يحيى محمد
لقد وصف أرسطو العقل الفعال بأنه مفارق وروحاني خالد لا يموت. أو هو كما يصرح إبن رشد عقل دائم وموجود في نفسه سواء عقلناه أم لا. فعدم تصورنا للأُمور المفارقة إنما يكون في العقل منّا أول الأمر «شبيه بالعمى في العين»، أما عند الوجود الكامل فالأمر ينقلب إلى العكس، إذ يكون «النظر إلى العقل المفارق هو بقوة تحدث في العقل النظري عند كماله شبيه بالقوة التي تحدث عند النظر إلى الألوان». وإبن رشد لا ينسى أن يؤكد بأن ذلك يحصل «لا بقوة من نوع القوى الفكرية التي تنال بروية وفكرة، لأنه بيّن إنه ليس في العقل منّا في أول الأمر إلا هو والقوة، فإنه ليس الأمر كما ظن أبو بكر بن الصائغ ـ إبن باجة ـ أن ذلك شيء ينال بفكرة»1 .
فالطريقة الأرسطية تجعل جميع ما في عالمنا هذا بما في ذلك العقل البشري متأثراً في تكوينه بالعالم العلوي السماوي، ويختص العقل المفارق في أن يكون فاعلاً في حدوث القوى العقلية فقط باعتبارها غير مخالطة للهيولى، إذ من المحال «أن تعطي العقول المفارقة صورة من الصور المخالطة»، وبالتالي كان من الضروري «أن يتولد ما ليس بمخالط للهيولى بوجه ما عن غير مخالط للهيولى باطلاق، كما وجب أن يتولد كل مخالط للهيولى عن مخالط للهيولى»2.
وكما ينقل إبن رشد رأي شيخه أرسطـو مـن أن العقل المفارق يعد مبدأً محركاً وفاعلاً لنا «وذلك أن العقول المفارقة بما هي مفارقة يجب أن تكون مبدأً لما هي له مبدأ بالنحويين جميعاً، أعني من جهة ما هي محركة ومن جهة ما هي غاية. فالعقل الفعال من جهة ما هو مفارق ومبدأ لنا قد يجب أن يحركنا على جهة ما يحرك العاشق المعشوق، وإن كانت كل حركة يجب أن تتصل بالشيء الذي يحركها على جهة الغاية. فواجب أن نتصل بآخرة بهذا العقل المفارق حتى نكون قد عقلنا بمثل هذا المبدأ الذي عقلت به السماء كما يقول أرسطو»3.
حيث يصبح العقل منّا بريئاً مـن المادة في النهاية، وبذلـك يكون حاله حال جميع العقول المفارقة لجميع الأجرام السماوية، فهي أيضاً عبارة عن الكمال الأخير للأجرام السماوية4 ، وإن كانت العقول الفلكية المفارقة أشرف وأكمل من العقل الانساني5.
ويعزو أرسطو للإدراك علة اللذة كغيره من الفلاسفة6، وأن تمام هذه اللذة تكون في حالة تمام الإدراك، أي أنها تتحقق حال الكمال العقلي، لذلك فمن حيث أن أكمل شيء في الانسان لديه هو العقل الذي تتحقق به السعادة القصوى؛ فإنه يرى سعادة الانسان هي باتصاله بالعقل المفارق7، حيث التجرد عن المادة والطبيعة والإلتحاق بعالم الإلوهية الذي فيه النشوة والخلود. لذا هو يدعو الانسان الكامل الى أن «يسعى إلى الخلود وأن يحقق بقدر طاقته تلك الحياة الإلهية، فتلك هي وحدها الحياة الكفيلة بتحقيق السعادة الكاملة»، والتي لا تكون على وجهها الأتم إلا للحكيم محبوب الآلـهة8.
على ان عودة العقل الانساني الى الاصل الالهي لا يتعارض مع القول بالتحاق النفس ايضاً الى ذلك الاصل؛ حيث اللذة والسعادة الأبدية الناشئة عن شدة الإدراك بسبب مفارقة البدن أو المادة، وهو ما يؤكد عليه الفلاسفة، سواء تعلق ذلك بالنفوس المخالطة للهيولى وهي التي يذكر إبن رشد أن الفلاسفة يتفقون على أنها تعود إلى مادتها الروحانية الإلـهية، حيث توصف بانها مخلّقة لانواع الاجسام والابدان الارضية ومصورة لها9 ، أو تلك التي لا تخالط الهيولى ولا علاقة لها بتخليق البدن وتصويره، والتي يختلف الفلاسفة في حدود ما هو قابل للتجرد والرجوع إلى الأصل الإلهي.
