-
ع
+

موقف الخطاب الديني من غير المسلمين (3): مصير أهل الكتاب

يحيى محمد

إن حلّ التعارضات الإطلاقية لا يصدق فقط على الأحكام التكليفية التي نطق بها الخطاب كما رأينا، بل يصدق أيضاً على ما ذُكر من أوصاف وأحكام غيبية تلوح المشخصات الخارجية. ولعل أبرز مثال على ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين))[1]. ففي الآية مستويان من الإطلاق، أحدهما ما جاء في الشطر الأول من الآية، وهو قوله تعالى ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً))، والآخر قوله تعالى: ((فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)). ويمكن معالجة المستويين من الإطلاق، من خلال البحث في محورين، ترد في كل منهما بعض الإحتمالات التي تقابل الإطلاق المناط به كالتالي:

المحور الموضوعي: إذ يمكن أن نتساءل: هل يجوز التمسك بالإطلاق الوارد في الآية وتطبيقه على كل من لم يدخل الإسلام بأي نحو كان، أو لا يصح التمسك بهذا الإطلاق، مما يجعل المصاديق ليست عامة وكلية وإنما عبارة عن جماعات لم تعينهم الآية بالتشخيص؟ وبعبارة أخرى هل أن الحكم بالخسران وعدم القبول يلوح كل من لم يدخل الإسلام أم بعضهم؟

المحور الحكمي: إذ قد يقال أنه سواء فرضنا أن الآية تصدق على جماعات بعينها أو على كل من لم يدخل الإسلام قاطبة، لكن هل يصح التمسك بالإطلاق الحكمي من الخسارة وعدم القبول، أم هناك دلالة أخرى تجعل من الخسارة وعدم القبول نسبيين، كإن يصدقان في موارد دون أخرى؟

المحور الموضوعي

يلاحظ في هذا المحور أن هناك عدداً من الآيات تعارض الإطلاق الوارد في النص الآنف الذكر، كتلك التي تبدي أن الله يتقبل الأعمال الصالحة بإطلاق تارة، ومن غير المسلمين بالتحديد تارة أخرى.

دعنا في البداية نذكر مستويات من التصوير الخطابي لغير المسلمين. فهناك آيات تبدي مدحاً لبعض من الكتابيين لِما يمتازون به من صفات، أهمها قبول الحق والتصديق به عند سماعه. فالمدح عام ومقصود للصفات ذاتها، بغض النظر عن علة نزول هذا المدح وهو إيمان البعض من أهل الكتاب بالدين الجديد. ومن ذلك قوله تعالى: ((لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين. فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين))[2]، وقوله أيضاً: ((ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. ضُربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا.. ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله إناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين))[3]، وكذا قوله : ((ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أُنزل اليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون))[4].

والملفت للنظر في مثل هذه الآيات هو أن الخطاب الديني أولى خصوصية لذكر التمايزات الحاصلة بين أهل الكتاب أنفسهم، فبعضهم يتصف بالصدق والإيمان والمودة والخشوع.. فمع أن الثناء قد يلوح أولئك الذين آمنوا منهم بالدعوة الجديدة، إلا أن عنونتهم ضمن الإنتساب السابق؛ يوحي وكأنهم ما زالوا غير خارجين عن دينهم وأنهم مكرمون بنظر الدين الجديد. فهذه الخصوصية لا نجد لها ذكراً لسواهم من المشركين أو عبدة الأوثان. وعليه هل يُفهم من ذلك أن الخطاب يريد الكشف عن وجود جماعات آمنت بالرسالة الجديدة إلا أنها لم تنخرط ضمنها فبقيت على ما عليه من التعامل المزدوج، حيث الإيمان بالرسالة الجديدة والعمل وفق ما عليه الدين السابق؟ أي أنها رغم عدم انضمامها ضمن الجماعة المؤمنة فإنها حظيت بالتقدير والثناء ونُسبت إلى ما هي عليه من الدين الأول، كما هو الحال مع النجاشي الذي قيل أنه أسلم عن بعد، ومثل ذلك فرقة النصارى الموحدين (الآريوسيين). فربما يشير إلى هذا المعنى ما جاء في قوله تعالى: ((وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزل اليكم وما أُنزل اليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم، إن الله سريع الحساب))[5].

أو أن الأمر يفسّر على نحو آخر أقرب، وهو أنّ مردّ تلك الخصوصية يعود إلى أن الرسالة الجديدة كانت تستهدف في الأساس عبدة الأوثان من المشركين العرب لأنهم يشكلون أغلب سكان الجزيرة العربية، في حين أن غيرهم لم يكن مستهدفاً بمثل ما عليه أولئك، لقلتهم ولكونهم ينطلقون مع المؤمنين من منطلق المنافسة بإعتبارهم ذوي أساس وهدف مشتركين، مما يجعل الداخل في الإسلام منهم يحظى بذلك الإمتياز من الثناء وذكر ما ينتسب إليه.

