-
ع
+

مراتب الكشف العرفاني وشروطه

 

يحيى محمد

للمعرفة في السلوك العرفاني خاصية أساسية وهي أنها تخطر في القلب وتفيض على النفس من دون تعمل فكري ولا استدلال عقلي، فهي تهجم على القلب هجوماً قوياً لا يمكن ردّه، بل توجب على السالك التسليم لها لكونها من العلوم الحضورية التي تدرك مباشرة. لذلك فحينما سُئل العارف الحسين بن المنصور الحلاج عن البرهان قال: «واردات ترد على القلوب، فتعجز النفوس عن تكذيبها»[1].

فهذه الواردات أو الخواطر هي التي تحقق ما يسمى بالكشف والشهود. فغالباً ما يُعنى الكشف بالاطلاع على المعاني الغيبية من وراء حجاب. أو كما عُرّف بأنه حضور القلب في شواهد المشاهدات وعلامته دوام التحير في كنه عظمة الله. كما عُرّف الشهود بأنه رؤية الحق بالحق[2]. وللغزالي تعريف يرى فيه معنى البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة بأنها «أسماء مترادفة على معنى واحد، وإنما تحصل التفرقة في كمال الوضوح لا في أصله، فمنزلة البصيرة من العقل منزلة نور العين من العين، والمعرفة من البصيرة منزلة قرص الشمس لنور العين، فتدرك بذلك الجليات والخفيات»[3].

وكما قلنا بأن الكشف يتحقق عند ورود الواردات والخواطر على القلب. والمقصود بالخاطر هو ما يرد على القلب من الخطاب أو الوارد. والوارد القلبي هو حلول المعنى في القلب، أو كل ما يرد على القلب من المعاني الغيبية من غير تعمل للعبد[4].

ومع أن الكشف يقترن بالخواطر، إلا أنه لا يصدق مع أي خاطر كان. فالعرفاء يميزون الخواطر الصحيحة الصادقة من الكاذبة، وإن كانوا يختلفون في مقياس هذا التمييز. فلدى إبن عربي أن الكشف الصحيح هو ذلك المقترن بالخاطر الأول في القلب، فبورود الخواطر الأولى على قلب العارف يصبح عالماً وملهماً بطريق المشاهدة، حيث يتلقى ما يفيض الله عليه من سفراء الحق الذين لا يخدعون[5]. في حين يرى الخواطر التالية بعد الخاطر الأول، من الخاطر الثاني فما زاد عليه، لا يعوّل عليها[6].

وبحسب صدر المتألهين فإنه يحصي الخواطر إلى أنواع خمسة. فهناك خاطر الحق وهو الخاطر الأول، إذ يقع في القلب من غير سابق له. كما هناك خاطر القلب، وهو يقع في ما إذا سلم القلب من استيلاء الشياطين وهوى النفس، وخلص من الذنوب والخصال الذميمة، وتهذّب بمشاهدة الملكوت وحقائق المعارف، وعلامته أن لا يظهر على القلب والنفس والجوارح ما هو ضده، فيستسلم السالك له ويسترسل وينطلق من قيود الشك والريب. وقد عوّل صدر المتألهين في هذا الخاطر على ما أشار إليه الرسول (ص) في قوله: «استفتِ قلبك وإن أفتاك المفتون»، وقوله أيضاً: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». وهناك خاطر الملك الذي تنزل معه السكينة في القلب ليزداد السالك إيماناً مع إيمانه، وهو خاطر قريب من خاطر القلب. كما هناك خاطر الشيطان الذي يدعو إلى الضلالة، فإذا دعى إلى ذنب زاد عليه بدعوة إلى ذنب آخر. وآخر هذه الخواطر هو خاطر النفس الذي يعد بمنزلة الصبي الذي لا عقل له ولا تمييز، فهو خاطر يبعث على تشهي الأشياء[7].

