-
ع
+

الإلوهة وفق النظر الفلسفي

 يحيى محمد

(يا صديقي انظر ما للفلاسفة من فضول: لم يتركوا العلم للعلماء .. ولا الأدب للأدباء .. ولا الدين للأنبياء .. بل حتى الإله لم يتركوه يفعل ما يشاء ..)

يعتقد الفلاسفة ان عالم الاجرام السماوية هو المباشر الفعلي لعملية الخلق والتكوين التي تجري في عالم الارض المسمى عالم ما تحت القمر، فعملية الاتصال بين العالمين تتم عبر الوسائط النفسية للاجرام السماوية، فليست العقول المفارقة هي التي تباشر مظاهر الخلق والتكوين في العالم الطبيعي، انما يتعلق الامر بنفوس الاجرام التي تتوسط رتبتها بين المفارقات والاجسام الحسية. واذا كانت هذه النفوس هي المسؤولة المباشرة عن الخلق والتكوين وكذا الحفظ والتدبير، فان عملها هذا يكون بفعل شوقها وتشبهها بالمفارقات. وهي في صنعها للعالم الارضي توسم بالالهة. فالفلاسفة لا ينفون صفة التأليه لهذه النفوس وعقولها المفارقة، ويعدونها تنتمي الى العالم الالهي قبال العالم السفلي الارضي. فهم يحسبون الاجرام التي في هذا العالم اجراماً الهية، وان صورها هي صور روحانية، وان السماء عندهم هي مسكن الروحانيين، وان النفوس الفلكية هي نفوس روحانية وملائكية، وان مبادئ هذه الاجرام هي آلهة، وهو ما يصرح به ارسطو فينقل ذلك عن القدماء المظنون بأنهم الكلدانيون ويوافق عليه[1].

هكذا يعتقد الفلاسفة ان في الاجرام السماوية آلهة ذات نفوس وعقول كاملة هي التي تعمل على حفظ عالمنا الارضي والعناية به ازلاً وابداً من غير انقطاع. فلهذا السبب عظمها القدماء وحسبوها آلهة[2]. وقد تأثر الفلاسفة المسلمون بهذا الاعتقاد، ومن ذلك ان السهروردي اعتبر الشمس مثال الله الاعظم والوجهة الكبرى التي هي قبلة العبادات القديمة، وبتبعيتها اصبحت النار هي القبلة، وبعد الشمس تأتي الكواكب المتعينة من الثوابت والسيارات، فوصفها بأنها ‹‹اصحاب السيادات المعظمون››، وبعض منها وصفه بانه ‹‹السيد الاسعد صاحب الخير والبركات››، وعلى ما يرجحه المحقق الدواني ان المقصود بهذا الكوكب هو القمر[3].

والسؤال المطروح بهذا الصدد: كيف شاء للفلاسفة تفسير عملية التأثير ومن ثم الالوهة من قبل عالم ما فوق القمر على ما تحته؟ وبعبارة اخرى: ما هو نوع التأثير الحادث، وما هي طبيعة الالوهة المتصورة؟

للاجابة على هذا السؤال لا بد ان نعي اولاً ان الفلاسفة قد اختلفوا في تحديد طبيعة هذه الالوهة وذلك التأثير. فقد كانت نظرية افلاطون تقر بوجود جواهر مفارقة تعمل على ايجاد وحفظ الانواع التي في عالمنا، الامر الذي يجعل هذه الانواع تتصف بالمشاكلة والتبعية لها، وفقاً لمنطق السنخية. وكان لهذا الرأي صداه لدى الاشراقيين بزعامة الشيخ السهروردي، وقد اطلقوا على تلك الجواهر العقول العرضية او ارباب الانواع، فلكل نوع عقله العرضي الذي يتكفل بوجوده وحفظه ازلاً وابداً، ولهذا وُصف بالرب الحافظ للنوع والاله المتحكم به[4]. وهذه الارباب او المُثل هي كائنات عقلية تتوسط بين عالمين، احدهما عالم المفارقات المحضة من العقول الطولية، واخرى عالم الانواع المحسوسة التي تكون مسؤولة عنها، فمثلما انها تتولد عن العقول الطولية وتكون تبعاً لها، فانها بدورها تصبح كفيلة بتوليد ما يناسبها من الانواع المحسوسة، فيتولد كل نوع من الانواع الارضية تبعاً لمثاله المناسب من العقول العرضية المفارقة.

