يحيى محمد
للاشعور عناصر أساسية نعتقد أنها تتحدد بثلاث مساحات أو عوالم مختلفة، هي: الفعل والإنفعال والتعتيم، وذلك كالتالي:
فهناك العنصر النشط الفعال، وهو الذي يعمل على تزويدنا بالخواطر والأفكار والإبداعات والميول والمزاج من دون وعي منا، بل وانه يقوم بايقاظنا عندما نريد ان نستيقظ في وقت معين خلال النوم، وقد يقوم بتنبيهنا خلال هذه الحالة عندما تنطلق كلمة من شخص ما تحمل أهمية خاصة بالنسبة لنا. ولدى صغار العمر يقوم هذا العنصر باسترسال الخواطر ضمن ما يعرف بأحلام اليقظة.
كما هناك العنصر المنفعل، فقد يكون منشأ الإنفعال داخلياً في صميم اللاوعي من دون اكتساب من الخارج. ويضاف إليه ما ينساب إلينا من أشياء خارجية مكتسبة بلا وعي منا. فقد تترسخ هذه الأشياء بعد اندساسها في النفس، وقد تنشط وتفعل أفاعيلها من دون وعي؛ تبعاً للعنصر الأول النشط. ويعود إلى هذا الصنف ما يتعلق بالقضايا المكبوتة.. فهي رغبات باطنية لا تقوى على الظهور بفعل الطابو والقهر الإجتماعي، لكنها تظل متأهبة للظهور عند سنوح الفرص المناسبة، وقد تظهر هذه الرغبات في صور متنكرة مختلفة، ومن خلالها يظهر الابداع وفق تصور مدرسة التحليل النفسي، كما من خلالها تظهر هفوات اللسان وزلات القلم استناداً إلى العنصر النشط. ومما يذكره فرويد حول الحالة الأخيرة أنه كان هناك سفّاح أوهم الناس بأنه اختصاصي في دراسة الجراثيم، فكان يحصل من المعاهد العلمية على جراثيم مزروعة ذات أثر مرضي شديد الخطورة، ويسخر هذه المزروعات للقضاء بمثل هذه الطريقة العصرية على من تجمعهم وإياه صلة جوار من الناس. وقد وجّه هذا الرجل يوماً إلى إدارة معهد رسالة يتشكى فيها من عدم فعالية المزروعات التي أرسلت اليه، لكن قلمه كبا به فكتب: «في تجاربي على الجيران»، بدلاً من «تجاربي على الفيران». وقد استرعت هذه الزلة انتباه أطباء المعهد المذكور، لكن من دون ان يستخلصوا منها اي استنتاج[1].
كذلك هناك العنصر المعتِّم، والذي يعمل على إغفالنا للأفكار والأفعال والأشياء التي نتفاعل معها، وقد يكون للعنصر الأخير من النشاط ما لا يجعلنا نشعر بالمخاطر، بل وبما يصيبنا من مكاره وشدائد، كالذي يتعرض له الصوفية عبر نشاطات الدروشة وما شاكلها من فعاليات. فمثلاً كثيراً ما تكون عقائد الناس محجوبة ومعتّماً عليها نتيجة الرواسب اللاشعورية، بدلالة انه قد يحصل للفرد هزة من الوعي بها أو ببعضها فيعجب كيف انطلى عليه وهم العقيدة مع ان حقيقتها ظاهرة للعيان دون أدنى شك[2]. فما الذي يجعل الفرد لا يرى الحقائق كما هي رغم ان حقيقتها واضحة غاية الوضوح؟ فما ذلك إلا بفعل التعتيم اللاشعوري، حيث يصاب المرء بنوع من العمى نتيجة الفعل المعتم للاشعور. وكما جاء في القرآن ((فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))[3]. وينطبق هذا الحال على الخداع السياسي الذي تصاب به الشعوب عادة، ففي بلداننا العربية مثلاً كثيراً ما تكون الجرائم الكبيرة لبعض السياسيين محجوبة في اللاشعور لمجرد انه يقوم ببعض الأعمال التي ترضي الوجدان الشعبي، من قبيل الصراع مع أمريكا، أو تهديد اسرائيل.
