجال.
يستعرض الكاتب فى هذا الفصل التأويل بشقية : الخيالى كما فى نسبية آينشتين، والرياضى كما فى ميكانيكا الكم، والتى سيستعرضه هذا المقال بعد الانتهاء من نسبية آينشتين.
اعتمد آينشتاين على معادلات ماكسويل وتحويلات لورنتز، فى صياغة نظريته فى النسبية الخاصة، وأدخل عامل الزمن فى تلك المعالات ضمن رباعيته المتصلة للزمكان ( ارتباط الزمان بالمكان )، وهو ما لا يتوفر فى معالادت نيوتن للجاذبية.
فى نظريته النسبية العامة أدخل آينشتاين مفهوم الجاذبية.. فكانت فكرة الفضاء تعادل ما يقوم به الأثير من الأفعال الوسيطة مثل العطالة ( القصور الذاتى Inertia ) والثقالة ( الجاذبية ) وانتشار الضوء، " إذ كان العلم يتصور قبل ذلك أنه لا بد من وجود مادة هى المسؤله عن التجاذب بين الأجسام - تم تسمتيها بالأثير على يد ماكسويل - وهو ما أثبت آينشتاين خطأه، وإن كان تراجع عن ذلك فى خطاب له، وأبقى على وجود أثير، فى صورة الفضاء، الذى منحه صفة فيزيائية، خلافا لما كان يعتبر كوعاء يخلو من الفعل الفيزيائى، بمعنى أنه أبقى على وجود الأثير لكن بمواصفات ووظائف أخرى غير التى كانت متصورة فى الماضى " ( ص 44- 48)، ( ص 150 )..
المسلمات العلمية للنسبية
* على الصعيد الفلسفى، رأى آينشتاين بأنه لا معنى لحركة جسم وحيد فى الكون، فحركة الجسم لا يمكن أن تفترض إلا بوجود جسم آخر،.. فالعطالة لا تحدث إلا بسبب الدوران بالنسبة إلى جميع الأجسام الأخرى فى الكون.. وهو بهذا القدر يلغى العطالة المطلقة من الفيزياء مثلما يلغى الحركة المطلقة، ويستبدل مكانها بالنسبية فيما يعبر عنه بالتكافؤ بين الكتلة الثقالية والعطالية.
* تبنت النسبية الخاصة مبدأ ثبات سرعة الضوء فى الفراغ، أما فى النسبية العامة فقد تبنى آينشتين تغير سرعة الضوء وفقا للمجال الجاذبى، وهو ما يجعل أشعة الضوء تنحنى عندما تمر بالقرب من أجسام ضخمة، وتعمل جاذبية الأجسام الضخمة هذه على إبطاء سرعة الضوء، مثلما يتعرض إلى سرعة كبيرة، وهو ما تم إثباته فى عام 1919، وقد رد آينشين، على منتقديه، بأن النظرية النسبية الخاصة صالحة حينما يكون التأثير الجاذبى ضعيفا ويمكن إهماله، بينما تعمل النظرية العامة حينما تكون هناك جاذبية قوية.
* يعتبر آينشتين الهندسة اللاقيليدة من المسلمات الأساسية التى بنى عليها نظريته العامة، وهى كما قلنا من قبل تتعامل مع الأسطح المحدبة كما فى هندسة ريمان، وتكون زوايا المثلث لا تساوى 180 درجة، ويتقابل الخطان المتوازيان إذا مدا على آخرهما، وعلى هذا افترض آينشتين أن الفضاء غير مستو، وبالتالى لا يصلح لتطبيق الهندسة الإقليدية عليه، وعليه يكون الانحناء فى كل الأماكن فى الكون، تماما كالبطاطس، ويكون قطر الكرة الكونية منحنيا غير مستقيم وكذلك كل النقاط..وقد اعترض كثير من الفيزيائيين على هذه الفكرة، وينقل كارناب فيلسوف الوضعية المنطقية، قوله على فم فيزيائى ألمانى، وكان هذا الفيزيائى مكتئبا إلى أقصى حد حين قال :" شىء فظيع، أنظر ماذا فعل آينشتاين بفيزيائنا الرائعة ! " ( ص 131-135)
بعد ذلك يناقش الكاتب المضامين الفكرية للنسبية، من حيث السرعات الكبيرة والمتغيرة الطارئة، والهندسة اللاقليدية والزمكان المتصل، و المجال الهندسى للزمكان والثقالة، و المجال الهندسى للجاذبية والأبعاد الإضافية، والمجال الهندسى والكون المغلق..