كذلك ان بعض شراح ارسطو مثل ثامسطيوس رأى انه لا بد من افتراض وجود جواهر مفارقة هي التي تفسر لنا علة ولادة بعض الانواع الطبيعية عن غير مماثلاتها، مثل ولادة بعض الزنابير من أبدان الخيل الميتة، والضفادع من العفونة، والنار من الحركة.. الخ، ذلك انه اذا كان يمكن تفسير ولادة الانواع الطبيعية عن مماثلاتها كالانسان من الانسان والحصان من الحصان، فانه من العسير تفسير ذلك من حيث العلل الطبيعية، وبالتالي فلا بد من ان تكون هناك جواهر مفارقة هي التي تفيض صورها على تلك الانواع من الخارج[5]؛ وفقاً لمنطق السنخية. وقد تأثر الفلاسفة المسلمون بهذا الرأي فاعتبروا ان المفارق الذي يفيض بصوره على جميع الانواع في عالمنا الارضي هو واحد عبارة عن العقل الفعال الاخير الذي اطلقوا عليه لقب (واهب الصور)، باعتباره يفيض على كل جسم ما يناسبه من الصورة، وان عملية الافاضة والوهب أُطلق عليها (الابداع). فهذا العقل هو علة وجود الهيولى الاولى للعناصر الطبيعية بذاته، كما انه علة الصور الفائضة على هذه العناصر، لكن بواسطة الاستعدادات الحاصلة من الحركات الفلكية.[6]

على ان ارسطو لم يتقبل فرضية كون المفارق هو الفاعل في افاضة الصور على العالم الارضي. فقد اعترض على نظرية التأثير المباشر للجواهر المفارقة، واعتبرها انها لو صحت لكان لا معنى لوجود علل فاعلة ومحركة في عالمنا الارضي[7]. وبحسب هذه النظرية فان ما يحدث في عالمنا الارضي من الكون والفساد؛ انما يأتي بفعل اكثر من حركة. حيث بفعل حركة السماء الاولى التي تحرك سائر الاجرام الاخرى تكون الافعال دائمة، لكن بسبب كل من هذه الحركة وحركة الكواكب المتحيرة المتسببة عنها؛ تكون الافعال دائمة ومختلفة شتى، ومن ذلك يحصل الكون والفساد[8].

مع هذا يظل الوصف الإلهي هو ذاته للقوى النفسية الوسيطة التي تتولد عنها المتولدات لدى النظرية الأرسطية، وكما عبرت عنها بأنها «قوى طبيعية إلهية تكون مثلها على ما تكون المهن الصناعية مصنوعاتها». ويرى أرسطو أن هذه القوى شبيهة بالعقل من حيث «أنها تفعل فعل العقل، وذلك أن هذه القوى تشبه العقل في أنها لا تفعل بآلة جسمانية»، حتى أن جالينوس كان يشك ويقول: «لا أدري أهذه هي الخالق أم لا». لذلك عظّم أرسطو أمر هذه القوة ونسبها إلى المبادئ الإلهية لا الطبيعية رغم أنها غير مفارقة ولا تعقل ذاتها[9] . بل كل ما هنالك هو «أنها ملهمة من قوى فاعلة هي أشرف منها وهي المسمى عقلاً». ويرى إبن رشد أن هذه النسب والقوى الحادثة في الأسطقسات عن حركات الشمس وسائر الكواكب هي التي ظن بها افلاطون أنها الصور. بينما عند أرسطو أن الفاعل لا يخترع الصورة، إذ لو اخترعها لكان هناك شيء من لا شيء[10]. وهو النقد الذي وجهه إبن رشد لافلاطون وأتباعه كإبن سينا الذي يعتبر الفاعل يفعل الصورة في الهيولى، بينما عند إبن رشد إنه لو كان الفاعل يفعل ذلك «لكان يفعلها في شيء لا من شيء، وهـذا كـله لـيس رأياً لـلفـلاسفـة»[11] ، معتبراً أن تـوهم إختـراع الصور كمـا هـو الحال عـنـد افلاطون «هو الذي صيّر من صيّر إلى القول بالصور والى القول بواهب الصور، وإفراط هذا التوهم هو الذي صيّر المتكلمين من أهل الملل الثلاث.. إلى القول بأنه يمكن أن يحدث شيء من لا شيء، وذلك أنه إن جاز الإختراع على الصورة جاز الإختراع على الكل»[12] .