فأرسطو وإن كان لا يقدّر لأغلب قوى النفس هذا التجرد والرجوع بعد فساد البدن، لكن ذلك لا يشكل عقبة أمام الرؤية الحكمية العامة والمشتركة بين الفلاسفة، وهي الرؤية القائلة بعودة وخلود كل ما هو قابل للتجرد حيث السعادة القصوى. فالخلاف مع أرسطو حتى من جهة الأرسطيين التابعين لا يضر ولا يغير من هذه الرؤية الكلية. فأرسطو كان يرى أن قوى النفس التي وجودها في المادة كقوى الحس والتخيل والشهوة وما اليها كلها تفنى ولا تبقى، بل ويرى أن «العقل الذي بالملكة والعقل الهيولاني كلاهما فاسد»، فهو لا يجعل من قوى النفس أو العقل شيئاً باقياً وخالداً سوى العقل المكتسب المسمى (العقل المستفاد). أما الأرسطيون فإنهم لا يوافقون شيخهم على هذا الحد من البقاء لقوى العقل، فكما يذكر إبن رشد بأن هذا الرأي هو ليس مذهب تافرسطس ولا غيره من قدماء المشائين ولا مذهب تامسطيوس، بل أكثر المفسرين ـ كما يقول ـ كانوا يذهبون إلى أن العقل الهيولاني باق لا يفسد «وأن العقل الفعال المفارق هو كالصورة في العقل الهيولاني شبه المركب من المادة والصورة، وأنه الذي يخلق المعقولات من جهة ويقبلها من جهة، أعني أنه يفعلها من جهة ما هو صورة، ويقبلها من جهة العقل الهيولاني»10 . أما إبن رشد فمع أنه في كتاب (تهافت التهافت) يعتقد مثل أسلافه من الأرسطيين بأن العقل الهيولاني ليس فاسداً ولا مندثراً، إذ هو «يعقل أشياء لا نهاية لها في المعقول الواحد ويحكم عليها حكماً كلياً، وما جوهره هذا الجوهر فهو غير هيولاني أصلاً»11 . لكنه في (تفسير ما بعد الطبيعة) اتخذ رأياً وسطاً بين أرسطو وأتباعه من الأرسطيين، حيث ذكر اعتقاده الذي نقله عن كتاب (النفس) والذي يخالف فيه أتباع أرسطو في مصير العقل الهيولاني، متفقاً بذلك مع شيخهم في أنه كائن فاسد، إلا أنه في الوقت نفسه خالف أرسطو في مصير العقل الذي بالملكة، إذ رأى أن «فيه جزء كائن وجزء فاسد، وأن الفاسد هو فعله، وأما هو في ذاته فليس بفاسد وأنه داخل علينا من خارج»12 .
لكن ما فهمه إبن سينا من موقف أرسطو من العقل الهيولاني فشيء مختلف، فهو يعترض على فهم الاسكندر لأرسطو في هذا الشأن، تعويلاً على عبارة أرسطو التي يقول فيها عن ذلك العقل: «فلذلك صار بالواجب ليس مخالطاً للبدن». فهو يستفيد من هذه العبارة بأن أرسطو معتقد بمفارقية العقل الهيولاني دون أن يناله الفساد والبطلان، لذلك تعجّب من الاسكندر، وقال في حقه: «فما أدري كيف جوّز الاسكندر أن ينسب إلى هذا الرجل ـ أرسطو ـ إنه يقول أن العقل الهيولاني، وهو هذه القوة الاستعدادية، هيولانية مادية، وأن النفس التي لها هذه القوة هيولانية مادية»13 . وابن سينا نفسه لا ينكر اعتـقاده بمفارقة العقل الهيولاني، فكما يقول: «فيجب أول كل شيء أن نبيّن أن هذه النفس المستعدة لقبول المعقولات بالعقل الهيولاني ليس بجسم ولا قائم صورة في جسم»14 .
