-
ع
+

الحضارات المنظرة للعالم

يحيى محمد

لعل من المسلمات الأساسية للفكر الحديث إعتباره أن تاريخ البشرية - ككل - لا يحتضن سوى ثلاث حضارات ثقافية منظّرة للعالم والمعرفة، هي الحضارة اليونانية القديمة، والحضارة الإسلامية الوسيطة، والحضارة الغربية الحديثة التي ما زالت ممتدة منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا.

وبعبارة أخرى، أن الفكر الحديث لم يشكك في كون هذه الحضارات الثلاث هي وحدها التي قدّر لها أن تتمظهر بمظهر الثقافة المنظمة من التنظير والتفكير بعيداً - نسبياً - عن الرؤى السحرية والاسطورية. فعلى الرغم من ظهور حضارات كثيرة ظلت حية ردحاً طويلاً من الزمن قبل أن تتلاشى وتصبح اثراً بعد عين، إلا أنه لا يوجد ما يؤكد بأنها مارست مهام التنظير المنظم في علومها ومعارفها. ومع ذلك فهناك ظنون قديمة تثار ضد أصالة العلم اليوناني بإرجاعه إلى صيغة مستلبة من حضارات الشرق القديمة، كالقول الذي ينقله الفارابي في (تحصيل السعادة) من أن للفلسفة وجوداً عند الكلدانيين في العراق ومن ثم في مصر قبل إنتقالها إلى اليونان[1]. كما هناك مزاعم وآمال قد علّقها القدماء لإثبات أصالة التنظير لدى بلاد فارس في بعض العلوم، مثل المنطق والفلسفة وما على شاكلتهما، كالذي يخبرنا عنه إبن سينا في مقدمة كتابه (منطق المشرقيين)، وكذلك شيخ الإشراق السهروردي الذي يُرجع فلسفة الإشراق إلى ما قبل اليونان في بلاد فارس.

بل من المعاصرين من وصف الفلسفة اليونانية بأنها مسروقة من حضارة مصر القديمة، وصيغ هذا المعنى بعنوان (التراث المسروق) لكتاب الباحث الأمريكي (جورج جيمس). ومن بين ما اعتقده هذا الباحث هو أن أرسطو قد استولى على كتب الاسكندرية أيام فتوحات صديقه الاسكندر وسرق منها ما شاء له من الأفكار والآراء ونسبها إلى نفسه. لكنه لم يقدّم دليلاً على دعواه سوى أن المنسوب إلى أرسطو من الكتب ما يفوق قدرة رجل واحد طوال حياته[2]. والحقيقة أن كثرة ما كتبه أرسطو تدل على الزخم العلمي الذي وصل إليه الفكر في تلك الفترة، رغم أن أغلبه تعرّض للضياع، ولم يبق ما يدل عليه سوى إشارات أرسطو وغيره من القدماء عنها. وقد كتب بعض رجال الحضارة الإسلامية أضعاف ما كتبه أرسطو، كمحي الدين بن عربي الذي وصلت مؤلفاته إلى ما يقارب خمسمائة كتاب ورسالة. وقد تُفسر هذه الكثرة، سواء لأرسطو أو لغيره، بأن القدماء اعتادوا أن يضمنوا كتبهم نصوص غيرهم التي يتبنونها دون أن ينسبوها إلى الغير، فيظن القارئ أنها عائدة اليهم، والحال أنها مقتبسة من الآخرين ضمن ما يعرف حديثاً بالتناص. فمثلاً الكثير مما كتبه إبن سينا هو مقتبس من الفارابي دون الإشارة إليه. كذلك توحي الكثير من كتابات صدر المتألهين بأنها من بنات أفكاره لأنه يتبناها ولا يشير إلى غيره فيها، مع أن الكثير منها يعود بالحرف الواحد إلى من سبقه من الفلاسفة والعرفاء، كالغزالي وابن عربي والقيصري والآملي وغيرهم، دون الإشارة إليهم، طالما ذلك لا يعتبر عندهم من السرقة الفكرية.