مع إنّا لو حملنا مسألة (الإبداع) على النحو المجازي، مثلها مثل الكثير من العبارات الفلسفية التي يطلقها الفلاسفة؛ لكان إشكال إبن رشد في غير محله. فلغة إبن سينا وغيره من الفلاسفة والمظنون كذلك من افلاطون؛ هي ليست لغة كلامية قائمة على الإمكان والجواز والخلق من لا شيء والإبداع والإختراع، بل هي لغة مؤسسة على الضرورة والسنخية. والفعل المقال في هذه المسألة لا يتخلّف عن هذه القاعدة من حيث إنه قائم على كون ما يحدث في عالمنا إنما هو مرتبط بما هو حاصل في العالم العلوي إرتباط الضرورة والسنخية، إذ لا يحدث في عالمنا شيء إلا وله أصله وسنخه الذي يحمل صفته بأكمل وجه وأجلّ صورة في العالم الآخر. والطريقة الأرسطية وإن كانت لا تقول بإختراع الصور، بل وتنكر التأثير المباشر للعقل المفارق، إلا أنها تحكّم العالم العلوي على العالم السفلي تحكماً قائماً على أساس العقل المفارق بصورة غير مباشرة، وعلى أساس النفس السماوية بصورة مباشرة، الأمر الذي يجعلها ليست مختلفة كثيراً عن النظرية الافلاطونية والفارابية السينوية، فهي تقصد بالإلهام العقلي في القوى الطبيعية بأنه عبارة عن الفيض النفسي الثابت والدائم أزلاً وأبداً كوسيط ورابط نازل من العالم العلوي إلى العالم السفلي.

بل إن هذا الفيض النفسي هو محل اتفاق جميع الفلاسفة القدماء كما يقرّ بذلك إبن رشد الذي يعبّر عنه بأنه «مادة لطيفة وهي الحرارة النفسانية التي تفيض من الأجرام السماوية، وهي الحرارة التي ليست هي ناراً ولا فيها مبدأ نار، بل فيها النفوس المخلّقة للأجسام التي ههنا». وهو يرى أن الفلاسفة لا يختلفون بأن في الأسطقسات حرارة سماوية حاملة للقوى المكونة للحيوان والنبات، لكن البعض يسميها قوة طبيعية سماوية، بينما يطلق عليها جالينوس (القوة المصوّرة)، ويسميها أحياناً (الخالق)، حتى أنه يقول «يظهر أن ههنا صانعاً للحيوان حكيماً مخلّقاً له، وأن هذا يظهر من التشريح، فأما أين هو هذا الصانع وما جوهره، فهو أجل من أن يعلمه الانسان». لذلك كان افلاطون يستدل على مفارقة النفس للبدن باعتبارها هي المخلّقة والمصورّة له لا العكس.

يبقى السبب في ان النظرية الارسطية لا تتقبل (المنطق الابداعي) الذي تقول به النظريات الاخرى وعلى رأسها نظرية افلاطون، فهو لانها ترى ذلك يعني كون الصور المبدعة قد نتجت عن لا شيء، تبعاً لمبدأ (لا شيء ينتج عن لا شيء)، وهو المبدأ الذي يقتضيه منطق السنخية. وعلى ما يرى ارسطو ان الفاعل لا يخترع الصورة، ولو اخترعها لكان هناك شيء من لا شيء[13]. بل عنده ان منشأ الصور كامن في المادة بالقوة، وانها تتحول الى الفعل بسبب التحريك والاخراج. فالصور موجودة سواء قبل الاخراج والتحويل او بعدهما، ففي المادة يكون وجودها بالقوة، وبعد الاخراج والتحويل يصبح وجودها امراً واقعاً بالفعل. في حين ليس الامر كذلك بحسب نظريات (المنطق الابداعي)، باعتبارها تفترض ان الصور غير موجودة بالمادة وانما هي صائرة الى عالمنا السفلي من فوق.