وعلى العموم لا يرى إبن سينا للنفس تعلقاً بالبدن، بل تعلقها في الوجود بالمبادئ الأُخرى التي لا تستحيل ولا تبطل15. حيث تحدث الأنفس وتتكثر مع تهيؤ الأبدان، إذ عند ذلك يتوجـب على العلـل المفارقة أن تـفيض علـيها النفوس16. وهو بهذا الحدوث ينفي عنها وجودها السابق سواء كان هذا الوجود واحداً أم متكثراً بالعدد في الوقت الذي يثبت خلودها المتكثر17 ، الأمر الذي جعل إبن رشد يمتعض من هذه الإزدواجية، إذ يقول: «لا أعلم أحداً من الحكماء قال إن النفس حادثة حدوثاً حقيقياً ثم قال إنها باقية إلا ما حكاه ـ الغزالي ـ عن إبن سينا18 ، وإنما الجميع على أن حـدوثها هو إضافي وهو اتصالها بالامكانات الجسمـية القابلة لذلك الاتصال كالامكانات التي في المرايا لاتصال شعاع الشمس بها، وهذا الامكان عندهم ليس هو من طبيعة امكان الصور الحادثة الفاسدة، بل هو امكان على نحو ما يزعمون أن البرهان أدى اليه، وأن الحامل لهذا الامكان طبيعة غير طبيعة الهيولى»19 .
ومع ذلك فإن إبن سينا في بعض رسائله لا ينكر الوجود السابق للنفس على البدن كما هو الحال في قصيدته العينية الشهيرة. لكن حتى مع قوله بالحدوث، فليس المقصود منه بأنه الحدوث عن عدم كما هي طريقة المتكلمين، بل هو عبارة عن تعلق فيضي دائم بالمبدأ المفارق من حيث إنه علة لها. وبذلك فإنه سواء بهذا المعنى من الحدوث، أو بالقول بالوجود السابق على البدن، فإن الأمر واحد من حيث أن له دلالة على الأصل الإلهي للنفس.. فالفلاسفة يقرون بهذا المقال، رغم ما بينهم من اختلاف في حدود ذلك وكيفيته. فافلاطون لا يخفي هذا الاعتقاد، كما أن الصيغة الأرسطية تقر به حتى في حدود النفوس غير المفارقة، إذ إنها بحسب هذه الصيغة تكون منحصرة في حرارة الكواكب «شبيهة بانحصار النفس في الأجرام السماوية»، كما أن بذواتها «تتعلق بالأبدان التي تكونها للشبه الذي بينها، وإذا فسدت الأبدان عادت إلى مادتها الروحانية وأجسامها اللطيفة التي لا تحس» 20. كما أن افلوطين الذي يعتبره البعض زعيم الفلسفة المغربية لا يحيد هو الآخر عن الاعتقاد بالأصل الإلهي للنفس، وقد سخّر لهذا المبحث كما في كتابه (اثولوجيا) عدداً من الميامر، ابتداء من الميمر الأول21.
1تفسيرمابعدالطبيعة،ج2،ص.1230 – 1229
2المصدرالسابق،ج2،ص.886
3 المصدرالسابق،ج3،ص.1613 – 1612
4المصدرالسابق،ج1،ص.52 – 51
5تهافت التهافت،ص.215
6تفسيرمابعدالطبيعة،ج3،ص.1616
7المصدرالسابق،ج3،ص.1612
8أرسطو: علمالأخلاقإلىنيقوماخوس،نقلهإلىالعربيةأحمدلطفيالسيد،مطبعةدارالكتبالمصريةبالقاهرةـانتشاراتآفتابتهران،1343 هــ1924م،ج2،ص365 . كذلك: نحنوالتراث،ص.196 – 195
9التهافت،ص.579 – 578
10تفسيرمابعدالطبيعة،ج3،ص.1489 – 1488
11تهافتالتهافت،ص.579 – 578
12تفسيرمابعدالطبيعة،ج3،ص.1490 – 1489
13التعليقاتعلىحواشي(النفس) لأرسطو،ضمن: أرسطوعندالعرب،ج1،ص.101
14 كتاب النفس من الشفاء،ص209 . كماانظر مقدمة كتابه المباحثات،ص.120
15 كتاب النفس من الشفاء،ص.231
16المصدرالسابق،ص.233
17 المصدرالسابق،ص.226 – 223
18هذاالقوللإبنرشديوحيأنهلميطلععلىكتاب(الشفاء) لإبنسينا،ولاملخصه(النجاة).
19تهافتالتهافت،ص.107
20تهافتالتهافت،ص.578
21انظر: أثولوجيافي: افلوطينعندالعرب،نصوصحققهاوقدملهاعبدالرحمنبدوي،مكتبةالنهضةالمصرية،1955م.