وبإختلاف هذه الخواطر تختلف مراتب الكشف وأنواعه، فطبقاً للإمام الغزالي أن الكشف يفيض على أهل الأرباب من العرفاء، تارة على سبيل الإلهام بأن يخطر لهم بنحو الورود من حيث لا يعلمون، وأخرى على سبيل الرؤيا الصادقة، وثالثة في اليقظة على نحو «كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة كما يكون في المنام، وهذا أعلى الدرجات وهي من درجات النبوة العالية»[8]. وفي محل آخر اعتبر الغزالي أن ما يهجم على القلب من علم وكشف؛ منه ما لا يدري العبد كيف ومن أين حصل له هذا العلم، كما منه ما يطلع العبد معه على السبب الذي استفاد منه ذلك العلم. ويسمى القسم الأول إلهاماً ونفثاً في الروع، وهو ما يختص به الأولياء، بينما يسمى الثاني وحياً إذ يختص به الأنبياء[9].

وكما للكشف مراتب فإن له شروطاً لا يتحقق بدونها. فإذا ما كانت طريقة العقل قائمة على الاستدلال والتفكير، فإن للعرفان وسيلة أخرى تقوم على الإرادة والسلوك كشرط أساس. وقد كان الجنيد يقول: «ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوف والمستحسنات»[10]. وطبقاً لما يراه بعض العارفين هو أن هناك أركاناً أربعة للسلوك العرفاني، هي الجوع والعزلة والسهر وقلة الكلام[11]. فوظيفة هذه الأركان هي تهذيب النفس وتنمية خيال السالك وجعله قابلاً للتحلي بمختلف صفات الاستقامة ليصبح مستعداً للفيض الإلهي. فعلى تقدير إبن خلدون أن الكشف عند الصوفية لا يكون كاملاً إلا عند الاستقامة كالمرآة، فحيث أنها مقعرة أو محدبة فإنها تعطي صورة معوجة، بخلاف ما لو كانت مسطحة[12].

ويفيدنا الغزالي بمعلومات ثرية في هذا المضمار، حيث يجعل من عملية الإرادة التي يمارسها العارف، نحو الاستقامة وذكر الله، سبيلاً إلى تقبل الفيض المحتم من غير حاجة إلى ممارسة فكر ولا اختيار سوى إنتظار ما يخطر على القلب. فهو يرى أن هناك طريقين للمعرفة التي تنساق إلى القلب، أحدهماكسبي إذ يأتي بواسطة أنهار الحواس والإعتبار بالمشاهدات الحسية حتى يمتلئ القلب علماً، أما الآخر فيأتي من خلال سد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر ثم التوجه إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه، حتى تتفجر ينابيع العلم من داخله[13]. لذلك فهو ينصح المريد للسلوك العرفاني بالعمل على إخلاء نفسه في زاوية يقتصر فيها على العبادة من الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مقبلاً بذكره على الله، وذلك بأن يكثر الذكر بقلبه ولسانه باستمرار؛ حتى يسري الذكر في أعضائه وعروقه؛ إلى أن ينتهي إلى حالة لو ترك فيه تحريك اللسان لرأى الكلمة تجري على لسانه لكثرة اعتياده، فيصير مواظباً على ذلك حتى يسكت لسانه ويبقى الذكر جارياً في قلبه ثم لا يبقى في قلبه إلا معنى اللفظ، فلا يخطر في باله حروف اللفظ وهيئات كلمة (الله)، بل يبقى المعنى المجرد حاضراً في قلبه على اللزوم والدوام. فإلى هذا الحد يتم اختيار السالك، فلا اختيار له بعد ذلك إلا في استدامة الذكر لدفع الوساوس الصارفة، ثم بعدها ينقطع اختياره تماماً، فلا يبقى له إلا إنتظار ما يظهر من الفتوح التي يتلقاها الأولياء، وهو جزء مما يظهر للأنبياء. وقد تكون هذه الفتوح الكشفية أو الشهود أمراً كالبرق الخاطف لا يثبت ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فربما يثبت، وإن ثبت فقد لا يطول، كما قد يتظاهر أمثاله على التلاحق، وقد لا يقتصر على موضوع وفن واحد، فكل ذلك يعود إلى منازل الأولياء المتفاوتة في خلقهم وأخلاقهم.