ووفقاً لمنطق السنخية فان النظرية الارسطية تواجه اشكالاً قوياً حول الفصل الذي اقامته بين المادة وفعل الفاعل الحقيقي. ففي هذا العزل او الفصل كيف يمكن تصور حمل المادة صفات الفاعل بالقوة على نحو ما من الأنحاء؟ وبعبارة ثانية: كيف يمكن ان تكون هناك سنخية بين الطرفين وهما من عالمين مستقلين لا رابط بينهما؟! فهذا الاشكال بدوره ينقلب على التصور الارسطي (الرشدي) للعلم الالهي بالمستقبليات، اذ كيف يمكن للمبدأ الحق ان يعلم مستقبل الحوادث في ذاته، مع انها كامنة في المادة وهي غريبة ومنفصلة عنه بالمرة؟ بل وكيف ان مضمون ما موجود في هذه المادة يقترب - بنحو ما من الانحاء - من مضمون ما هو كائن في الذات الالهية، باعتبارها تمثل جميع الاشياء على النحو الاتم؟!

اذن لا يعقل ان تكون المادة وهي تحمل هذا الخزين من المشاكلة منفصلة عن المبدأ الحق والعالم الالهي.

مع هذا نعتقد انه لا يوجد هناك فارق جوهري بين النظرية الارسطية وغيرها من النظريات الفلسفية ذات سمة (الابداع). فطريقة ارسطو تحاول ان لا تجعل من التأثير نتاج ما يفيضه المفارق السماوي من الصور، انما ترى ان فعل المفارق هو اخراج الصور من المادة او الهيولى التي تختزنها بالقوة. فالفعل هو فعل المفارق، لكن طبيعة هذا الفعل والتأثير يختلف بين النظرية الارسطية وغيرها، فبينما ترى سائر الطرق الاخرى ان الافاضة للصور تتنزل من فوق؛ ترى النظرية الارسطية انها تخرج من المادة بفعل التحريك المتنزل عبر تلك الكائنات السماوية. وفي كلا الحالين ان للمفارقات والجواهر السماوية تأثيراً في خلق العالم وتكوينه، وجعله على شاكلتها تبعاً لمنطق السنخية. فمثلاً تقر النظرية الارسطية بان ‹‹المولد للنفس ليس معناه أنه يثبت نفساً في الهيولى وإنما معناه أنه يُخرج ما كان نفساً بالقوة إلى أن يصير نفساً بالفعل، ولذلك نجد النار تتكون عن الحركة كما تتكون عن نار مثلها.. وكل مُخرج شيئاً من القوة إلى الفعل فيلزم أن يوجد فيه بوجه ما ذلك المعنى الذي أخرجه، لا أنه هو هو من جميع الوجوه››[14]. وكما ان الفعل الناتج هنا يكون على شاكلة الفاعل، فانه ايضاً يكون ما موجود في المادة من صورة هو على شاكلة الفعل والفاعل، سواء كان ذلك في المماثلات او غيرها، فليس هناك من فرق بينهما سوى ان الفاعل في غير المماثلات هو الشمس، بينما الفاعل في غيرها عبارة عن المماثل الأصل والشمس، فالانسان مثلاً يولده انسان والشمس.[15]