".. وكان من أهم النتائج التى جعلت آينشتاين يشتهر شهرة كبيرة، هوتفسيره الدقيق لشذوذ عطارد والذى لم تسطع جاذبية نيوتن تفسيره، بالاضافة ألى تنبئه بانعطاف الضوء المقترب من الشمس، ناهيك عن مساهمته فى تأسيس نظرية الكوانتم استنادا إلى اعتبار الضوء جيسمات كمومية دون إلغاء الطابع الموجى له "( ص 123 )
قبل أن نترك المنهج الافتراضى، يؤكد الكاتب على أن آينشتين استخدم التأويل الخيالى بافتراضه الفضاء كوسيط مؤثر بدلا من الأثير، الذى سبق وعرضناه، وأيضا فى تأويله لظاهرة تفاعل شعاع الجسم الأسود ( ص 47).. وسوف يربط الكاتب بين النص والطبيعة والتأويل فى الجزء الثانى من الكتاب.
نظرية الكوانتم : التأويل الكوانتى وتجاوز الحس العام
--------------------------------------------------
إذا كانت آينشتين بدأ من الخيال وانتهى إلى الرياضيات، فإن نظرية الكوانتم بدأت من الرياضيات وانتهت إلى الخيال، وكلاهما يقع ضمن النظام الثانى الافتراضى، ويقول الكاتب أنه إذا كان التأويل يعنى صرف النظر عن المعنى الظاهر للنص، إلى معنى آخر، فمن الممكن أن تقوم الرياضايات بلعب نفس الدور، حين تتخلى عن وظيفتها الوصفية للظواهر الطبيعية، لتقوم بتأويل الواقع الفيزيائى كما مر بنا من رياضة ريمان اللاقليدية التى تتعامل مع السطوح المحدبة، والتى استخدمها آينشتين فى نظريته النسبية العامة، ويمكن أن تقوم الرياضايات أيضا بتاويل التجربة، " وأبرز مثال عليها هو التجربة المتعلقة بالتفاعل الكهروضوئى.... وقد طبق عليها آينشتين قانون بلانك فى علاقة الطاقة بالتردد، وليس بسعة الموجة كما كان يعتقد سابقا، ونشر بحثه عام 1905 ومنح لأجله جائزة نوبل، وأيضا تأسيس نظرية الكوانتم على يد ماكس بلانك عام 1900 كانت صيغة بلانك الرياضية هى التى حلت عوض االتجربة والمشاهدة... وقد يتصف التأويل الرياضى بالبعد عن الواقع كليا.. ويبعد النظرية عن أن يكون لها علاقة بالواقع حتى لو أدى ذلك إلى المحالات والاصطدام بالحس المشترك كليه، والمثال على ذلك موجة شرودنجر، فى تفسير الجسيمات الذرية، فهى موجة رياضية مجردة وليست حقيقة، لتضمنها عدد تخيلى 1 ־ ̅√،ومع ذلك تم انتزاع التأويل الخيالى من التجريد الرياضى، ليتفق مع ما عليه الموضوع الخارجى، كالذى فعله نيلز بور فى تأويله لهذه الموجة، بأنها موجة احتمال حقيقية.
تنادى الكوانتم بأن لا شىء حقيقى، ولا يمكننا قول شىء عما تفعله الأشياء عندما لا نشاهدها، وهذا هو موقف مدرسة كوبنهاجن.. التى تمدنا بالتأويلات المفتوحة الزاخرة..،.. وعلى هذا التأويل انبنت رياضيات أدت إلى توحيد القوتين الكهرومغناطيسية وا النووية الضعيفة على يد كل من غلاشو وواينبرج ومحمد عبد السلام، الذين تقاسموا جائزة نوبل لهذا الاكتشاف.. كما أفضى التأويل الخيالى إلى اكتشاف بوزون هيجز ( ص 53- 58 ).
كما ذكرنا بدأت نظرية الكوانتم مع ماكس بلانك عام 1900 ثم تطورت على يد آينشتاين عام 1905، عندما طرح فكرة الوصف الجسيمى للضوء، وفى عام 1909 صرح آينشتاين بدمج النظريتين الكومية والموجية، فكان هذا أول اعتراف بمثنوية الضوء، أى له صفة الموجة والجسم معا، وبالرغم من ذلك ظل حتى آخر عمره عاجزا عن فهم لغز كموم الضوء، فقال : "هذه السنوات الخمسون التى أمضيتها فى التفكير والتأمل، لم تقربنى أكثر من إجابة السؤال : ما كمات الضوء ؟ ".. ثم شهدت نظرية الكم انطلاقة جديدة مع هايزنبرغ، لكن نظرا لغموض اكتشافات هيزنبرج ومعارضتها الواضحة لقانون السببية، كما أن تجاربه أعطت صفة الحياة للذرات وكأنها لها أرداة تتصرف بها دون أن يكون هناك حتمية، كل ذلك جعل هايزنبرج نفسه يقول : " هل يعقل أن تكون الطبيعة سخيفة كما بدت لنا فى التجارب الذرية ؟ "..