او ربما كان الثناء والمدح لأولئك الذين بقوا على دينهم، لإخلاصهم واتباعهم التعاليم الصحيحة التي يجدونها في كتبهم، فهم يتلون ما عندهم من مناجاة الله ودعائه، ويقيمون صلاتهم التي عهدوها أو يتذللون لله تعالى بما عبّرت عنه الآية: ((وهم يسجدون)). وهذا ما اختاره الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا[6].

وهناك نمط آخر من الآيات تبدي بإطلاقها قبول ما يصدر عن أهل الكتاب من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح دون قيد ما تستلزمه الرسالة الجديدة وما تقتضيه. ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون))[7]. وعلى شاكلتها قوله تعالى: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون))[8]. فالآية بحسب ذاتها مطلقة وعامة غير مخصوصة بجماعة دون أخرى، لذلك عدها البعض منسوخة بآية (آل عمران/85)؛ تقديراً لما وجده فيهما من تعارض كما هو ظاهر، رغم أن القضية ليست من قضايا التكليف أو الأمر والنهي، بل من موارد الوعد والإخبار[9]. لكنها برأي الكثير من المفسرين تخص الأزمنة القديمة قبل مجيء الرسالة الجديدة، كل جماعة بحسب ما كُلّفوا به من دين. مما ينفي التعارض.

على أن الإطلاق الوارد في الموضعين يبقي المعارضة قائمة بينهما ما لم يتم حلها من خلال الإستعانة بدلالة أخرى مستقلة. لذا فهل هناك من ضرورة تلجأنا إلى الحل بما أشار إليه المفسرون من أن آية الوعد بالثواب لأهل الكتاب إنما كانت بصدد الأزمنة السابقة على الإسلام دون غيرها من الأزمنة الأخرى؟ فعلى هذا الفرض كيف نفسّر أمثال قوله تعالى: ((ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده اليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين))[10]؟ فالآية الأخيرة تتجاوز خصوصيات الزمان والمكان، وتبدي ذلك المعنى من المعارضة الإطلاقية مع آية (آل عمران).

وعلى هذه الشاكلة قوله تعالى: ((وقالوا لن يدخل الجنّة إلا مَن كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسن فله أجره عند ربّه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقالت اليهود ليست النّصارى على شيء وقالت النّصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الّذين لا يعلمون مثل قولهم فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)) [11]. كذلك قوله: ((إِذ قالَ اللَّهُ يا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إِليَّ ومطَهِّرُكَ منَ الذين كَفَرُوا وجاعِلُ الذين اتَّبَعوكَ فوق الذين كفروا إِلى يوم القيامة ثُمَّ إِليَّ مرجِعُكم فَأَحكُمُ بينَكم فيما كنتم فيه تختلفون، فأَما الذين كفروا فَأُعَذِّبُهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين، وأَما الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات فيوفِّيهِم أُجورَهم واللَّهُ لا يُحِبُّ الظالمين، ذلك نتلوه عليك من الآيات والذِّكْرِ الحكيم)) [12].

وفي قبال ما سبق هل يسعنا حل الإطلاق الوارد في آية (آل عمران) تبعاً للمعنى الوارد في النص بعدها مباشرة؟ حيث يقول تعالى: ((كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))[13]؛ فيكون قصد الآية هو أولئك الذين خرجوا عن الإسلام وطلبوا غيره، دون علاقة بمن كان في الأصل خارج دائرة الإنتماء الإسلامي؟

ويعتبر هذا التوجيه في قصد الآية قوياً جداً للسياق المتصل بين الآيات، وهو ينسجم تماماً مع المنهج الوقائعي. إذ يظل النص حاملاً لإنعكاسات الواقع الخاص بالتنزيل وتأثيره، ومن ثم يمكن التعرف على معنى النص وفقاً لسياقه الدلالي.

وقد يقال إن الإسلام شامل لبقية الديانات السماوية بدلالة قوله تعالى: ((إنّ الدّين عند اللّه الإسلام))[14]. لكن يُضعِفه ما جاء بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: ((وقل لّلّذين أوتوا الكتاب والأمّيّين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وّإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ واللّه بصير بالعباد))[15].