فهذا هو منهج العرفان في السلوك، يبتدأ بالتطهر والتصفية والجلاء، ثم ينتهي بالإستعداد والإنتظار[14]. وبعبارة أخرى أنه يبتدئ بعلم المعاملة الذي سخّر له الغزالي كتابه (الإحياء في علوم الدين) لينتهي إلى علم المكاشفة الذي بثه في كتبه العرفانية الأخرى. فهو سلوك لا يتوفر لكل من هب ودب، وقد يصدق عليه  ما يقوله ابن سينا: «جل جناب الحق ان يكون شريعة لكل وارد، او يطلع عليه الا واحد بعد واحد»[15].

على أن هناك حجباً تحجب القلب من مشاهدة الحقيقة العرفانية، وهي كما أحصاها الغزالي خمسة: أولها حجاب نقص القلب في ذاته كما هو الحال مع قلب الصبي. وثانيها حجاب معاصي القلب وخبثه لكثرة الشهوات. وثالثها حجاب عدول القلب عن جهة الحقيقة المطلوبة حتى لو كان صافياً وعائداً إلى عبد مطيع صالح، فإذا لم يطلب الحق ولم يكن محاذياً بمرآة قلبه شطر المطلوب فسوف لا ينجلي له الحق. ورابعها حجاب الإعتقاد المسبق الذي ينشأ عليه المطيع من الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، إذ يحول ذلك بينه وبين حقيقة الحق. أما خامسها وأخيرها فهو حجاب الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب، فإن طالب العلم ليس بإمكانه أن يحصل العلم بالمجهول ما لم يتذكر العلوم التي تناسب مطلوبه[16].

فجميع هذه الحجب تحجب القلب من أن تتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، فهي عند الغزالي حجاب مسدل «بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلي حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة في مرآة تقابلها. والحجاب بين المرآتين تارة يزال باليد وأخرى يزول بهبوب رياح تحركه، وكذلك قد تهب رياح الالطاف وتنكشف الحجب عن أعين القلوب... وتمام ارتفاع الحجاب بالموت.. وحين يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى يلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم، تارة كالبرق الخاطف وأخرى على التوالي إلى حد ما، ودوامه في غاية الندور»[17].

واذا كان الغزالي قد أشار إلى أن ما يحصل من تفجير العلم الكشفي بصورة ذاتية بعد رفع طبقات الحجب هو من عجائب أسرار القلب الذي لم يسمح بذكره في علم المعاملة إلا بالقدر الممكن.. فإن ما قصد إليه حقيقة هو تأسيس الرؤية الوجودية الكشفية طبقاً لقانون الشبه والسنخية. فهو يرى أن الصور الموجودة في القلب متطابقة تماماً مع ما موجود من صور في اللوح المحفوظ، حيث أن هذا الأخير يحوي صور كل موجود، وهو كمرآة يقابل مرآة القلب، مما يجعله يفيض عليه بما فيه من صور. وعلى نحو التفصيل فهو «أن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ، بل في قلوب الملائكة المقربين. فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض، ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة، فكذلك فاطر السماوات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال... والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال، والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ. فكأن للعالم أربع درجات في الوجود، وجود في اللوح المحفوظ، وهو سابق في الوجود على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي. ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي، أعني وجود صورته في الخيال. ويتبع وجوده الخيالي وجوده العقلي، أعني وجود صورته في القلب. وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية، والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض... فإذاً للقلب بابان، باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة، وعالم الشهادة والملك أيضاً يحاكي عالم الملكوت نوعاً من المحاكاة». فإذاً الفرق بين علوم الأولياء والأنبياء من جهة، وبين علوم العلماء والحكماء من جهة أخرى، هو أن علوم الأولياء والأنبياء تأتي من داخل القلب من الباب المفتوح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكماء يأتي من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك[18].