نظرا للغموض والتشوش الذى طرحته نظرية الكوانتم، فقد عبر كثير من الفيزائيين المرموقين عن رغبتهم، فى أنهم لم يكونوا يعملون يوما بالفيزياء أصلا، وعلى رأسهم آينشتاين حين قال : " أفضل أن أكون إسكافيا، بل عاملا فى ناد للقمار، على أن أكون فيزيائيا "، وقال ماكس بورن : "إنه شىء لم أفهمه إطلاقا بشكل مناسب فى حياتى كلها "..
إن الفارق بين النسبية والكوانتم، هى أن الأولى قامت على أكتاف رجل واحد، لذا كانت تأويلاتها خاضعة لرجل واحد، بينما قامت الكوانتم على أكتاف رجال كثر، لذا فتعددت تأويلاتها بشكل لافت للنظر، وبالتالى كان لا بد من التأويل و الهرمنة العلمية، فهى جسر التواصل من الرياضيات إلى الخيال.. وصرح ستيفن واينبرج بأن العلاقة بين استعمال ميكانيكا الكم وتأولها ضعيفة، فبقدر ما يكون الاستعمال ميسرا، بقدر ما يكون التأويل صعبا غير مفهوم..
وبحسب الفيزيائى ورلان أومنيس، أن هناك على الأقل ثلاثة أسباب للتأويل فى الكوانتم : فهى من جهة صورية إلى درجة أنها بلغت الذروة فى الغموض والابهام، كما أنها تتضمن وعى المراقب ا لعلمى بعين الاعتبار، فأصبحت بذلك ذاتية وليست موضوعية خالصة، كذلك فإن نتائجها ادت إلى التصادم مع الوجود اليقينى للحقائق الواقعية والمسلمات الأساسية (ص 156–168)
المسلمات العلمية للكوانتم :
------------------------
مثنوية سلوك الكائن المجهرى
مبدأ هايزنبرج فى عدم اليقين والتحديد
بالنسبة للنقطة الأولى، يتعامل علم الكوانتم مع الجسيمات الصغيرة للغاية، وهو عكس النسبية التى تتعامل مع الجسيمات بالغة الكبر، على العموم بدأ نظرية الكوانتم تشق طريقها، وهى تعى بأن هناك نوعا من المثنوية المزدوجة للكائن المجهرى.. ففيما يتعلق بالضوء فقد لوحظ أنه يتصرف كجسيم فى حالة ( مروره من ) ثقب واحد لكنه يتصرف كموجة فى حالة ( مروره من ) ثقبين، لحدوث ظاهرة التداخل.. وهو لا يسلك السلوكين معا، فإما أن يسلك السلوك الموجى أو السلوك الجسمى، تبعا للظروف، ونفس النتائج شوهدت فى الالكترون، كالذى اكتشفه دى بروى، وقد كان يعتقد قبلا أن الالكترون جسيم فقط، لكن ظهر من التجارب أنه موجة أيضا، وكما الضوء لا يسلك سوى مسلك واحد حسب الظروف، ولا يسلك المسلكين معا أبدا..
وعلى هذا كانت هذه المسلمة محط الكثير من التأويلات..
بالنسبة للنقطة الثانية، مبدأ هايزنبرج عدم اليقين (uncertainty principle ) يعود إلى العلاقة العكسية التى تربط ما بين موضع الجسم واندفاعه، أو بعض الثنائيات ألأخرى المتعلقة بالجسيمات، مثل علاقة الزمن بالطاقة.. ما يفيده مبدأ عدم اليقين، أنه كلما زادت معرفتنا بموضع الجسم كلما قلت معرفتنا بسرعته، والعكس بالعكس، فنحن لا نستطيع أن نعرف موضع الجسم وسرعته معا، وهذا هو خلاصة تجربة هايزنبرج، فمشاهدتنا لأحد الالكترونات – مثلا – فإن ذلك لا يحصل ما لم نجعله يقذف كمة كاملة من الشعاع أو الفوتون، ولكن هذا القذف يحدث زلزالا خطيرا على الذرة، لدرجة تغير حركة الذرة كليا.. وبتالى تتصرف الذرة كما لو أنها تسير عشوائيا وكل مراقبة نقوم بها ستؤثر على مجرى النظام فى مستقبل الذرة مما يمنع من التنبؤ، كأن معرفتنا تتحكم بما يدور فى الذرة وتعوقتنا عن تتبع أحداثها، وهذا مختلف كليا عما يجرى فى العالم الجسمى الكبير.
