يحيى محمد
معلوم ان نصوص العرفاء في ذم التأويل كثيرة، لكن أكثر منها الممارسات التأويلية والإستبطانية التي غرضها اسقاط الرؤية الوجودية على العينة الدينية. فهناك أنماط متعددة من الفهم الوجودي لهذه العينة. ولا ينحصر الأمر حول ما سبق من التقابل بين النظريات الثلاث (التمثيل والمشاكلة والمعاينة)، بل هناك أبعاد أخرى من ممارسات الفهم غرضها إستنباط الرؤية الوجودية من النص لأدنى مناسبة. وبعبارة ثانية انها تستهدف اعادة انتاج الرؤية الوجودية من النص، ومن ثم الايحاء بوجود قبليات وبعديات وجودية كلاهما على وفاق واتفاق. فمثلما هناك قبليات وجودية تعزى إلى العقلين الفلسفي والذوقي، فهناك أيضاً بعديات وجودية تستند إلى الفهم الديني، والغرض من هذه البعديات هو إعادة انتاج الرؤية الوجودية بحسب ما عليه النصوص الدينية، أو اضفاء الصبغة الوجودية عليها، الأمر الذي يجعل منها مرآة تحكي الصور التي تحملها تلك القبليات، وبالتالي فإنها تعبّر عن نوع من الديانة هي تلك التي أطلقنا عليها (الديانة الوجودية)، إذ تتمظهر بهيئة الموسوعات التفسيرية التي يغلب فيها الممارسات الإستبطانية الرمزية والتأويلية، وهي حتى عندما تتضمن الاعتماد على الظاهر فإن ذلك يصطبغ بصبغة القبليات الوجودية، أو ان صورته تتشكل بحسب ما عليه هذه المرآة.
إذاً، سنجد ان مفاصل الرؤية التي تحدثنا عنها في الفصول السابقة تتشكل من جديد عبر آليات الفهم الديني وفقاً للقبليات الوجودية وأصلها المولّد. فسنرى أمامنا مفاهيم كل من الوجود والماهية والعلم والإدراك، وكذا طبيعة علاقات المراتب والمبدأ والمعاد، بما تتضمنه من روابط سببية أو روابط تتعلق بالأسماء الإلهية والأعيان الثابتة ووحدة الوجود، وقد يكون بعض المباطنات جارياً وفقاً للآيديولوجيا المذهبية، كالذي تمارسه الإسماعيلية ومن بعدها المدرسة الشيخية أو الكشفية، وشبيه بهذا الأمر ما يمارسه العرفاء خاصة فيما يتعلق بالحقيقتين المحمدية والعلوية، إذ هما من أهم مصاديق الرؤية الوجودية التي تتحدد عليها طبيعة الوجود المتنزل والمجعول.
ومثلما يصدق القول إن العرفاء ألبسوا المعطى الديني لباس القبليات الوجودية، فكذا العكس صحيح، أي أنهم ألبسوا الرؤية الوجودية لباس المفاهيم الدينية وعناوينها. فالعمليتان متبادلتان ومنظور إليهما من زاويتين مختلفتين، مما يجعل ان كل ما هو ديني هو وجودي، وكل ما هو وجودي هو ديني. لكن يظل الأساس في التوليد والتحديد عائداً إلى القبليات الوجودية. فبهذه القبليات يتحدد شكل المعطيات الدينية من دون عكس. ففي الأعم الأغلب تتخذ هذه المعطيات دور الظل والتبعية لتلك القبليات.
على ان اعتبار كل ما هو ديني هو وجودي وكذا العكس؛ يمكن ان يستمد مبرره لدى العرفاء من التناظر والتسانخ القائم بين مظاهر الوجود من جهة، وبين اللغة والحروف - ومنها لغة النص الديني وحروفه - من جهة اخرى، فلكل حرف دلالة على كائن وجودي، وكذا كل كلمة مركبة من الحروف لها دلالة على التركيب الوجودي بين الاشياء، وكان ابن عربي قد اعتبر العالم مشتقاً من كلمة (كن)، تبعاً لقوله تعالى: {اذا اراد شيئاً ان يقول له كن فيكون} يس/82، وحيث ان هناك ثمانية وعشرين حرفاً فان العالم بدوره عبارة عن هذا العدد من المراتب لا يزيد ولا ينقص.