نعم، إن ما ثبت بالدليل لحد الآن هو أن مجمل الأفكار الفلسفية التي تبناها الفلاسفة اليونانيون نجد جذورها عند الحضارات القديمة وعلى رأسها الحضارة الفرعونية المصرية، رغم أنه لم يعثر الباحثون على دليل يثبت بأن هذه الحضارات قد مارست البحث في الأسباب والأدلة عند طرحها للرؤى والأفكار كالذي مارسته الحضارة اليونانية بأصالة. فالأفكار القديمة المطروحة هي أقرب للتأملات العرفانية والرؤى الاسطورية، ومع ذلك لم يمنع اليونانيين من التعويل عليها وإعتبارها أساساً للبحث والتفكير. وبالتالي فقد أصبح الفكر اليوناني إنعكاساً لفكر ما سبقه من حضارات رغم إختلاف طريقة إنتاج هذا الفكر أو تبريره. لذا جاز لنا أن ننزع على ما قدّمه اليونانيون نزعة الأصالة، لكونهم أول من بدأ بالبحث في الأسباب للقضايا الفلسفية أو القضايا العامة المتعلقة بالكون والوجود، وهي الصورة التي تعطي للبحث طابعه النظري من الناحية العلمية. رغم أن هذا الموقف لا يمنعنا من إرجاع هذه الأصالة – بإعتبار آخر – إلى الحضارات القديمة، لتأثر اليونانيين بمن سبقهم وأخذ الكثير عنهم، سيما حكماء مصر القدماء، ومن ذلك نظرياتهم المتعلقة بالفيض ووحدة الوجود، مع الأخذ بعين الإعتبار أن هذه الأفكار قد طُرحت مقطوعة الصلة عن أدلتها وإعتباراتها «العلمية».

هكذا نعتبر بأن الأصل في التفكير الفلسفي تارة يتمثل باليونان، وأخرى بمصر الفراعنة، وذلك للإعتبارين الآنفي الذكر. فمن حيث المضمون المعرفي تكون مصر هي (الحضارة الأم) أو الأصل في التفكير الفلسفي، أما من حيث المنهج العلمي المتمثل بالبحث في الأسباب والأدلة فإن اليونان هي من تتقدم على غيرها من الحضارات الأخرى. ولنقل أن الحضارة الأم هي (فرعو ـ يونانية)، مع الأخذ بنظر الإعتبار أن باقي الحضارات المعروفة، كالبابلية والهندية والصينية، قد ساهمت ضمن هذه الحلقة من الحضارة الأم. وكل ذلك لا يدع فرصة لرد التفكير الفلسفي وعموم الظاهرة المعرفية إلى التفسير العرقي أو الجغرافي أو غير ذلك من التفاسير البرانية.

ومع أن حضارات العالم الثلاث لم تتزامن مع بعضها، إذ الحضارة الإسلامية جاءت بعد أُفول الحضارة اليونانية أو الـ (فرعو ـ يونانية)، كما أن الحضارة الغربية أخذت تنمو باطراد وقت تراجع الحضارة الإسلامية وتقهقرها، فالملاحظ أن هناك خطاً زمنياً وراء البزوغ والأُفول يدعو الباحث إلى أن يتساءل عن علاقة هذه الحضارات ببعضها: فهل كانت تبحث عن إشكالية مشتركة، أم لكل منها إشكاليتها الخاصة؟ ثم هل كانت تعبّر عن علاقة خطية واحدة ذات حلقات متصلة بحيث يستضيء بعضها بنور البعض الآخر، أم أنها تمتاز بقواطع معرفية تامة؟ أو كونها تشكل هجيناً مخضرماً من الإمتزاج والتداخل في الثقافة المتبناة، إلى الدرجة التي تغيب عنها الأصالة المطلقة باستثناء الحضارة الاصل؟ وبعد ذلك: هل أن هذه الحضارات كانت تعبّر عن طموح موحد وهدف مشترك، أم أنها تضاربت في الميول والغايات؟

هذه التساؤلات المتلازمة ضمن «إشكالية الحضارة» قد تنقلب إلى تساؤلات موظفة للبحث عن شؤون حضارتنا «الغائبة». إذ كانت بين حضارتين، فهي حضارة «ما قبل» و«ما بعد»، مما يعني أن السؤال الذي قد يجول في الأذهان هو عما إذا كان لحضارتنا شيء من التأثر والتأثير على الحضارتين الأخريين، فهل هي عبارة عن انجرار ثقافي لحضارة «ما قبل»، في الوقت الذي كان لها دور في ضمان خط التواصل الحضاري، بتحويل اكسير الحياة ومنحه إلى حضارة «ما بعد»، أم أنها شيء آخر مختلف؟

ربما يذكرنا هذا التساؤل بلحظة التزامن بين ظاهرتي التراجع والتقدم للحضارتين الإسلامية والغربية، مما قد يبعث في الأذهان تصور بأن الحضارة الأولى لم يكن لها أن تتراجع لولا ما أعطت من ذاتها مقومات الحضارة الأخرى، فأصيبت من جراء ذلك بالنحول والعجز، وأن الأخرى لم يشأ لها القيام لولا أنها امتصت مصادر القوة والقدرة من الأولى.