هاتين المسلمتين : مثنوية سلوك الكائن المجهرى و مبدأ هايزنبرج فى عدم اليقين والتحديد، أدتا إلى تفصيلات وتأويلات لا حصر لها.. وتظل معرفة حقيقة واقع العالم المجهرى للالكترون أو غيره عصية على التحديد إلى يومنا هذا.. وبالرغم من مواجهة أصحاب الكوانتم للحس المشترك العام، إلى أن علم الكوانتم ناجح جدا فى تطبيقاته المختلفة، وعلينا كما يقول الكاتب، أن ندرك أن الفيزياء كعلم لا تهتم بالواقع كفلسفة، بقدر ما تهتم بأن قوانيها منتجة ومفيدة، وبالتالى ما من مصادمات الفيزياء مع المبادىء الفلسفية، يمكن أخذه بهذا الأعتبار من النهج الهرمنوطيقى، وأن هنك حلقة مفقودة لم تكتشف بعد لمعرفة الاتساق الذى يجعل من الفيزياء منطقية تماما عند حديثها عن الواقع. (ص 187)
تعارضات العلم :
---------------
فى الفصل الثامن يوضح الكاتب يحيى محمد، أنه بالرغم من أن نظريتى النسبية والكوانتم مقبولتين علميا فى البداية، إلا أن المعتقد العلمى اليوم أن النظريتين متعارضتين، إلى الحد الذى لا بد أن تكون واحدة منهما على صواب والأخرى على خطأ، ومن ثم ظهرت المحاولات للتوحيد بين النظريتين، لكن لم تكلل الجهود بالنجاح حتى الآن..
تظهر التناقضات بين النسبية والكوانتم، فى ما تقوله الأخيرة عن العالم الجسيمى لا ينسجم مع مفهوم الواقع كما صوره آينشتاين، فهى تتحدث عن الصدفة والاحتمال، والانقطاع والانفصال والقفزات، فى حين أن الواقع يشهد حالة الاتصال المستمر، وأيضا تقول الكوانتم أن مراقبتنا للعالم المجهرى الجسيمى تتسبب فى تشويش تقديرنا له ( سواء فى سرعته أو موضعه )، مع أن العالم الكبير كما يصوره آينشتاين لا يؤمن بهذا..
التعارض بين النظرية النسبية ونظرية الكوانتم من خلال محورين، علمى وفلسفى :
أولا : المحور العلمى
هندسة الفراغ ( الأتصال والانفصال ) :
-----------------------------------
بينما ترى النسبية العامة أن للواقع انحناء هندسيا رقيقا لشكل الفراغ وأنه ينطوى على نسيج ناعم يخلو من التجعدات والثقوب والتمزقات والقطع المنفصلة، ترى نظرية الكم، أنه على المستوى المجهرى، توجد طبيعة يشوبها الاضطراب الكمومى والتشوه الذى يحطم المكان الهندسى الناعم التحدب..وهناك علاقة عكسية فى التأرجح بين حجم الطاقة والمكان، فكلما صغر المكان كبرت الطاقة، حتى نصل إلى الثقوب السوداء، ويصبح الفضاء بحرا لا نهائيا من الثقوب السوداء، تظهر وتختفى فى زمن قصير جدا.. ويتسائل الكاتب كيف يمكن افتراض وجود ما يحدث من تمزقات وثقوب سوداء فى عالم الجسيمات والفراغ الهائل دون أن يفضى إلى كارثة كونية ؟
.. ووفقا لحسابات الكوانتم، فإن كمية من الطاقة فى سنتيمتر مكعب واحد هو أكثر من طاقة المادة فى الكون كله، مما جعل بعض الفيزيائيين يعتقدون بأن هذا البحر اللانهائى المتلاطم من الطاقة ما هو إلا وهم ناشئ من خطأ فى الصيغ الرياضية لنظرية الكم.