مهما يكن فالمشكلة لم تحل بعد، فهناك نصوص أخرى تؤيد الإطلاق الظاهر في آية آل عمران على ما يبدو. وبالتالي نتساءل: هل من الممكن حل مشكلة هذه الإطلاقات المتعارضة بدلالة أخرى تستمد هذه المرة لا من النص فقط؛ وإنما من الواقع وإعتبارات المقاصد والوجدان أيضاً؟

ابتداءاً دعنا نسلم جدلاً بأن فك الإطلاق وحلّه إنما يأتي من طرف آية (البقرة/62) وذلك فيما لو خصصناها بما قبل رسالة الإسلام. بل ودعنا نطرح سائر ما ورد من آيات تدعم آية آل عمران وتؤيدها، فلعلنا نجد فيها حلاً للمشكل. فهناك الكثير من الآيات التي تتوعد بالعذاب لأهل الكتاب والمشركين والكافرين، كما هو الحال في قوله تعالى:

((إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية))[16]. وقوله: ((لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح إبن مريم، وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد، وإنْ لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم))[17]. وكذا قوله تعالى: ((إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به، أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين))[18]. وقوله: ((إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون))[19].

فهذه الآيات تدعم وتؤيد بوضوح الإطلاق الوارد في آية (آل عمران). لكن في القبال هناك دلالات من نصوص أخرى تبدي القيود التي يصح عندها مثل تلك الأحكام أو النتائج الأخروية. فالكثير من نصوص الخطاب الديني تشير إلى عدد من المواصفات والملازمات التي تبرر حكم الذم والوعيد. فالقرآن الكريم يصف أهل الكفر بأوصاف ذميمة من الجحود والعناد والمحاربة والتكذيب والصد عن سبيل الله، إذ كذبوا النبي وناصبوا له العداوة والبغضاء من غير حق ولا حجة، مع علمهم وشهادتهم بصدق الرسالة الجديدة لما أُلقي عليهم من الحجج والبيانات التامة، كيف وقد قال تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً))[20]؟! وهو أمر يتفق مع الوجدان والمقاصد، مما يدل على أن ما استهدفه الخطاب من وعيد هو أولئك الذين اتصفوا بتلك الصفات والملازمات، مثلما يشير إلى ذلك عدد كبير من الآيات الكريمة، نذكر منها ما يلي:

((يا أهل الكتاب لِم تكفرون بآيات الله وانتم تشهدون. يا أهل الكتاب لِم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون))[21].

((والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أُوفِ بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون))[22].

((إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم))[23].

((ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب))[24].

((إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.. قل للذين كفروا إنْ ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف وإنْ يعودوا فقد مضت سنة الأولين))[25].

((إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم.. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم))[26].

((ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدفعوا به الحق واتخذوا آياتي وما أُنذروا هزواً))[27].

((ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يَغْرُرْك تقلبهم في البلاد. كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار))[28].

((وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً. الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً. أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء، إنا اعتدنا جهنم للكافرين نُزلاً. قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً))[29].

((لُعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى إبن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون))[30].

***

يتبين من الآيات السابقة أن الكفر غير منفصل عن ملازمة العدوان والجحود والتكذيب. ولعل أهم الملازمات المعنية هي الجحود والإنكار في قبال ما أُنزل من القاء الحجة وانكشاف العلم وشهود الحق. الأمر الذي يبرر العقاب والوعيد.

لكن هل يمكن أن نعتبر الصفة المشار إليها هي صفة كل من لم ينتم إلى الإسلام قديماً وحديثاً؟ وإذا كان الأمر يصدق غالباً في عصر التنزيل؛ فهل يصح لنا تعميم ذلك ليشمل ما عليه حاضرنا ومستقبلنا كذلك؛ رغم إختلاف المقاييس والإهتمامات والمتبنيات وإعتبارات الحجة والبيان؟ وبالتالي هل يمكن إعتبار الوعيد بالعذاب لكل من لم يختر الإسلام ديناً على إطلاق، سواء كان غير المسلم جاحداً معانداً مع علمه وشهادته، أو كان جاهلاً قاصراً أو حتى مقصراً وإن لم يكن من أهل الجحود والعناد.. وسواء كان معاصراً لرسول الله (ص) وشاهداً للحقائق العلوية وما جاء في الكتب السماوية المتداولة آنذاك من البشارة للرسول الجديد، أو أنه ممن جاء بعده دون أن يعرف من الحقيقة شيئاً، خاصة إذا ما جهل اللغة العربية والثقافة الإسلامية عموماً.. وسواء كان ينصب للإسلام العداوة والبغضاء، أو أنه ممن يتودد إلى المسلمين وإن لم ينخرط في الإسلام لأسباب وظروف مختلفة.. وكذا سواء كان يمقت النبي (ص)، أو كان ممن يكنّ له التقدير والإحترام دون أن ينفي نبوته وإنْ بقي على دينه.. وسواء كان ممن يوصف بالفساد والإجرام والفجور، أو كان موصوفاً بالزهد والأمانة والطيب وحسن النية والعشرة والمعاملة..؟ فهل يعقل أن كل هذه التمايزات التي يبديها الواقع تخضع إلى حكم إطلاقي واحد؟ رغم أن لتجاوز الإطلاق الظاهر من الآية ما يبرره، وذلك لما ألفناه من طريقة الخطاب في إبداء الإطلاقات، ومنها الإطلاقات المتعارضة، مع أن المعاني المنتزعة عنها لا يمكن أن تكون مطلقة.