وقد ينقلب السؤال الآنف الذكر إلى طرح معاكس، فيمكن أن نتساءل عما إذا كانت حضارتنا تحمل خصائص أصيلة، تجنبها الوقوع في التداخل الثقافي مع الحضارتين الأخريين، كدائرة مغلقة وسط هاتين الدائرتين؟

لكي نستوضح طبيعة التواصل الثقافي والعلاقة بين حضارات العالم الثلاث، ودور حضارتنا وسطها، لا بد أن نتعرف أولاً عن طبيعة الإشكالية التي استقطبت تفكير كل منها.

ويبدو أنه لا توجد صعوبة لتحديد نوع الإشكالية التي استغرقت تفكير الحضارة الغربية، فمن المعلوم أن هذه الحضارة تتصف أساساً بالعلم والتصنيع والتنظيم، سواء التنظيم الإجتماعي أو السياسي أو الإقتصادي أو الاداري أو العلمي... الخ. فهي بالتالي حضارة علم وصناعة وتنظيم.

أما نوع الإشكالية التي استنفدت جهد التفكير داخل الحضارة اليونانية فهي الفلسفة والغنوص، بما تعبّر عن تأملات الوجود ومراتبه الحتمية إستناداً إلى بعض المبادئ الأساسية وبعيداً عن التجربة والتحقيق العلمي، وبالتالي فهي حضارة ميتافيزيق أو ما وراء الطبيعة. فمع أن وظيفة هذه الحضارة كانت من أجل توضيح حقائق الوجود بما في ذلك الكشف عن علاقات الطبيعة، لا سيما لدى طبيعيات أرسطو، إلا أنها ليست حضارة علم وفيزيقا بالمعنى المألوف لهذه الكلمة. فهي لا تبحث عن الطبيعة كـ «موضوع في ذاته» أو من خلاله، بل على العكس أنها تحدد العلاقة معها بطريقة التعالي الترانسدنتالي على ضوء المبادئ المسلّم بها سلفاً. فهي تعتبر نظام الطبيعة لا يختلف عن نظام العقل، فما يقرره العقل هو نفسه ما يطابق الطبيعة والعالم أجمع. بل أن معنى العقل كما حدده أرسطو إنما يعني النظام الكلي للعالم، وهو نفس التحديد الذي سار عليه فلاسفة الإسلام، والذي يستبطن القول بوحدة الوجود كلازم من لوازم قانون «السنخية» أو التشابه بين مراتب الوجود، وهو ما لم يفارق العقل اليوناني كطريقة للتفكير، كما لم يفارق سائر إمتدادات هذا العقل لدى كل من فلاسفة العهد الهيلنستي والإسلامي. فقانون السنخية هو أساس التفكير الذي حدد نماذج العقلية اليونانية منذ أول فلاسفة اليونان طاليس وحتى أرسطو، بل وقبل ذلك لدى حكماء مصر الفرعونية، ومثلهم حكماء الهند، وظل يتحكم في طريقة الإنتاج الفلسفي، سراً وعلانية، حتى تكشفت استاره مع فلاسفة العهد الهيلنستي والإسلامي، كالحال مع نومينيوس وافلوطين وفورفوريوس والإسماعيلية والفارابي وإبن سينا والغزالي وإبن باجه وإبن رشد وإبن طفيل ومحي الدين بن عربي وصدر المتألهين وغيرهم.

أما إشكالية الحضارة الإسلامية فهي ليست مشحونة بحمولة فيزيقية كالحال مع حضارة «ما بعد»، ولا بحمولة ميتافيزيقية مثل حضارة «ما قبل»، بل كانت تعبّر عن العلاقة بين الفيزيق والميتافيزيق، بين عالم الشهادة وعالم الغيب، بين الإنسان وخالقه. فإذا كانت إشكالية حضارة اليونان ذات طبيعة وجودية حتمية مصدرها السنخية، وكانت إشكالية حضارة الغرب تتردد بين الحتمية ونفيها ضمن الوجود الطبيعي دون أن تتعداه، فإن إشكالية الحضارة الإسلامية ليست من هذا النمط أو ذاك، فلا هي طبيعية ولا وجودية عامة، بل معيارية تسود فيها قيم الدين والعبادة والفقه والكلام والتكليف، وبالتالي فإنها حضارة دين وفقه وكلام ولغة وأخلاق... الخ، وكلها تصبّ في «نظرية التكليف» التي تربط بين الغيب والشهادة بعلاقة الأمر والنهي والوجوب والحرمة والحلال والحرام والمستحب والمكروه والحسن والقبيح.