يبين ستيفن هوكينج بأنه فى حالة الثقب الأسود، يحدث بفعل الظاهرة الكمومية، خلق الأزواج الافتراضية، وهى الجسيمات وأضدادها، التى تُخلق باستمرار من الفراغ وللحظة قصيرة جدا، ثم يُفنى بعضها بعضا بعد الخلق مباشرة، دون أن تترك أى أثر، لكن قد يحدث أن يبتلع ثقب أسود أحد جسيمى الزوج قبل تفانيه مع قرينه وأن يتمكن الاخر من الافلات، وتولد هذه الظاهرة ما يعرف بالشعاع الهوكينى، ويستند موقف الكوانتم من تأرجحات الفضاء إلى الشعاع الذاتى للعناصر غير المستقرة كاليورانيوم.. فالفراغ يبعث على إنتاج الطاقة والجسيمات من ذاته دون سبب خارجى، وفقا للتأرجحات وشبيها بتحلل المواد المشعة غير المستقرة، لكن يعتقد اليوم أن الفضاء الخارجى ممتلىء بطاقة عظيمة تدعى الطاقة الداكنة، وهى تشكل ما يقارب ثلاثة أرباع ما هو موجود فى الكون، وهى المسؤولة عن خلق الجسيمات التقديرية، وتسمى أحيانا الجسيمات الوهمية، لإنها لا تدوم سوى لحظات ضيئلة للغاية، وتمر مرورا عابر دون أن تشاهد، لذلك فهى لا نعلم إن كانت موجودة حقا أم لا ؟
يعقد الكاتب مقارنة سريعة، بين فكرة الخلق والنشوء والتلاشى، وبين ما يقوله الصوفية حول سلسلتى النزول والصعرد، وأو الخلق والفناء، أو الحلول و الاتحاد، كما يعرضها صدر المتأليهن متجاوزا فكرة العلية، لصالح وحدة الوجود العرفانية.
طبيعة القوى المؤثرة :
---------------------
يواجه العالم اليوم مشكلة فى العجز عن توحيد القوى الكونية الأربعة معا : الكهرومغناطيسية و النووية الضعيفة والنووية القوية والجاذبية، وقد تم التوصل إلى توحيد الكهرومغناطيسية مع القوى النووية الضعيفة، وأيضا توصل العلم لبعض اشكال التوحيد بين القوى الكهروضعيفة و النووية القوية،، وتبقى المشكلة العويصة فى الجاذبية، فهذه القوة لا تقبل التوحد مع القوى الأخرى، ولا تقبل الانضمام لأية نظرية كوانتيه، وبالتى ووفقا للكوانتم، أصبح هناك عالمان مختلفان ولكل منهما تفسيره الخاص.. أما ما يخص النظرية النسبية، فقد أمضى آينشتاين الثلاثين عاما الأخيرة من عمره محاولا إيجاد صيغة توحد الجاذبية مع القوى الكهرومغناطيسية لكنه لم ينجح.. على هذا تحاول نظرية الأوتار الفائقة ( لم نتعرض لها حتى الآن ) أن توحد بين النسبية وبين الكوانتم، عن طريق افتراض أبعاد عشرة وربما أكثر للكون، وبحسبها تعبر جميع القوى الأربعة عن الجاذبية فى أشكال مختلفة، فالكهرومغناطيسية هى شكل للجاذبية عند البعد الخامس، وكذلك القوى النووية الشديدة والضعيفة هى شكل للجاذبية فى الابعاد من ستة إلى عشرة.. ومن الواضح أن هذا الحل هو حل افتراضى ولم يثبت بأية صيغة تجريبية حتى الآن..
المضمون الفكرى للكوانتم :
---------------------------
يمكن تحديد المضمون الفكرى للكوانتم من خلال النقاط الأتية :
تأويلات الواقع الكمومى : جسيم أم موجة ؟
يتصرف الكائن المجهرى بسلوكين مختلفين تمامما، أحدهما يغلب عليه الطابع الجسيمى، والآخر يغلب عليه الطابع الموجى، ففى الاتجاه الجسيمى نجد رؤى ومذاهب متعددة، وكان من أبرز من ركز على هذا الاتجاه ماكس بورن وفيرنر هايزنبرغ، إذ اعتبرا المادة جسيمات لا تخضع للطريقة المألوفة من قوانين السببية والحتمية، أما الاتجاه الثانى فقط سلم بالطابع الموجى كأساس، وقد تم الاعتماد على على ما توصل إليه دى بروى من أن التداخل من أن كل جسيمة يقودها موجة مرتبطة بها، وإن طول موجى واحد للالكترون مثلا هو عندما يكون أقرب للنواة، ومن ثم طولين موجيين فى المدار الذى يليه وهكذا.. فاستنادا إلى دى بروى، قام شرودنجر بتطوير النظرية وتحويلها إلى صيغة رياضية متماسكة.