وبعبارة أخرى، قد يحق لنا أن نتساءل عن مصير ذلك الشخص الذي لا يتصف بالجحود والعناد ولا بالشر والفساد، بل هو من أهل الصلاح وحسن النية وإنْ ضلّ السبيل بجهله، إجتهاداً أو تقليداً كما هو حال غالبية الناس، وسواء نتج ذلك عن قصور أو تقصير، فكيف يعقل أن يكون أمثاله ساقطاً بمثل ما يسقط به أهل الطغيان والفساد[31]؟ وكيف يمكن المواءمة بين مثل هذه الحالة وما تتصدره مقاصد الخلق والتشريع من ضرورة العدل؟ ثم ألا يكون للآيات الأخرى ذات الإطلاقات المعارضة شيء من الحساب مما يتفق مع المقاصد وتمايزات الواقع؟ وكذا كيف يصح التمسك بالإطلاق السالف الذكر من غير إعتبار للشروط المناطة بضرورة إلقاء الحجة والعلم والبيان الوافي، مثلما يشير إليه قوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً))؟ وهو ما يؤكد بأن الوعيد وعدم القبول إنما يخص أولئك الذين اتصفوا بالجحود والنكران وما يلازمه من صفات مضادة للحق.

بل قد يستفاد من ذكر الملازمات بأن مصطلح الكفر كمفهوم لا يستقل عن تضمنه للأُولى واستبطانها، لا سيما فيما يخص الجحود بإعتباره أحد معاني الكفر، بل هو أقرب معانيه. فالكفر في اللغة يعني ستر الشيء أو تغطيته[32]، فهو بالتالي ستر الحق والإعتراف به قلباً ونكرانه لساناً، ومن ذلك جحود النعمة وغيرها[33]، وأن ما يقابله هو التسليم والخضوع للحق عند معرفته، وبه يتحقق معنى الإسلام. فالكفر قائم على الجحود مثلما أن الإسلام قائم على التسليم. وأن الكفر بهذا المعنى مدعاة لسائر الصفات الأخرى من التكذيب والصدّ والعدوان وغيرها، وقد قال تعالى: ((والكافرون هم الظالمون))[34]. الأمر الذي يتقرر عليه وجود دائرة غير محددة بالكفر والإسلام، فلا هي من دائرة الكفر، ولا هي من دائرة الإسلام. وبالتالي ليس بالضرورة أن يتصف كل من لم ينتم إلى الإسلام بالكفر، أو أن يكون كافراً[35]، لا سيما إذا عرفنا بأن للمفهوم استخدامات مرنة دون التقيد بحدود الدائرة غير الإسلامية، أو بحدود الإعتقاد البحت. فقد أطلق المفهوم على تارك الصلاة رغم الإعتراف بإسلامه، كما أطلق على من لم يحكم بما أنزل الله، مع أن الحاكم قد يكون مسلماً.

هكذا فبقدر ما يُسمح لمفهوم الكفر أن يُستخدم بمرونة وبمواضع تدخل دائرة الإنتماء الإسلامي، بقدر ما يمكن أن يُرفع من بعض المواضع خارج دائرة هذا الإنتماء. وقد وصف القرآن الكريم أقواماً غير مسلمين بوصف لا يمكن ادراجه ضمن الكفر، كالذي مرّ علينا في بعض الآيات، مثل آية (المائدة/66) و(آل عمران/75ـ76) وغيرها من الآيات.

إذاً من غير الممتنع وجود نوع من التداخل بين دائرتي الإنتماء وعدم الإنتماء، فقد يلوح الكفر دائرة الإنتماء الإسلامي مثلما قد ينتفي عن الدائرة الأخرى. شبيه بما هو مقرر حول مفهوم الفسق الذي شاع استخدامه ضمن دائرة الإنتماء الإسلامي، مع أنه استخدم أيضاً خارج هذه الدائرة، فعلم أن دائرة غير الإنتماء هي كدائرة الإنتماء تنطوي على مصاديق جزئية للفسق وإن لم ينطبق ذلك كلياً على جميع أفراد الدائرة، مثلما جاء في قوله تعالى: ((قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلا أن آمنا بالله وما أُنزل الينا وما أُنزل من قبل وأن أكثرهم فاسقون))[36]، وقوله: ((ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون))[37].