بمثل هذا المنطق تعيّن الفهم الوجودي بانماطه المتعددة. ويمكن ابراز هذه الانماط تبعاً لاليات فهم النص. فهناك ثلاث اليات للفهم سبق تفصيل الحديث عنها لدى (منطق فهم النص)، وكلها تعتبر مورداً خصباً للممارسة الوجودية. فقد اعتاد علماؤنا ان يقسموا قراءة النص الديني وفهمه الى قراءة تفسيرية ظاهرية واخرى تأويلية. وهم لا يميزون من الناحية المنهجية بين القراءات التأويلية التي يمارسها المتكلمون وبين القراءات الباطنية التي يسقطها العرفاء وغيرهم من ذوي النزعات الغنوصية. وعادة ما يقصد علماؤنا بالقراءة التفسيرية الظاهرية بأنها تتضمن حمل الفاظ النص على معناها البيّن او الظاهر، وعلى خلافها القراءة التأويلية، حيث انها تحمل الالفاظ على غير ظاهرها.
وواقع الامر ان هذا التقسيم لا يفي وطبيعة ما تقوم به اليات القراءة، لوجود الفرق الجوهري بين الممارسات التأويلية كما يزاولها المتكلمون، وتلك التي يسقطها العرفاء والغنوصيون. ويعود السبب في عدم هذا التمييز الى غياب فكرة جوهرية تتأسس عليها طبيعة الية القراءة والفهم، وهي الفكرة التي اطلقنا عليها (المجال).
فالمجال يعبر عن المعنى المجمل للموضوع الذي يتم طرحه على بساط البحث من النص اللغوي. او انه عبارة عن ذلك الظهور في المعنى العام للمحور الذي يتناوله النص، وان هذا الظهور العام يتشكل مما نفهمه من الاجمال الكلي للالفاظ وسياقها، بحيث تتميز لدينا طبيعة المحور الذي يطرحه النص وان لم نتمكن من قراءته قراءة تفسيرية ولا اشارية، بل يكفينا في ذلك معرفة العنوان العام الذي تدور حوله الاحداث اللغوية للنص، شبيه بما يحصل من تبادر للمعنى المجالي عند النظر الى عناوين الكتب والمقالات، حيث تنبؤنا - غالباً - عن طبيعة الاحداث التي تتضمنها هذه الدراسات وإن لم نقرأها ونطلع عليها بعد.
وبفكرة المجال يمكن التمييز بين ثلاث اليات مختلفة، وهي التي سميناها الاليات الاستظهارية والتأويلية والاستبطانية. فالالية الاستظهارية هي تلك التي يتحقق فعلها وفق العمل بمحورين، احدهما العمل بالظهور اللفظي للنص تبعاً لما يبديه السياق، والاخر العمل بالظهور المجالي. ويمكن القول ان الاخذ بالظاهر يقتضي الاخذ بالمجال من دون عكس. وعلى خلاف ذلك تأتي الالية الاستبطانية، حيث ان شرط العمل بها هو عدم الاحتفاظ بالظهورين اللفظي والمجالي، فهي تستبدل المجال الظاهر بمجال اخر غير منظور، وان التخلي عن المجال الظاهر هو في حد ذاته يفضي الى التخلي عن الظهور اللفظي. وابرز من يعمل بهذه الالية هم الباطنية والعرفاء. أما الالية التأويلية فهي تعمل وفق شرط الحفاظ على المجال ولكن من غير الاخذ بظاهر النص. اي انها تتوسط بين الاليتين الاوليتين.
اذن نعود الى ما نحن بصدده من ابراز الانماط المتعددة للفهم الوجودي وفق الاليات الثلاث الانفة الذكر، كما يلي:
الالية الاستظهارية والفهم الوجودي
تعمل هذه الالية وفق شرطين هما المجال والظاهر اللفظي. لكن حيث ان العمل بالظاهر يقتضي الاخذ بالمجال، فان الخاصية الاساسية لهذه الالية هو العمل بالظاهر فحسب. وتبعاً للنظام الوجودي ان العمل بظاهر النص لا بد ان يتلون بطيف ما عليه من رؤية. فقد تعامل العرفاء والاشراقيين مع هذا الظاهر وفقاً لنظريتي المشاكلة والمعاينة، فاخذ النص الواحد قابلاً لتعدد الظهور، وكل ذلك يعتمد على طبيعة القبليات المعرفية؛ حتى وإن كانت هذه القبليات عائدة الى نظام واحد كالنظام الوجودي. فرغم انه واحد، ورغم ان العرفاء ينتمون الى طبقة واحدة، الا انه لا يمتنع ان يصدر عنهم من الفهم ما هو قائم على تعددية الظهور النصي، ناهيك عن تعددية الظهور الناتجة عن اختلاف النظام المعرفي. فمثلاً قد يكون ظهور النص لدى النظام الوجودي هو غيره عند النظام المعياري؛ تبعاً لاختلاف ما عليه القبليات المعرفية.