هكذا أن الحضارة الإسلامية هي «حضارة تكليف»، فأغلب العلوم التي استغرقتها هذه الحضارة تتعلق بهذه النظرية، سواء كـ «موضوع في ذاته» حين يكون موضوع العلم هو التكليف ذاته، أو كـ «موضوع لأجله» عندما لا يكون الموضوع هو التكليف، بل غرضه، كما في اللغة والكلام، مما يجعل من نظرية التكليف ليست مجرد إشكالية طغت على غيرها من الإشكاليات الأخرى داخل الحضارة الإسلامية، بل الأهم من ذلك أنها شكلت البنية الأساسية لجهاز التفكير في العقل الإسلامي. فإذا كان من الممكن لسائر الإشكاليات أن تنقطع وتندثر، فإن هذه الإشكالية لا يسعها الإنقطاع إلا بإندثار العقل الإسلامي ذاته، وهو ما يفسر لنا ظاهرة إمتداد هذا العقل وديمومته إلى يومنا هذا، وإن كان عيبه هو أنه اتخذ طريق الإستصحاب والتكرار، لا فقط مع الموضوعات التي كان يتناولها، بل حتى مع طريقة أداء دوره في التوليد، فهو يتحرك ضمن فضاء متعال على الواقع ليتخذ منه نقطة إسناد للإسقاط والنزول، وليعبّر في النهاية عن «حق الله» فيما يحدده المكلِّف من واجبات على المكلَّف.

إن ما يميز هذا العقل عن «الآخر» اليوناني والغربي، هو أنه وإن كان يتفق مع العقل اليوناني في تحديد المسار بين الفيزيق والميتافيزيق عبر الإسقاط والتنزل من فضاء التجريد إلى الواقع، خلافاً للعقل الغربي الذي إتّخذ مساراً معاكساً في الإتجاه، إلا أن ذلك لا يمحي صورة التعارض المستقطب لدى طبيعة قراءة هذا العقل بالنسبة إلى «الآخر». فإذا كانت القراءة لدى العقل اليوناني «وجودية حتمية»، ولدى العقل الغربي «طبيعية» لا تلتزم في الغالب بالحتمية المتشددة، بل وتتنكر لها أحياناً، كما يظهر مما لدى أصحاب جامعة فيينّا وأصحاب نظرية الكوانتم وغيرهم.. فإن قراءة العقل الإسلامي ليست من طبيعة ذلك «الآخر»، فهي قراءة «معيارية» لا تتناسب مع حتمية عقل «ما قبل»، ولا مع موضوع عقل «ما بعد»، وبالتالي فإنها ليست حتمية ولا طبيعية.

بل أن هذا التمايز بين العقول الثلاثة قد طبع أثره حتى في نفس مفهوم «العقل». إذ أصبح تعريف الأخير محدداً لطبيعة القراءة العقلية - أي طريقة الإنتاج المعرفي - لدى كل من الحضارات الثلاث. فلدى حضارة اليونان يقصد بالعقل بأنه النظام الكلي للعالم[3]. ولدى حضارة الغرب، فعلى ما صوره البعض بأنه قواعد مستخلصة من موضوع ما[4]. أما لدى الحضارة الإسلامية فهو في الدرجة الرئيسية عبارة عن قواعد للسلوك والأخلاق، كما يستخلص ذلك من المعاجم اللغوية وغيرها. فكما عرّفه المحاسبي بأنه «غريزة جعلها الله في الممتحنين من عباده، أقام به على البالغين للحلم الحجة»[5] وعرّفه إبن حزم بأنه «استعمال الطاعات والفضائل.. وهو في اللغة المنع: تقول عقلت البعير اعقله عقلاً..»[6]. وعرّفه القاضي الهمداني بأنه جملة من العلوم المخصوصة، متى حصلت في المكلّف صحّ منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ماكُلّف به. واعتبر وصفه بهذا اللفظ جاء لوجهين أحدهما - وهو ما نحن بصدده - هو «أنه يمنع من الإقدام عما تنزع إليه نفسه من الأمور المشتهاة المقبحة في عقله، فشُبِّه هذا العلم بعقل الناقة المانع لها عما تشتهيه من التصرف، والثاني أن معه تثبت سائر العلوم المتعلقة بالفهم والاستدلال. فمن حيث اقتضى ثبات سائر العلوم المتعلقة بالفهم والاستدلال شبّه بعقل الناقة المقتضي لثباتها»[7].