لكن ليس هناك من اختلاف جذري بين النظرية الارسطية وبين النظرية الابداعية التي التزم بها اغلب الفلاسفة المسلمين. فنظرية ارسطو لا تنكر العناية العقلية والنفسية للاجرام السماوية على عالمنا التحتاني، بل ترى ان هذه الاجرام لما كانت ‹‹موجودات مدركة حيّة ذوات اختيار وارادة›› لذا انها تقوم بتدبير الحياة في عالمنا الأرضي، إذ ‹‹الحي لا يُدبره الا حي أكمل حياة منه››[16]، والعملية تتم من غير قصد مباشر، حيث القاعدة الفلسفية تقر ان من المحال ان يفعل الاكمل لاجل الانقص، او كما يقول الفلاسفة المسلمون (العالي لا يريد السافل ولا يلتفت اليه)، انما قد يفيده باعتبار اخر من خلال شوقه وتعلقه بذاته او بما هو اكمل منه، فحيث ان نفوس الاجرام السماوية تريد التشبه بعللها المفارقة فانه عبر ذلك يتولد عنها من الحركات او الفيوضات ما يحيا به العالم السفلي. فمن هذه الناحية يكون للأجرام عنايتها بعالمنا السفلي، حيث أن القصد من حركتها ليس لأجل خروج صور الطبيعة من القوة الى الفعل، بل ذلك يحصل ويتحقق بشكل تابع لكمالها الأول، وهو الشوق لما هو أكثر منها حُسناً وكمالاً[17]. فهذا هو ما يفسر تلك العلاقة بين العالمين العلوي والسفلي، اي العلاقة بين عالم الالهة المتعالية وبين عبيدها التابعين في العالم التحتاني.

واذا كان هذا الامر هو مما يتفق عليه الفلاسفة، فان مما يتفق عليه ايضاً هو انهم جعلوا رابط الالوهة بين العالمين العلوي والسفلي يمر عبر النفس السماوية، كوسيط بين المفارق العقلي والجسم الطبيعي. فهم يحيلون ان يكون الجسم المادي باسره يمكن ان يصدر مباشرة عبر المفارق العقلي، انما يرون ان الوسيط بين الجسم والمفارق هو تلك النفس السماوية ذات المادة الروحانية والأجسام اللطيفة غير المحسوسة. ولدى الفارابي ان التأثير يتم عبر تخيلات الاجرام السماوية، فيحصل من جزئيات هذه الخيالات الحركات الفلكية التي بدورها تسبب التغير في الأركان الأربعة وما يظهر في عالم الكون والفساد من التغير[18]. وكذا ان ابن سينا يرى ان افاضة الصور الطبيعية والنفوس النباتية والحيوانية عن العقل الفعال انما يتم عبر الأجرام السماوية تبعاً لاعتبارات نظرية الفيض التي أدخلها الفارابي[19]. ولدى الفلاسفة اليونان ان هناك فيضاً نفسياً هو تلك الحرارة النفسانية الفائضة عن الاجرام السماوية والتي تحوي النفوس المخلّقة للاجسام الارضية، فتتكون منها الحيوانات والنباتات والمعادن، وكان بعضهم يسميها الخالق احياناً، كما هو الحال مع جالينوس، وان افلاطون يرى تبعاً لهذا التأثير ان النفس في اصلها مفارقة للبدن، وانها هي التي تقوم بخلقه وتصويره وليس العكس. وعلى رأي ابن رشد ان الفلاسفة يتفقون على وجود النفوس السماوية المخلّقة لجميع انواع الاجسام في عالمنا الارضي، الا ان موضع التردد في ذلك هو ان هذه النفوس إما ان تكون نفوساً وسيطة بين نفوس الاجرام السماوية وبين النفوس التي في اجسامنا الارضية فيكون لها عليها تسليط، او انها تكون بذواتها تتعلق بالابدان التي تخلّقها للشبه الكائن بينها، فاذا فسدت الابدان عادت الى عالمها الروحاني واجسامها اللطيفة التي لا تحس، كما هي وجهة النظر الارسطية[20].