ويحمل النظام الوجودي ما لا يقل عن شكلين مختلفين من الظهور وتعددية المعنى، وكلاهما نطلق عليه (الاستظهار الوجودي)، وذلك كالاتي:
أ ـ الاستظهار العام
وهو الاستظهار بالمعنى الحرفي المشترك، فلظاهر لفظ النص معنىً مشتركاً له عدد من المصاديق تبعاً لمراتبه الوجودية، مثل لفظة النور والقلم والكرسي والميزان وغيرها، فهي غير مقيدة بالاطار الحسي ولا بغيره، وبالتالي فالذي يحدد المعنى الخاص لهذه المفاهيم المشتركة هو الباطن، او الاعتبارات التي تأتي بحسب القبلية الوجودية. وقد اطلعنا على نصوص بعض العرفاء الدالة على هذا المعنى الموظف في التطابق بين النص ومراتب الوجود.
ب ـ الاستظهار الخاص
وهو الاستظهار بالمعنى الحرفي الخاص، والمقصود به احد تجليات المعنى المشترك العام الوارد ذكره قبل قليل، ومنه التجلي الحسي، اذ تتعين الحقيقة بهذا التجلي وفق القبلية الوجودية. او يمكن القول ان هذا الاستظهار - كسابقه - يستهدف الحفاظ على ظاهر النص من غير تأويل، لكنه يلجأ الى القبلية الوجودية لاجل الفهم الباطني او التفسير.
والفرق بين الاستظهارين العام والخاص هو ان استظهار الاول يحصل لدى المفهوم المشترك للفظ، اما استبطانه فيتحقق من خلال احد تجليات هذا المفهوم وفق القبلية الوجودية. في حين يأتي استظهار الثاني عبر المفهوم الخاص (غير المشترك)، اما استبطانه فيتم عبر القبلية الوجودية.
ومثلما تعبّر قراءة النص عن اشارة؛ فإنها تزيد عليها بالايضاح والتفسير، كالذي فصلناه في كتاب (علم الطريقة). فالآلية الإستظهارية قد تكون مجرد آلية اشارية تعبر عما يتبادر للذهن من معنى النص، لكن قد يضاف إليها ايضاح الكيفية التفسيرية للإشارة. والعمليتان لا تلازم بينهما من حيث الرد والقبول، فليس كل ما يقبل من حيث الإشارة يقبل من حيث الايضاح والتفسير، انما يعود ذلك إلى تحكم سلطة القبليات، لا سيما القبليات المنظومية العائدة للنظم الفكرية. فمثلاً قد يتفق العرفاء مع غيرهم في فهم الإشارة الإستظهارية، لكنهم من حيث الايضاح يلجأون إلى التفسير الوجودي المعهود بما يختلفون فيه عن الغير، بل وبما يبتعدون فيه عن أجواء النص وسياقه، إلى درجة قد لا يستسيغه العقل والوجدان، رغم قيامه على الإشارة الإستظهارية. وهي حالة ما سميناها (الإستظهار الجدلي).
وعموماً ان ما يعنيه الإستظهار الجدلي هو ان تكون الإشارة إستظهارية، أما ايضاحها وتفسيرها فهو يتقوم بالمباطنة والتأويل البعيدين، وذلك بفعل تحكم القبليات وتوجيهها.
وكثيراً ما يستعين الإستظهار الخاص للعرفاء بالحس؛ ليدلّ به على ما يراد اسقاطه من القبليات الوجودية، كالذي لاحظناه حول فهم الآيات المتعلقة بوحدة الوجود وغيرها. إذ يأتي تأكيد العرفاء على المعنى الحرفي للنص بحسب الإشارة، في حين يستعين الايضاح والتفسير بالحس - عادة - للدلالة على المعنى الوجودي المطلوب. ومن أمثلة هذا النوع من الإستظهار نذكر ما يلي:
جاء ان معنى لفظة الظاهر لدى ابن عربي في قوله تعالى: {هو الاول والاخر والظاهر والباطن} الحديد/ 3، يشير الى العالم الخارجي لا غير[1]. فمن حيث الاشارة لا ينفي ابن عربي بان لله ظهوراً كالذي تشير اليه الاية، وهو نفس المعنى الخاص المتبادر في اذهاننا، لكن من حيث الايضاح والتفسير فان الحس لا يمدنا بغير هذا العالم الظاهر، وبالتالي فمن حيث الباطن يكون هذا العالم هو المقصود بظاهر الحق.