لذلك انتقد رشيد رضا جمهور المفسرين بما اقتضته تفاسيرهم من نفي أن يكون من أهل الكتاب ‹‹أحد متمسك بدينه مخلصاً فيه، عاملاً بأوامره ونواهيه››، معتبراً ذلك غير معقول ولا موافق لطبيعة البشر من ميل بعض الناس للمغالاة في الدين وبعضهم للإعتدال وبعض ثالث للفسوق والعصيان. ويزداد الأخير بعد طول الأمد كما أشارت إليه الآية الأخيرة. لهذا لم يحكم القرآن على أمة بالضلال والفسق بنص عام يستغرق كافة الأفراد. ويعزو رشيد رضا السبب في عدم إدراك المفسر لإيمان وإخلاص وتقوى أولئك الذين لا ينتمون إلى دينه أو ملته؛ إلى الإلفة وعدم العلم بطبائع الملل وحقائق الإجتماع البشري[38]. وقد صادفنا أناساً من ذوي العلم الديني ينكرون حصول الإيمان والإخلاص والتقوى لدى من هم خارج طائفتهم، خلافاً لما استهدفه القرآن الكريم من مقاصد تتعلق بقيم الأفراد وصفاتهم دون إنتماءاتهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ((يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم إنّ اللّه عليم خبير))[39].

ونخلص مما سبق إلى أن النهج الماهوي يعجز عن حل مشكلة التعارضات الإطلاقية كتلك التي أشرنا إليها. فافتراض وجود ما يخصص بعض النصوص كما في آية (البقرة/62) دون الإشارة إلى دليل منفصل سوى ما يعارضها من نصوص إطلاقية أخرى؛ ليس حلاً للمشكل، إنما هو إضطرار لجعل المخصص من غير دليل. مع أن هذه الآلية من التخصيص لا تعالج نصوصاً أخرى معارضة كتلك التي أشرنا إليها في آيتي (آل عمران/75ـ76)، وتلك التي تؤكد جزاء الإحسان بالإحسان، وأن الله تعالى لا يضيع عمل عامل من ذكر وأُنثى، وأن الله يُطلع الخلق على كل ما يعملونه من خير وشر، وغيرها..

يضاف إلى أنه مهما تمّ القيام بعملية التوجيه والتخصيص وسائر الآليات البيانية المقننة الأخرى لفهم الخطاب؛ فإن ذلك لا يجعل منه نسقاً قادراً على الإتساق مع ما يبديه الواقع من التلونات والتغايرات التي تأبى الإجتماع تحت مظلة حكم ماهوي واحد، إذ يفضي الأمر إلى الصدام مع العدل الذي يتربع على رأس مقاصد الخلق والتشريع.

أما لو اتبعنا النهج الوقائعي فالأمر مختلف، إذ يمكننا في هذه الحالة استخلاص معنى النص وتفسيره بدلالة الواقع وتلوناته تحت مظل التوجيه المستمد من الوجدان والمقاصد. فالتعارضات الإطلاقية لما سبق من آيات، وما يشهد به الوجدان، وما تشير إليه تمايزات الواقع، فضلاً عما ينبغي مراعاته من المقاصد.. كلها تشير إلى تعذّر إخضاع الخطاب تحت هيمنة النهج الماهوي، وبالتالي لا بد من اللجوء إلى فهم نسبوي يستعين بدلالات أخرى تكشف عن حقيقة ما يستهدفه الخطاب من معنى، أو ما يقترب منه على الأقل.

المحور الحُكمي

أما بخصوص المحور الحُكمي من الآية موضع البحث، وهو المحور المتعلق بالإطلاق الخاص بالخسارة وعدم القبول، فيلاحظ أنه يتعارض أيضاً مع إطلاقات أخرى، وأن هذه التعارضات لا تُحلّ إلا بدلالة الوجدان والمقاصد مع لحاظ تمايزات الواقع. فمن النصوص الإطلاقية المعارضة قوله تعالى: ((هل جزاء الإحسان إلا الإحسان))[40]، وقوله: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره))[41].

ولأجل التوفيق بين هذه الإطلاقات المتعارضة يرد إحتمال أن يكون بعضها حاكماً على البعض الآخر ومخصصاً له فيما هو خارج عن دائرته، كإن تكون آية الخسران هي الحاكمة بحيث تخصص الجزاء بالمسلمين فقط، أو تكون الآيات المقابلة هي الحاكمة فتخصص الخسران وعدم القبول بما هو خارج دائرة الإحسان وعمل الخير. فلو أن التردد وارد بهذا الشكل من التعارض؛ لقلنا أن الوجدان شاهد على أن آية الخسران ليس بوسعها أن تخصص الجزاء بالمسلمين، وبالتالي ليست هي الحاكمة على ما يقابلها من الآيات المشار إليها. في حين أن العكس هو مما يشهد به الوجدان ويتفق مع مقاصد الخلق والتشريع. أي أن الآيات الأخيرة هي التي ينبغي أن تكون حاكمة على ما قبلها.