.. ولقد تبين بأن هناك تكافؤا مدهشا بين التأويلين الجسيمى والموجى، كالذى اكتشفه شرودنجر وباولى وإيكارت، وكذلك ما اعترف به هايزنبرج فى كتابه ( المبادىء الفيزيائية ) من وجود التكافؤ التام بين مفهومى الجسيم والموجة.. لذا توجد تأويلات ونزعات علمية كثيرة تعتمد على هذا أو ذاك، أو تحاول الجمع بينهما كما فى ا لمبدأ التالى..
مبدأ عدم اليقين ومثنوية الجسيم الموجة ( مبدأ التتام )
-------------------------------------------------
هناك من حاول أن يفسر المبدأ وفقا للحالتين الجسمية والموجية، ففى حالة التفسير الجسيمى، نجد أنه عند قياس موضع الالكترون وحركته فإنه من المستحيل معرفتهما بدقة، لإنه من المستحيل أن يدرك ما هو أصغر من الفوتون أو شعاع الضوء الذى يستخدم للقياس،، فإذا رصدنا الجسم باستخدام كمات أو فوتونات منخفضة التردد فإن موضع الالكترون سيصبح بالضرورة غير محدد، أما الكمات العالية التردد فستفضى إلى عدم إمكان تحديد حركة الالكترون، لإن الالكترون المحمل بطاقة عالية يعطى الالكترون دفعة شديدة عندما يتركه، فرغم أن للاكترون موضع محدد وحركة محددة، إلا أنه لا يمكن تحدديد الاثنين معا، فإما أن نحدد هذا أو هذا.
وهناك تأويلات عديدة، لكن أهمها ما قدمه نيلز بور ( أستاذ هايزنبرغ مكتشف المبدأ، وقد قام بينهما نزاع علمى على تسمية المبدأ وأخيرا اشتهرت تسمية مكتشف المبدأ هايزنبرغ : "مبدأ عدم اليقين" على تسمية أستاذه بور: "مبدأ التتام" )، وتأويل بور مفاده أن معرفة جوانب منظومة ما تحول دون معرفة جوانب أخرى من هذه المنظومة، وقد طبق بور هذا المبدأ على علاقة موضع الجسم بالزخم أو الاندفاع...ومن الطريف أن بور طبق هذا المبدأ على العلوم الأخرى غير الفيزيائية، ومنها تطبيقه على الكائن الحى ( علم البايولوجيا )، وهو يرى أن معرفة الكائن الحى بكليته لا بد أن تحجب عنا معرفة أجزائه الخلوية، والعكس صحيح، وكان بور يقول لزميله روزنفيلد : " ما خلصت إلى حكم محدد حول شىء ما فإنك تخون مبدأ التتام "، مما جعل هاينزنبرج يقول عن استاذه أنه فيلسوفا أكثر منه فيزائيا، وعندما كان آينشتين يعترض على نظرية عدم اليقيم ( أو التتام ) والذى ينطوى على حرية أو عشوائية الذارت فى التصرف، ويتعارض مع قاون السببية، فيقول " أن الإله لا يلعب النرد "، كان بور يرد عليه قائلا " لا تخبر الله عما ينبغى عليه أن يفعله " !
يختتم الكاتب هذا الفصل بقوله : " علينا أن ندرك أن الفيزياء كعلم لا تهتم بالواقع كالفلسفة،بقدر ما تهتم بأن قوانينها منتجة ومفيدة، كأن يكون لها القابلية على التنبؤ والاكتشاف وسعة التفسير، وبالتالى ما ندركة من مصادمات الفيزياء مع المبادىء الفلسفية، يمكن أخذه بهذا الاعتبار الهرمنطيقى، وأن هنااك حلقة مفقودة، لم تكتشف بعد لمعرفة الاتساق الذى يجعل من الفيزياء منطبقة تماما عند الحديث عن الواقع، أو عندما تتغير تعبيراتها من الرياضيات إلى الواقع عبر الهرمنة والتأويل. ( ص 187)
****
يتراءى للقارىء لأول وهلة بأن هناك تأويلات عديدة حول طبيعة الشىىء أو الجسيم، حتى لدى الشخصية الواحدة أحيانا، وقد تكون الأطروحات التأويلية أربعة، وإن أمكن رد بعضها للبعض الآخر كما يلى :
* الشىء غير محدد فى موضع ما أصلا، وفقا لنتيجته الإحتمالية، مما يعنى وجود عالم موضوعى غير عالم الواقع، وهو ما يطلق عليه الكاتب يحيى محمد عالم الإمكان.
* الشىء موجود هنا وهناك، وهو ما يفارق البديهية العقلية، التى تقول بأن الشىء إما أن يكون هنا أو هناك، ومن المحال أن يتصف الشىء بمكانين مختلفين فى الوقت ذاته.