ومن الواضح أن التعاريف الآنفة الذكر للعقل تستبطن التمايزات لطبيعة الإشكالية والقراءة لكل من حضارات عقول العالم الخالدة. فالتعريف اليوناني يضمر خاصية التطابق بين العقل والعالم أجمع، طبقاً لإعتبارات السنخية من التشابه بين مراتب الوجود ككل، الشيء الذي يعني أن للعقل بنية مطلقة قادرة على تحديد علاقات الطبيعة سلفاً دون حاجة للتجريب والتحقيق. وعادة ما يولي النظام الوجودي للعقل الفعال صلة الوصل والتطابق بين العقل البشري والطبيعة أو الوجود الكوني، فهو مرآة لتصوير الواقع. إذ يعمل على صنع صورنا المتطابقة مع الواقع. وكما يقول صدر المتألهين: «ليس كما هو المشهور أن النفس تجرد الصور المحسوسة وتنتزعها عن موادها فتصيرها معقولة بالفعل.. فالمحسوس يستحيل أن يكون متخيلاً ثم معقولاً وهو هو بعينه.. ليت شعري أن النفس بقوتها العاقلة التي هي في ذاتها خالية عن صور المعقولات كلها، كيف تنال وتدرك المعقولات؟ وبأي شيء تنالها وتدركها؟ أبذاتها العارية الجاهلة المظلمة تدرك الأشياء الخارجية؟ ومن لم يكن بذاته مدركاً لشيء ولم يحصل لذاته بذاته شيء فكيف يدرك شيئاً اخر؟»[8]. فمبرر هذه المعرفة للواقع والتطابق معه مستمد من فيض العقل الفعال، كما يراه الفلاسفة، أو من حيث مرآة اللوح المحفوظ كما يراه الغزالي ومن على شاكلته من العرفاء. لكن مع ذلك فإن المبرر الحقيقي للتطابق بين العقل والوجود لدى النظام الوجودي إنما يعود إلى قانون السنخية.

أما التعريف الغربي فهو على خلاف التعريف اليوناني أو الوجودي لا يضمر تلك الخاصية من التطابق بين العقل والطبيعة، بل الشيء الذي يستبطنه هو ضرورة الإتصال بينهما كي يمكن استخلاص قواعد الأول من الآخر. وطبقاً لهذا التعريف فإن العقل لا يفرض نفسه على الطبيعة كما هو الحال مع العقل اليوناني، بل على العكس أنه يخضع لها؛ لا مجرد تابع فحسب، بل كمتظلل - أيضاً - بالنسبية التي يحملها الموضوع الخارجي، إذ تصبح بنيته نسبية هي الأخرى ما دام أنه يخضع باستمرار لإعتبارات التجربة والتحقيق التي يثيرها الموضوع الخارجي ذاته.

في حين أن «العقل» في التعريف الإسلامي الآنف الذكر ليس فيه أثر وجودي، ولا له علاقة بالطبيعة، فبنيته معيارية محددة سلفاً على نحو «الإطلاق»، وهو ما يجعلها تناسب إشكالية التكليف، إذ لا تكليف من غير معيار.

هكذا فالقراءة المعيارية للعقل الإسلامي تجعل من الحضارة الإسلامية تختلف جذراً عن حضارة «ما قبل» وحضارة «ما بعد». فهي حضارة فريدة اصيلة ليس لها نظير من قبل ولا من بعد. فالعقل الإسلامي يحمل بنية معيارية طبقاً للإشكالية التي استغرقته وكادت تستنفد طاقته ونشاطه الذهني، وهو ما يعطي المبرر الكافي للقول بأن حضارتنا هي حضارة معيارية، وبالتحديد حضارة تكليف قبل أن تكون أي شيء آخر.

ولا شك أن الإختلاف في نمط الإشكالية بين الحضارات الثلاث يعكس إختلاف الطموح الذي تهدف إليه كل منها. فطموح الحضارة الغربية هو «الهيمنة» بجميع أبعادها الطبيعية والإجتماعية، وما ظاهرة الاستعمار سواء كان احتلالاً أو انتداباً أو وصاية أو حماية أو غير ذلك، إلا صور متعددة تعبّر عن ذلك الطموح. وكذا ظاهرة الغزو الثقافي هي الأخرى تدخل في الإطار نفسه من الهيمنة والتي تأخذ أبعاداً خطيرة عبر سهولة وسرعة تداول المفاهيم والإعلام والثقافة الغربية نتيجة التقدم العلمي التكنولوجي والتقني.