لكن لو قيل أن الموضع محسوم بآيات الإحباط التي تصرح بأن الله تعالى يحبط أعمال الكافرين جزاء ما كفروا وأشركوا، والتي تتسق مع آية الخسران.. لقلنا أن ذلك ليس مستقلاً عن الملازمات التي ذُكرت بشأن الكفر والشرك كما عرفنا. أي أنه لا يمكن فصل الإحباط عما يلازم الكفر من الصفات التي أشارت إليها الآيات الكريمة في مواطن عديدة، كقوله تعالى:

((إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم))[42].

((قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً. ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً))[43].

((والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم))[44].

((إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم. أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين))[45].

***

مع هذا لا يمتنع أن يكون ما قصدته آية (آل عمران) هو اقتضاء الوقوع في الخسارة بفعل دواعي الشر وعدم الانضباط بموازين العدل والتقوى عند إتباع غير الإسلام، دون أن يتحتم ذلك، مثلما كان المنطق الأرسطي يقول على لسان إبن سينا بصدد ما يفعله نبات السقمونيا، وهو أن من شأنه تسهيل الصفراء، لكنه لا يحتم ذلك، فمن الممكن أن تكون هناك موانع تمنع الإسهال، ناهيك عن أن الحكم خاص بما لوحظ بحسب الظروف المحسوسة وليس على سبيل الإطلاق[46]. ويؤيد هذا المعنى ما دلت عليه الكثير من الآيات ذات الظهور الإطلاقي، مع أنها بشهادة الواقع لا تدل على المعنى الشمولي أو الاستغراقي، بل على وجود الميل واقتضاء النتيجة وإن لم يتحتم ذلك، مثل الآيات التي تبدي الإطلاق بأن الله لا يهدي الظالمين والكافرين، ومثل قوله تعالى على لسان نوح: ((إنك إنْ تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً))[47].

كما قد يكون ما قصده الخطاب من الخسارة وعدم القبول إنما هو ذلك المتعلق بموارد العبادات بالخصوص، من حيث أنها حق الله تعالى من جهة، وبإعتبارها من الموارد المخصوصة لكل دين، وبالتالي فلا علاقة لذلك بالمعاملات التي تتصف بالعمومية وعدم التخصيص، وهي مما يدركها العقل إبتداء وتأسيساً. ولا شك أن هذا التمييز مبرر، إذ أن نسخ شريعة لشريعة أخرى لا يمكن أن يكون على إطلاق، وإنما ضمن موارد التعبد والعبادات مع أخذ إعتبار تجددات الواقع. وبالتالي فمن المعقول أن لا يتقبل الله تعالى تلك العبادات المنسوخة، وكذا المعاملات التي تحتاج إلى تغيير بحسب تجددات الواقع، أما غيرها من موارد السلوك والمعاملات المبنية على الفهم العقلي العام، مثل موارد القبح كالسرقة والقتل بدون حق والظلم والعدوان والغصب والاستلاب وغيرها، وكذا موارد الحسن كالصدق والأمانة والمروءة والإخلاص وحسن المعاملة وغيرها، فإنها جميعاً ليست مؤسسة من حيث الأصل بحسب البيان الشرعي، بل أنها مدركة سلفاً بما أودعه الله تعالى في نفس الإنسان من فهم وإدراك، وقد أمضاها الشارع الحكيم لصدقها وسلامتها. فهي بالتالي حجة باطنة وشرعاً من الداخل، وأنه مما يعبد بها الرحمن ويكتسب بها الجنان[48].

لكن مع ذلك فهذا التخصيص والتوجيه لقصد الآية هو مجرد إحتمال غير قوي. فالمعنى الذي ذكرناه وإن كان في حد ذاته صحيحاً إلا أن انطباقه على فهم الآية يفتقر إلى الدليل.

وطبقاً للنهج الوقائعي فإن الدليل الأقوى يتعلق بالمخاطب الأصلي، وهو الشاهد الحاضر الذي شافهه الخطاب وقصده بالمعنى.

هكذا نصل في النهاية إلى طرح التساؤل التالي:

هل يصح أن نلقي أحكاماً ونصف أفراداً وجماعات محددة بمثل ما فعله الخطاب؟ وبعبارة ثانية، إذا عرفنا بأن الأخير لم يمارس منهج (التمنطق) كما تبناه أصحاب المسلك الماهوي، فهل يخولنا ذلك إصدار ذات الأحكام تبعاً للمسلك المذكور؛ رغم تباعد المسلكين وافتراقهما عن بعض؟!