* للشىء وجود تعددى مضاد، بمعنى أن الأمر ليس مجرد تعدد فى الموضع، بل هناك تضالد فى الشىء ذاته، فهنا يظهر الشىء بصورة، وهناك يظهر الشىء بصورة مضادة.
* للشىء نسخ متعددة بلا حدود، الأمر الذى تم تطبيقه على الكون، فأصبح الحديث الفيزيائى عن الجسيم يتحول إلى الحديث عن نسخ للكون غير متناهية العد.
يلخص الكاتب النقاط الأربعة كالتالى : إمكان» وجود » مثنى مضاد » تعدد بلاحدود (ص 202)، ثم يشرح بالتفصيل تلك النقاط الأربع.
النظام الثالث : التخمينى الميتافزيقى : نظرية الأوتار الكاملة
------------------------------------------------------
الفصل الثالث ( 63–86 )
يمتاز هذا النظام بأنه كثيرا ما يعتمد على مقررات النظام الذى قبله ( النظام الثانى الافتراضى )، كما هو الحال مع فيزياء آينشيتن ونظرية الكم، برغم التعارضات بينهما كما أوضحنا سابقا.. فقد مال الفيزيائيون فى النظام الثالث إلى طرح أفكار مهما كانت مجردة وبعيدة، دون أن يملكوا عليها دليلا، طالما أنها لا تتصادم مع قوانين الفيزياء.. وكثيرا ما ينشأ النزاع العلمى بين أصحاب النظريات المتعارضة، أو حتى ببن أتباع النظرية الواحدة، فمن ذلك ما حدث بين ماكيويجو وزميله ستيفن ألكسندر، حول البحث المتعلق بتغيير سرعة الضوء، إلإ أنهما انتهيا فيما بعد إلى اتجاهين متعاكسين، أحدهما يميل إلى الاتجاه الرياضى الصرف، كالذى تتبناه نظرية الأوتار الفائقة والمتمثلة فى نظرية ( M ) ولعل أقرب المعانى لها هو أنها أم النظريات Mother أو نظرية الأغيشة البرانية، و هى نظرية ذات أحدى عشر بعدا وما زالت تحت التطوير، وهو الخيار الذى اختاره ألكسندر، فيما عاكسه ماكيويجو لاعقتاده بأن النظرية الفيزيائية بحاجة إلى النتائج التجريبية.
أبرز ما جاء من نظريات تخمينية، لهذا النظام هى تلك المتعلقة بظروف نشأة الكون الأولى، أو حتى ما قبل ذلك، وأيضا النظريات التى تعول على وجود أكوان متعددة متوازية لا تحصى، بعضها يجهل البعض الأخر تماما.
كذلك أبرز ما يصادفنا حول نظرية نشأة الكون نظرية الفيزيائى غوث ( Guth ) خلال الثمانينات، فى التضخم الكونى، فوفقا لها أنه خلال جزء ضئيل جدا من الثانية، تضخم الكون وتضاعف بشكل عظيم.. أما حول الأكوان المتعددة فقد افترض أن واقعنا الكونى ليس هو الواقع الوحيد، كما اقترح ذلك إيفيريت ( عام 1956 ) اعتماد على ما يعرف بقطة شرودنجر، أو ما اقترحة الفيزيائى الروسى أندريه ليند من أن ظروف التمدد التضخمى قد تكررت مرات ومرات فى مناطق معزولة منتشرة فى الكون مؤدية إلى عوالمم جديدة منفصلة ضمن شبكة كونية لا نهائية، بحيث تتوالد ذاتيا، لذا فهو قد انتقد الحالة غير المستقر لبداية الانتفاخ الكونى لدى غوث، واستبدل النظرية بتضحم مستمر بدون نهاية.. كما لاحظ لى سمولين أن ظروف الانفجار العظيم تتشابه مع مراكز الثقوب السواداء، وعليه اقترح أن كل ثقب أسود هو نواة لعالم جديد، يخرج للوجود عبر انفجار هائل، لكنه محتجب عن أنظارنا، للأبد من خلال أفق حدث الثقب الأسود..
لكن أول ما يمكن الاعتراض على الأكوان المتعددة التى لا تحصى، هو أنها لا تنسجم مع البساطة أو حد أوكام ( الذى يهتم ببساطة الفروض )، فبدلا من أن يكون الاهتماما منصبا على كون واحد منتظم، فإنه يتحول إلى أكوان مختلفة افتراضية لا تحصى، لذا فقد وجدت النظرية شجبا من العديد من الفيزيائيين باعتبارها موغلة فى الخيال والافتراض دون أدنى دليل.