أما طموح الحضارة اليونانية فهو «الكمال المعرفي» تبعاً لبلوغ العقل المفارق والإتحاد بعالم الغيب وتحقيق السعادة القصوى. وفعلاً أن التطور العقلي الذي شهدته اليونان له دلالة على هذا الطموح ذي البنية «الفردية» وسط مجتمع العوام. وقد صوّر إبن رشد الشريعة الخاصة بالحكماء بأنها الفحص عن جميع الموجودات «إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة، الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه»[9].

في حين يتحدد طموح الحضارة الإسلامية بالإنقياد تحت طاعة «حق الله»، بإعتبارها حضارة تكليف يهمها بالدرجة الأساسية أن يكون الإنسان في طاعة الله وعبادته تبعاً لـ «نص الخطاب»، وهو النص الذي صنعت منه إشكاليتها الخاصة.

إن إعتبار الحضارة الإسلامية «معيارية» من حيث الأساس قد يدفع بالبعض متحمساً للإعتراض والقول: أين ذهبت الفلسفة والتصوف والعلوم الطبيعية داخل الحضارة الإسلامية؟ وبعبارة أخرى: لماذا كانت حضارتنا حضارة تكليف دون الفلسفة والتصوف، وكذا العلوم الطبيعية التي عرفتها هذه الحضارة والتي أصبح من المسلم بأن لها أثراً كبيراً على تكوين حضارة الغرب وقيامها؟

أما عن الفلسفة والتصوف فليس فقط أنهما أقل حجماً وإهتماماً قياساً بعلوم نظرية التكليف من الفقه والكلام وغيرهما من علوم الشريعة، بل كذلك أنه ما قُدر أن يُكتب لهما النجاح إلا بإمتزاجهما بالشريعة، والعمل على التوفيق معها، سيما إذا لاحظنا المرونة التي امتاز بها نص الخطاب الديني بقابليته على التلون بمختلف الألوان، والتي أدركها المستشرقون من أمثال جولدتسيهر وهورتن وغيرهما.

والحقيقة إن مرونة النص الديني لا تتحدد في إمكانيات التأويل اللغوي والعقلي فقط، بل تمتد لتشمل القابلية على نفوذ الأنظمة الغريبة؛ بما فيها تلك التي تتعارض أساساً مع جذر بنية العقل الإسلامي وإشكاليته الخاصة. فمثلاً أن التصوف النظري حينما دخل وامتزج بالنص الديني وعلومه أصبح ينهج نهج السلف المحدثين ضمن نفس الشروط والإعتبارات من الأخذ بالظاهر وإنكار التأويل، رغم أن أساسيات التصوف - وكذا الفلسفة - ظلت كما هي دون تغيير، بل ما حدث هو أن القراءة (الصوفية ـ الفلسفية) أخذت تسلب الطابع المعياري لـ «نص الخطاب» وتحيله إلى طابع وجودي حتمي. فمثلاً تحول الطابع المعياري للنص القرآني ((قل كل يعمل على شاكلته)) إلى طابع آخر مختلف، إذ لم يُفسّر النص بما له علاقة بسلوك الإنسان، بل أصبح المقصود به هو أن كل شيء يخرج على شاكلة الله[10]، أو أن كل الموجودات تصدر بالضرورة على صورة لها نوع من الشبه بأصل الوجود طبقاً لمبدأ السنخية، وعلى شاكلة ما يروى «إن الله خلق آدم على صورته». كذلك النص القرآني الذي يقول: ((فلو شاء لهداكم أجمعين))، إذ تحول هو الآخر إلى الدلالة الحتمية، إذ فهمت المشيئة بما ينافي حرية الإرادة، بناء على إعتبار (الاشاءة) تابعة للعلم، والعلم تابع للمعلوم[11]، فكانت النتيجة سلب القدرة الإلهية، وكأن الآية تريد أن تقول: «فلو إستطاع لهداكم أجمعين».

فهذا ما كان عليه النظام الوجودي (للفلسفة والتصوف) ضمن سياق تعامله مع نص الخطاب دون إخلال بالطريقة العامة لنهج المحدثين في التمسك بالظاهر، فقد أصبح الظاهر موضع خلاف بين أن يكون ذا دلالة معيارية أو وجودية، سيما إذا لم يراع السياق ولا النصوص الأخرى التي يبديها الخطاب ذاته. بل الأهم من ذلك هو أن «التكليف» أصبح لا يعبّر عن مجرد «أمر معياري»، بل صار يمثل قبل ذلك «قانوناً وجودياً» يصدر بالضرورة مثلما تصدر سائر المعلولات والمراتب الوجودية الأخرى.