كل ما يمكن قوله بهذا الصدد، هو أن قضايا الواقع تتلون بتلونات متباينة، فتبدأ صارخة عند الطرفين المتعارضين، ثم تتناقص شيئاً فشيئاً، حتى يلتبس الأمر عند الوسط وما يقاربه. وعلى هذا الأساس يكون إدراكنا للقضايا واضحاً وبيناً عند الطرفين وما يقاربهما وإنْ إختلفت النتيجة فيهما سلباً وإيجاباً، في حين يتلاشى هذا الوضوح والبيان عند الإقتراب من الوسط. فالأخير هو الحد الذي يستعصي فيه إتخاذ ما في إزائه من حكم وإتصاف، بإعتباره موضع المتضادات وملتقى التقابلات، فيقتضي الأمر مراعاة الحيطة خلافاً للطرفين.

 



[1]   آل عمران/85.

[2]        المائدة/82ـ85. ذُكر أن هناك قولين في تفسير قوله تعالى: ((ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى)): أحدهما أنها بصدد النجاشي وأصحابه لما أسلموا، قاله إبن عباس وسعيد بن جبير. والثاني أنها بصدد قوم من النصارى كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى فلما بُعث محمد آمنوا به، وهو ما قاله قتادة (تفسير الماوردي، ج1، ص497). كما ذكر إبن كثير في تفسيرها بأنها معنية بالذين ‹‹زعموا أنهم نصارى من اتباع المسيح وعلى منهاج انجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة كما قال تعالى: ((وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية))، وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى: ((ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون))، أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم، وأحدهم قسيس وقس.. والرهبان جمع راهب وهو العابد مشتق من الرهبة وهي الخوف››. وقد ‹‹تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع، ثم وصفهم بالإنقياد للحق وإتّباعه والإنصاف، فقال: ((واذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق))، أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد (ص)، يقولون ((ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين))››. لكنه نقل بصدد قوله تعالى: ((ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون)) ما ورد من الأخبار المروية عن سلمان الفارسي أنه قال في الآية: دع القسيسين في البيع والخرب أقرأني رسول الله ‹‹ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً›› (تفسير إبن كثير، ج2، ص86).

[3]   آل عمران/110ـ114. ذُكر بصدد الصفات الحسنة المشار إليها في مثل هذه الآيات بأنها موجودة في اليهود على القلة، كما وجدت في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس (تفسير إبن كثير، ج1، ص443).

[4]   المائدة/66.

[5]        آل عمران/119. ذكر في سبب نزولها قولان: الأول أنها نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من مسلمة أهل الكتاب، وهو قول مجاهد وإبن جريج. والثاني أنها نزلت في النجاشي وأتباعه، وهو قول قتادة (تفسير الماوردي، ج1، ص357)، حيث ورد أنه لما مات النجاشي نعاه جبريل لرسول الله (ص) في اليوم الذي مات فيه، فقال الرسول لأصحابه: اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، فقالوا: ومن هو؟ فقال: النجاشي، فخرج الرسول إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر اربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه استغفروا له، فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فانزل الله تعالى هذه الآية، كالذي قاله جابر بن عبد الله وأنس وإبن عباس وقتادة. وقال مجاهد وإبن جريج وإبن زيد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم (أسباب النزول، ص93ـ94).

[6]   تفسير المنار، ج4، ص17ـ37.

[7]   البقرة/62.

[8]   المائدة/69.

[9]   إذ ذكر في الآية قولان: الأول أنها نزلت في سلمان الفارسي وأصحابه النصارى قبل مبعث الرسول. والثاني أنها منسوخة بقوله تعالى: ((ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين))، وهو قول إبن عباس (تفسير الماوردي، ج1، ص117ـ118).

[10]  آل عمران/75ـ76.

[11]  البقرة/111ـ113.

[12]  آل عمران/55ـ58.

[13]  آل عمران/86ـ87.

[14]  آل عمران/18.

[15]  آل عمران/19.

[16]  البينة/6.

[17]  المائدة/72ـ73.

[18]  آل عمران/91.

[19]  البقرة/161ـ162.

[20]  الإسراء/15.

[21]  آل عمران/70ـ71.

[22]  البقرة/39ـ42.

[23]  البقرة/159ـ160.

[24]  المائدة/103.

[25]  الأنفال/36 و38. قيل في تفسير آية ((قل للذين كفروا أن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف)) أنها تحتمل وجهين: أحدهما أن ينتهوا عن المحاربة إلى الموادعة يغفر لهم ما قد سلف من المؤاخذة والمعاقبة. والثاني أن ينتهوا عن الكفر بالإسلام يغفر لهم ما قد سلف من الآثام (تفسير الماوردي، ج2، ص318).

[26]  محمد/32 و34.

[27]  الكهف/56.

[28]  غافر/4ـ6.

[29]  الكهف/100ـ106.

[30]  المائدة/78ـ79.