ومن بين الاعتقادات التخمينة أيضا الاعتقاد بالثقوب الدودية، كالتى خمنها العالم الألمانى شوارتزتشيلد اعتمادا على النسبية العامة لاينشتاين.. وقد وصف بعض الفيزيائيين الثقوب الدودية التى يمكن استخدامها فى السفر فى الزمان والمكان وتجاوز العوالم المشهودة، بأنها أشبه بروايات الخيال العلمى، أكثر منها علمية.. ويتساءل البعض ضمن هذا النظام الفيزيائى ( الجديد ) إذا ما كان ممكنا للزمان أن يجرى للخلف ؟ وعما إذا كان من الممكن للبوزترون أن يكون إلكترونا يتحرك وراء الزمان ؟ بل وفى هذه الحالة، ربما لا يكون فى الكون كله، سوى الكترون واحد، يتحرك بسرعة فائقة فى كلا الاتجاهين ذهابا وإيابا.
لذا فقد أخذا الفيزيائيين فى هذا النظام يناقشون كيفية وجود هذا الكون وما يستدعى ذلك من مناقشة وجود الله، والكثير من التخمينات تبدى سذاجة فائقة فى هذا المجال، حسب ما يقوله الكاتب يحيى محمد.
نظرية الأوتار كأمل لخاتمة الفيزياء
-------------------------------
تتأسس نظرية الأوتار على فكرتين متصلتين، هما تكثر الأبعاد الفضائية والأوتار.. وتستمد فكرة نظرية الأوتار على وجود أبعاد جديدة، فإذا كانت الجاذبية محمولة فى فضاء ثلاثى الابعاد، فلماذا لا تكون القوى الكهرومغناطيسية هى الآخر محمولة فى أبعاد أضافية أخرى ؟ فى نظرية الأوتار يتطلب أن يكون لها أبعادا إضافية أكثر من أربعة حتى تتماسك رياضيا.. فى البداية كان الافتراض أن هناك ( 26 ) بعدا، ثم انخفض إلى عشرة أبعاد ( عام 1971).. وأكدت النظرية على أن الكون ذات عشرة أبعاد، ستة منها مجعدة والوتر مغروزا فيها.
ظلت مشكلة نظرية الأوتار قائمة بتعددها، وكثرة حلولها الرياضية، دون أن يعرف أحد إلى أين ستنتهى، وقد قال الفيزيائى آندى آلبخت غاضبا : " إن نظرية الأوتار ليست نظرية كل شىء، بل هى نظرية أى شىء ".
يختتم الكاتب يحيى محمد هذا الفصل تحت عنوان : الفيزياء وعودة الفلسفة، ويشير فيه إلى أنه على خلاف الأمال السابقة بالوصول إلى نظرية كل شىء، نجد بأن النظام الثالث الذى عمل على الخلط بين العلم والميتافيزيقا، سوف لا يجعل الفيزياء تصل إلى نهاية محتومة.. والدليل على ذلك هو أنه لو تم معرفة القوانين التى تتحكم فى الكون منذ الانفجار العظيم، فإن ذلك يستدعى البحث عن القوانين أو الحالة التى كان عليها الكون قبل الانفجار، رغم أن البعض قد تحدث عن ذلك فعلا، وكأنه تحدث عن شىء قبل أوانه.. فكان من بين الاسئلة المطروحة، التى لا تجد لها حلا، لماذا كان هناك وجود للكون أصلا ؟ ولماذا كان بهذا الشكل دون شكل آخر ممكن ؟
.. ومع عودة الفيزياء للفلسفة، إلا أن الكاتب يحيى محمد، يحذرنا من الاعتقاد بأن التفكير العلمى والفلسفى يتساويان، فشرط النظام الفيزيائى للعلماء أنه قائم على الاعتبارات العلمية وليس بديلا أو منفصلا عنها.. لقد كان الفلاسفة القدماء يطبقون قواعدهم على العلم، أما اليوم فأصبح من الصعب قيام فلسفة للمعرفة الوجود دون أن تتأثر بالعلم، بل صار الأخير عدسة تنفذ من خلالها طبائع الوجود والمعرفة معا، وبدونه ليس من السهل تحديد شىء خارجى.. وعلى ذلك كان لا بد للمنظومات الفلسفية ذات الاطار الانطولوجى ( الوجودى ) أن تزواج بين أطروحتها وما يقدمه العلم من نتائج ونظريات.
أيمن عبد الستار:
مهندس مدنى، مهتم بشؤون الفكر الاسلامى والعالمى، أصدر كتاب " مذكرات مسلم ليبرالى "، ويقوم حاليا بتجهيز كتاب تحت عنوان " الاسلام والحداثة "