أما حول تكوين العقل البشري فيلاحظ ان الفلاسفة لا يعولون في ذلك على نفوس الاجرام السماوية، وانما يعدون ذلك من خلق العقل المفارق مباشرة، وفقاً لمنطق السنخية، اذ العقل لا يكونه الا عقل يختص في احداث القوى العقلية باعتبارها غير مخالطة للهيولى. وتبعاً لمنطق السنخية ان من المحال لدى النظرية الارسطية ان يصدر عن العقل المفارق اي صورة مخالطة للهيولى، وان كل ما ليس بمخالط للهيولى بوجه ما لا بد ان يتولد عن المفارق الذي لا يخالط الهيولى مطلقاً، مثلما لا بد ان يتولد كل مخالط للهيولى عن مخالط للهيولى[21]. وبالتالي كان لا بد من ان يكون العقل المفارق الفعال هو الخالق والمكون للعقل البشري، فهو مبدأ فاعل وغاية لحركة هذا العقل، حيث يحركه على جهة ما يحرك العاشق المعشوق، ليكون العقل منّا في النهاية بريئاً من المادة، فيصبح حاله حال جميع العقول المفارقة لجميع الأجرام السماوية، باعتبارها تمثل الكمال الأخير لهذه الأجرام، لكن العقل منا يظل انقص واقل كمالاً من العقل الفعال الذي يعمل على خلقه وتكوينه[22].

***

لقد اتضح معنا ان عناصر الالوهة التي يتبناها الفلاسفة تتمثل بخضوع العالم الارضي بمكوناته لعالم الاجرام السماوية، فما موجود هنا انما يتم تخليقه وتكوينه تبعاً لنفوس تلك الاجرام وعقولها المفارقة، وان غاية ما تتحرك لاجلها الكائنات الارضية هي التشبه بالهتها في عالم الاجرام السماوية، فهي تابعة لها ومتشبهة بها تبعاً لعلاقة المعلول بعلته. وليس هناك من فرق بين اولئك الذين قالوا بنظرية الابداع وفيض الصور على عالمنا السفلي، وبين اولئك القائلين بنظرية اخراج الصور من خلال تحريك المادة. فالجميع يتفق على ان خلق عالمنا وتكوينه انما هو من جهة التأثير الحاصل بفعل الاجرام السماوية ونفوسها وعقولها المفارقة.

وبذلك ننتهي الى ان الرؤية الفلسفية تجعل من عالمنا السفلي، بكل ما يحمل من تنوعات وصور، محكوماً بالوهة العالم العلوي في أجرامه ومفارقاته السماوية. فليس هناك من اله واحد، بل آلهة متعددة بعدد المفارقات والاجرام، مع الاعتراف بان وراء فعل هذه الالهة الوسيطة يقف الاله الاعظم المتمثل بالمبدأ الحق، او بالاحرى انه العقل الاول باعتباره الوجود المنبسط الذي تقوم به الاشياء وتحيا.

 



[1] ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1678و1688-1690. وتهافت التهافت، ص483-484 و495. وقول يتلو رسالة الوداع من رسائل إبن باجة الالهية، ص150.

[2]  تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1594.

[3]  شواكل الحور في شرح هياكل النور، ص228-229.

[4]  السهروردي: المشارع والمطارحات، ص453 وما بعدها.

[5]  تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1492-1494.

[6]  شواكل الحور في شرح هياكل النور، ص188.

[7]  تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1731.

[8]  المصدر السابق، ج3، ص1585-1587.

[9] تفسير ما بعد الطبيعة، ج2، ص .885 – 884

[10] المصدر السابق، ج3، ص .1502

[11]   ابن رشد: تهافت التهافت، ص .241

[12]   تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص .1503

[13]  المصدر السابق، ج3، ص1502.

[14]  المصدر السابق، ج3، ص1551-1552.

[15]  المصدر السابق، ج3، ص1464-1465.

[16]  تهافت التهافت، ص189-190.

[17]  المصدر السابق، ص484 و504. كذلك: تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1596-1598.

[18]  رسالة عيون المسائل، ضمن الثمرة المرضية في الرسالات الفارابية، ص60.

[19]   ابن سينا: الإشارات والتنبيهات، القسم الثالث، ص21. والمشارع والمطارحات، ج1، ص450.

[20]  تهافت التهافت، ص577-579 7.

[21]  تفسير ما بعد الطبيعة، ج2، ص886.

[22]  انظر بهذا الصدد: تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1612-1613. وج 1، ص51-52. وتهافت التهافت، ص215.

comments powered by Disqus