[31]  ذهب عدد قليل من العلماء إلى أن المخطئ في العقائد ليس آثماً إذا ما كان غير معاند وبذل أقصى جهده في النظر؛ تبعاً لقوله تعالى: ((لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها))، كما هو الحال مع الجاحظ وعبيد الله بن الحسن العنبري من المعتزلة. كذلك ذهب بعض علماء الإمامية إلى تبرئة ذمة المجتهد المخطئ في العقائد؛ منهم الشيخ البهائي الذي وجد من شنّع عليه في إعتقاده بمعذرية المخطئ في الحق بعد بذله الوسع للنظر. ومثله ما ذهب إليه الشيخ زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني والذي وافقه الشيخ محمد جواد مغنية؛ معتبراً كلامه يتفق مع أصول الشيعة. بل أن العاملي لم يقتصر على الإعتقاد بمعذرية المخطئ في الحق إذا ما بذل جهده ووسعه في النظر، وإنما إعتبر المعذرية سارية للمقلّد أيضاً. ولهذا فهو يعد أن من خالف الحق معذور، سواء عن نظر أو تقليد. لذلك جاء من شدّد عليه النكير، كالذي فعله الشيخ الأردبيلي (لاحظ: الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر).

[32]  انظر مادة (كفر) في: إبن منظور: لسان العرب، موقع الباحث العربي الإلكتروني http://www.baheth.info.

[33]       جاء في (لسان العرب، مادة: كفر) قول بعض أَهل العلم: الكفر على أَربعة أَنحاء: كفر إِنكار بأَن لا يعرف الله أَصلاً ولا يعترف به، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق. فأَما كفر الإِنكار فهو أَن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، وكذلك روي في قوله تعالى: ((إِن الذين كفروا سواء عليهم أَأَنذرتهم أَم لم تنذرهم لا يؤمنون))؛ أَي الذين كفروا بتوحيد الله. وأَما كفر الجحود فأَن يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه فهو كافر جاحد ككفر إِبليس وكفر أُمَيَّةَ بن أَبي الصَّلْتِ، ومنه قوله تعالى: ((فلما جاءهم ما عَرَفُوا كفروا به))؛ يعني كفر الجحود. وأَما كفر المعاندة فهو أَن يعرف الله بقلبه ويقرّ بلسانه ولا يَدِينَ به حسداً وبغياً ككفر أَبي جهل وأَضرابه، وفي التهذيب: يعترف بقلبه ويقرّ بلسانه ويأْبى أَن يقبل، مثل قول بعض مَن عاصر النبي (ص): ولقد علمتُ بأَنَّ دينَ محمدٍ من خيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دِينَا لولا المَلامةُ أَو حِذارُ مَسَبَّةٍ، لوَجَدْتَني سَمْحاً بذاك مُبِيناً. وأَما كفر النفاق فأَن يقرّ بلسانه ويكفر بقلبه ولا يعتقد بقلبه.

[34]  البقرة/254.

[35]  ربما ما ذكرته يوافق إلى حد كبير ما سبق إليه الاستاذ المرحوم مطهري في كتابه (العدل الإلهي) حيث يقول: ‹‹.. فأشخاص كديكارت لا يمكن تسميتهم بالكفار لأن هؤلاء لا يتصفون بالعناد ولا يخفون الحق، وليس الكفر إلا العناد وتغطية الحقيقة. هؤلاء مسلمون بالفطرة، وإذا كنا لا نستطيع تسميتهم بالمسلمين فنحن أيضاً لا نستطيع تسميتهم بالكافرين، وذلك لأن تقابل المسلم والكافر ليس من قبيل تقابل السلب والايجاب أو تقابل الملكة وعدمها بإصطلاح الفلاسفة والمنطقيين وإنما هو من قبيل الضدين لأنهما شيئان وجوديان وليس أحدهما وجودياً والآخر عدمياً›› (مرتضى مطهري: العدل الإلهي، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الخامسة، 1416هـ، ص336).

[36]  المائدة/59.

[37]  الحديد/16.

[38]  تفسير المنار، ج4، ص65ـ66.

[39]  الحجرات/13.

[40]  الرحمن/60.

[41]  الزلزلة/7ـ8.

[42]  محمد/32.

[43]  الكهف/103ـ106.

[44]  محمد/8ـ9.

[45]  آل عمران/21ـ22.

[46]       إبن سينا: البرهان، تحقيق أبي العلا عفيفي، ص97. وانظر كتابنا: الإستقراء والمنطق الذاتي. والأسس المنطقية للإستقراء/ بحث وتعليق، ص129 وما بعدها.

[47]  نوح/27.

[48]  وردت هذه الأوصاف حول العقل في الكثير من الأحاديث التي قيل أنها متواترة (انظر: فرائد الاصول، ج1، ص19).

comments powered by Disqus