ومن حيث اللاشعور إن الناس لا ترغب في أن ترى الحقائق الإجتماعية والدينية كما هي، وما يهمها هو ارضاء ما ترسّب لديها من قضايا تألفها، فتحب وتغضب لهذه الرواسب، دون أن يكون لذلك علاقة بالبحث عن الحقيقة الموضوعية. فالمبالغة في تمجيد الشخصيات التاريخية، أو الحكم عليها بأبشع حالات الإجرام، كثيراً ما يخضع إلى هذا الهوى اللاشعوري؛ بعيداً عن العلاقة بالواقع الموضوعي. وهنا نفهم طبيعة الصراع السني الشيعي الدائر حول عدد من الشخصيات التاريخية. فالدفاع والهجوم محموم بهوى الترسبات اللاشعورية، والهدف اللاشعوري من ذلك هو ارضاء هذه الأصنام المترسبة كعقيدة محجوبة من غير أن يكون لها صلة بحقيقة ما عليه تلك الشخصيات.
ووفق التقسيم السابق للاشعور فإن سمة (العقل الباطن) تناسب العنصر الأول النشط فحسب، ولا مجال لتمديده إلى العنصرين الآخرين. يضاف إلى ان العنصر الأول منقسم إلى ما له علاقة بالعقل فيجوز اطلاق سمة العقل الباطن عليه، والى ما لا علاقة له بذلك، كالنشاط المتعلق بالميول والمزاج. وبالتالي تصبح عناصر النفس اللاشعورية أربعة، هي: العقل الباطن والفعل (النفسي) والإنفعال والتعتيم.
والملاحظ ان ما نسميه بعالم اللاشعور هو مساحة عامة لعوالم مختلفة قد لا يكون لبعضها علاقة بالبعض الآخر. فعالم العقل الباطن والخواطر المعرفية الحدسية لا علاقة له بالأمزجة والعنصر المعتم السالف الذكر.
وسبق لفرويد أن اعترف بوجود عنصر للاشعور غير ذلك المتعلق بالكبت، ويسميه (ما قبل الشعور) أو (قبل شعوري)، ويعرفه بأنه كامن ويمكنه ان يكون شعورياً من دون مقاومة، لذلك فهو لاشعوري بالمعنى الوصفي فقط، وليس بالمعنى الديناميكي الذي يتصف بالكبت ويلقى مقاومة كي لا يظهر على مسرح الشعور. وبالتالي فهناك الشعور وما قبل الشعور واللاشعور الكبتي. فكل ما هو مكبوت فهو لاشعوري، وليس العكس صحيحاً، أي ليس كل ما هو لاشعور مكبوتاً، فما قبل الشعور ينتمي إلى عالم اللاشعور وإن كان لا يعود إلى المكبوت. فمثلاً ان العمليات العقلية الدقيقة والمعقدة التي تتطلب في العادة انتباهاً شديداً من الممكن ان تحدث بما قبل الشعور من دون ان تظهر في الشعور، كالذي يحدث أثناء النوم، أو عندما يجد شخص ما عقب استيقاظه مباشرة حلأ لمشكلة رياضية صعبة، أو أي مشكلة أخرى كان يحاول حلها عبثاً في اليوم السابق مثلاً. وعموماً يتصف ما قبل الشعور بالصور اللفظية، وهي الآثار الباقية في الذاكرة، وقد كانت في وقت ما مجرد إدراكات حسية، لذلك فإن من الممكن أن تصبح شعورية مرة أخرى[4].
[1] فرويد: مدخل إلى التحليل النفسي.
[2] انظر حول ذلك: العقيدة والرأي، ضمن كتاب: علم الطريقة.
[3] سورة الحج / آية 46.
[4] فرويد: الأنا والهو.