كما أن القونوي هو الآخر سار بنفس الإتجاه الذي سار عليه الغزالي. فإستناداً إلى منطق السنخية جعل هذا العارف من علم الإنسان بنفسه عبارة عن علمه بجميع الأشياء، معتبراً ذلك من المضاهاة بينه وبين الحق تعالى، لأن الإنسان هو نسخة مصغرة للوجود كله، إذ تنجمع في ذاته جميع العوالم الإلهية والكونية، بإعتباره مرآة الوجود بكامله، ففيه يُرى كل شيء موجود في العالم العلوي، المجمل منه والمفصل. لهذا فهو يعلم جميع الأشياء بعلمه بذاته دون حاجة للنظر إلى الخارج[19].

وينسب القونوي وغيره من الوجوديين أبياتاً من الشعر إلى الإمام علي تؤيد ما سبق ذكره، فينقل أنه القائل:

داءك فيك وما تشعر                 دواؤكَ منك وما تبصر

وتزعم أنك جرم صغير             وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين                  بأحرفه يظهر المضمر الذي

فلا حاجة من خارج                 وفكرك فيك وما تفكر

هكذا يظهر بأن مبدأ العرفان يتأسس على فكرة المطابقة بين القلب والوجود تبعاً لمنطق علاقة الشبه والسنخية، كالذي لدى الغزالي في محاكاته بين مرآة القلب واللوح المحفوظ. وهو يماثل تطابق العقل والوجود في الفلسفة تبعاً لذات المنطق من العلاقة المذكورة. وبالتالي فسواء في العرفان أو الفلسفة تتطابق الأداة بما تحمله من رؤية معرفية مع ما يقابلها من الموضوع الخارجي المتمثل بالوجود؛ طبقاً للمولّد المعرفي المشترك والمتمثل بقانون الشبه والسنخية.

 

 



[1]       كسر أصنام الجاهلية، ص9.

[2]       إصطلاحات الصوفية، ص47 و153. وقاسم غني: تاريخ التصوف في الإسلام، ترجمه عن الفارسية صادق نشأت، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، 1972م، ص897 و910 و904.

[3]       الغزالي: رسالة روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللآلي، نشر فرج الله ذكي الكردي في مصر، 1343هـ ـ 1924م ، ص164ـ165.

[4]       إصطلاحات الصوفية، ص158. وتاريخ التصوف في الإسلام، ص905.

[5]       الفتوحات المكية، ج2، ص564.

[6]       رسالة لا يعوّل عليه، من رسائل إبن عربي، ج1، ص1.

[7]       كسر أصنام الجاهلية، ص74ـ75.

[8]       الغزالي: إحياء علوم الدين، بهامشه كتاب تعريف الاحياء لعبد القادر باعلوي، وعوارض المعارف للسهروردي، ج1، ص62.

[9]       الاحياء، ج3، ص14.

[10]   عبد الكريم القشيري: الرسالة القشيرية، وضع حواشيه خليل منصور، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، 1422هـ ـ 2001م، ص50، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com .

[11]     الشعراني: الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية، المكتبة العلمية، الطبعة الأولى، ج1، ص56.

[12]     مقدمة إبن خلدون، المكتبة التجارية الكبرى في القاهرة.

[13]   الاحياء، ج3، ص16، ص470.

[14]      الغزالي: ميزان العمل، ص222ـ223. كذلك: كيمياء السعادة، ص136ـ137. ورسالة روضة الطالبين، ضمن فرائد اللآلي، ص141. وإحياء علوم الدين، ج3، ص15.

[15]   ابن سينا: الإشارات والتنبيهات، القسم الثالث، ص235. كذلك: تفسير صدر المتألهين، ج8، ص163، وج7، ص39.

[16]     إحياء علوم الدين، ج3، ص11. والحقيقة في نظر الغزالي، ص140ـ142. كذلك: كسر أصنام الجاهلية، ص11ـ12.

[17]     إحياء علوم الدين، ج3، ص15. كذلك: الحقيقة في نظر الغزالي، ص123 ـ124.

[18]     إحياء علوم الدين، ج3، ص16ـ17. وكيمياء السعادة، ضمن رسائل الجواهر الغوالي، ص14. كذلك: الحقيقة في نظر الغزالي، ص126 ـ127.

[19]     مرآة العارفين، ص21ـ22.

comments powered by Disqus