ولا يخفى أن النظام الوجودي لم يستطع أن يشكل كياناً معترفاً به إلا بعد أن تستر وراء الإشكالية الأساسية للحضارة الإسلامية، فقد اكتسى بذلك قشراً معيارياً بينما ظل لبه مختزناً للطبيعة الوجودية. فموسوعاته المعيارية التي شيدها على ذلك «اللب»، كإحياء علوم الدين والفتوحات المكية، والتفاسير الصوفية والفلسفية المختلفة، كلها تعبّر عن مطارح لتأسيس «المعيار» على «الوجود». فإذا كان هذا النظام وقت تكوينه وازدهاره في الحضارة الأم (اليونان) يقرأ الواقع والوجود الخارجي - ككل - قراءة وجودية حتمية، فإنه في الحضارة الإسلامية أخذ لا يقرأ الوجود الخارجي فحسب، بل ويوفق لقراءة إشكاليتها الأساسية ارتكازاً على إشكاليته الخاصة، مستهدفاً بذلك امتصاص «البنية المعيارية» وإمتثالها عبر بناء «المعيار» على «الوجود»، الشيء الذي يعني في نهاية الأمر طمس بنية «المعيار» والقضاء على نوع القراءة التي تنسب إليه.

وعلى الرغم مما أبداه النظام الوجودي من قوة وقدرة على النفوذ والتأثير على إشكالية الحضارة الإسلامية، فإن القراءة المعيارية وبنيتها ظلت طاغية وممتدة إلى يومنا هذا دون أن إزاحة أو زعزعة.

إن التحليل الآنف الذكر يحدد لنا طبيعة العقل الإسلامي وممثليه، كما ويربط لنا بين هذه الطبيعة وبين نهاية هذا العقل. فالفكر العربي المعاصر يراهن على حقيقة الفكر الإسلامي ونهايته من خلال تحديد آخر ممثليه، بإعتباره يعكس التطور الأخير للنتاج العقلي. فالبعض يميل إلى إعتبار الغزالي يمثل لحظة نهاية هذا الفكر وحقيقته، والبعض الآخر اعتبره متمثلاً بإبن رشد، وهناك من اعتبر المعتزلة هم الممثلون الحقيقيون، والذي بنهايتهم اسدل الستار على الحركة الفكرية للحضارة الإسلامية. هذا بالإضافة إلى أن هناك من اعتبر إبن تيمية هو من يمثل هذه النهاية والحقيقة.

إن هذه الإعتبارات لا تعكس خطأ التقييم بقدر ما تعكس خطأ المقياس الذي أُسند إليه. ويبدو أن عامل الرغبة التي يحملها الباحث العربي لطريقة التفكير هي ما دفعت لمثل هذه التقسيمات المضللة. فمن جهة أن التصور العام للفكر العربي المعاصر يعتبر خط الغزالي يتقاطع تماماً مع خط إبن رشد، بدلالة صدور «التهافتين» عنهما، فكان التهافت الأول (تهافت الفلاسفة) ضد الخط الرشدي، بينما جاء التهافت الثاني (تهافت التهافت) ليقاطع الأول ويدحضه. لهذا انقسم الباحثون، فبعضهم راهن على الخط الأول على حساب الخط الثاني، وكذا حال ما فعله البعض الآخر. ولم يعد في التصور أن ذلك التناقض الموهوم قد التقى واجتمع لدى شخصية أخرى متأخرة هي صدر المتألهين الشيرازي، فلا كانت لحظة الغزالي هي النهاية، ولا لحظة إبن رشد. بل كذلك أن ما اجتمع لدى الشخصية الثالثة لا يعبّر عن جمع النقائض والخطوط المتقاطعة، بل أنه يمثل التقاء جهازين لنظام واحد، وبالتالي فليست الفلسفة في تضاد مع التصوف، فكلاهما قائمان على مبدأ واحد هو «السنخية»، لكن الفرق الجوهري بينهما هو أن السنخية لدى الفلسفة قائمة على إعتبارات العلة والمعلول، خلافاً للتصوف الذي يبعد من باله فكرة العلية والتأثير أساساً.

ربما كان هذا التصور - كما سبق عرضه - يغير بعضاً من التصورات المعاصرة، إذ تتلاشى به المزاعم المعبّرة عن تصادم خط إبن رشد مع خط الغزالي الذي خلط بين الفلسفة والتصوف، أو بين التفكير العقلي والالهام الكشفي، كما تنقلب نهاية الفكر الفلسفي مما هي عند إبن رشد إلى «سليله» ملا صدر الشيرازي. وإذا كان بعض المستشرقين (هنري كوربان) قد أرّخ للفلسفة الإسلامية متخذاً طريقاً جديدة متجاوزاً بها التاريخ الرسمي الذي جعل النهاية عند إبن رشد، ومكرساً جهده للخط الذي استمر بعد تلك اللحظة كما لدى «الإشراقيين»، فإن ما نحتاج إليه كذلك هو ضرورة تأسيس قراءة جديدة للفكر الفلسفي والصوفي تثبّت كونهما يمثلان جهازين مختلفين لنظام واحد، أحدهما يقوم على الإنتاج العقلي، والآخر على التلقي القلبي، بل الذي ساد في الغالب هو الجمع بين هاتين العمليتين، إلى الدرجة التي كان «الفيلسوف» ذو الطريقة العقلية متصوفاً غنوصياً (باطنياً)، وكان «المتصوف» ذو الطريقة القلبية فيلسوفاً عقلياً.

ومع كل ما قدمنا، فإن النظام الوجودي ككل لم يكن معبّراً عن حقيقة الفكر الإسلامي بما هو «موضوع في ذاته أو لأجله» من الإشكالية الأساسية التي استقطبت روح الحضارة الإسلامية واستغرقتها.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهو أن (الإعتزال) الذي انتهى، لم يرحل إلا بعد أن خلفه عقل الإمامية الإثنى عشرية، بما شحنه من روح التفكير في روعها، لكنها زادت عليه بحركتها الإجتهادية التي لم تتوقف عند حدود ما هو «موضوع لأجله» من التكليف فحسب، بل طالت يدها إلى مراكز الكشف عما هو «موضوع في ذاته»، وظلت هكذا دون نهاية إلى يومنا هذا.

أما ما أثرت به الحضارة الاسلامية على الغرب فقد كان في غالبه لا يمتّ الى جوهر اشكاليتها، ولا إلى عقلها الأساس بصلة. فقد لعبت الفلسفة في الحضارة الإسلامية دوراً مميزاً لبناء الغرب علمياً وفلسفياً، طبقاً لما تضمنته من مادة معرفية وعناصر علمية. يشهد على ذلك تحول كل من طب الرازي وإبن سينا وبصريات إبن الهيثم وفلك البطروجي وفلسفة إبن رشد وإبن عربي وغيرها إلى الغرب.

بهذا تكون الحضارة الإسلامية حسب إشكاليتها المعيارية المتمثلة بعلوم نظرية التكليف، عبارة عن دائرة انفصال ضمن دائرتي اتصال. أما لو قرأنا حضارتنا بكل ما تحمله من «بضاعة»، فلا شك أنها ستكون حلقة وصل وإمتداد وإثراء وعطاء بين حضارة الأم (الفرعو ـ يونانية) ورضيعتها (الغرب). الشيء الذي يعني أن الحضارة الإسلامية تمثل حلقة فصل ووصل في آن واحد، فهي فصل من حيث الإشكالية التي هيمنت عليها والعقل الذي استوعبها، لكنها حلقة وصل وعطاء، وذلك لأنها قد منحت مفاتيح الوجود للحضارة الغربية، عبر بابها الآخر.

 

 


 

[1]             الفارابي: تحصيل السعادة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، 1345هـ.

 

 

[2]             انظر: التراث المسروق، ص17.

 

 

[3]             تهافت التهافت، ص522 و339.

 

 

[4]             تكوين العقل العربي، ص28.

 

 

[5]             الحارث بن أسد المحاسبي: العقل، ضمن: العقل وفهم القرآن، تقديم وتحقيق حسين القوّتلي، دار الكندي ـ دار الفكر، الطبعة الثانية، 1398هـ ـ1978م، ص203.

 

 

[6]             الإحكام في أصول الأحكام، ص50.

 

 

[7]             المغني، ج11، ص375 و386.

 

 

[8]             مفاتيح الغيب، ص580ـ583.

 

 

[9]             تفسير ما بعد الطبيعة لإبن رشد، ج1، ص10.

 

 

[10]            انظر حول ذلك كلاً من: الأسفار، ج6، ص272. والشواهد الربوبية، ص41ـ42. ومفاتيح الغيب، ص87ـ88.

 

[11]            شرح فصوص الحكم للجندي، ص353ـ355.

comments powered by Disqus