ويمكن ان يقال الشيء نفسه بصدد قوله تعالى: {ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثمّ وجه الله ان الله واسع عليم} البقرة/115، فمن حيث الاشارة الاستظهارية ان معنى النص واضح الدلالة، اما من حيث الايضاح والتفسير فكما جاء في التفسير المنسوب لابن عربي؛ هو ان ذات الله متجلية بجميع صفاته، فلله الاشراق على القلوب بالظهور والتجلي فيها بصفة جماله، وذلك عند حالة شهود العبد وفنائه، كما ان له الغروب فيها بالاحتجاب بصورها وذواتها بصفة جلاله، وذلك بعد الفناء. وبالتالي فاي جهة يتوجه اليها العبد فثم وجهه، لم يكن شيء سواه، وان الله واسع بمعنى انه جميع الوجود وشامل لجميع الجهات[2].
وكذا الحال مع حالات الاستظهار لنصوص قرآنية كثيرة كالايات التالية: {كان الله بكل شيء محيطاً} النساء/126.. {واحاط بما لديهم} الجن/28.. {وهو الذي في السماء اله وفي الارض اله} الزخرف/84.. {وهو الله في السماوات وفي الارض} الانعام/ 3.. {وهو معكم اينما كنتم} الحديد/4.. {ونحن اقرب اليه من حبل الوريد} ق/16.. {ونحن اقرب اليه منكم ولكن لا تبصرون} الواقعة/85.. {ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم} المجادلة/7. فقد تمسّك ابن عربي بظواهر هذه الايات؛ مؤكداً بان الله قد وصف نفسه بالقرب من عباده. وهو باعتماده على هذه الظواهر خلص الى النتيجة التي يكون العبد قريباً من الحق كصفة ملازمة قبال اتصاف الحق بالقرب منه، وان الناس يطلبون ان يكونوا مع الحق ابداً في اي صورة تجلى، وهو لا يزال متجلياً في صور عباده دائماً، فيكون العبد معه حيث تجلى، والله معه اينما كان[3].
كذلك فان الله يوصف بالغنى عن الفقر بحسب الدلالة الظاهرة من قوله تعالى: {ان الله غني عن العالمين} آل عمران/97، وكما يؤكد ابن عربي بان الله غني تماماً عن العالمين، لكن من حيث ايضاح الكيفية التفسيرية فانه يعد الله غنياً بحسب ما عليه الذات في حضرتها الاحدية، وان النقائص بهذا الاعتبار لا تعود الى الحق بما هو في ذاته وانما الى ما دونه بحسب اعتبارات التقييد، اي الى الروح الاعظم او العقل الاول اوالحقيقة المتعينة الكلية، اذ كان ولم يكن معه شيء ولا زال كما كان[4].
واذا كان الله غنياً عن العالمين تبعاً لاستظهار الاية الانفة الذكر، فانه يوصف ايضاً - حسب رأي ابن عربي - بالفقر والنقائص، لنفس العلة من الاعتماد على ظواهر النصوص الدينية للقرآن والحديث، مثلما جاء في قوله تعالى: {واقرضوا الله قرضاً حسناً} الحديد/17، وقوله ايضاً: {وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} الذاريات/56، وكذا ما جاء في الحديث القدسي: ‹‹كنت كنزاً مخفياً فاحببت ان أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف››، او ما جاء في الحديث القدسي: ‹‹جعتُ فلم تطعمني..››، او غير ذلك من الايات والاحاديث.. فكلها لها دلالة عند ابن عربي على الحاجة والفقر الالهي، وتفسيرها لديه ينبع مما عليه وحدة الوجود؛ وهو ان الله يتجلى بصور الخلق للعباد، فيكون فقره وحاجته من هذه الناحية، فما من صورة الا وتكون ناقصة وفي حاجة الى غيرها.
كما هناك استظهارات اخرى لها علاقة بالاعيان الثابتة، مثل ما جاء في قوله تعالى: {ربنا الذي اعطى كل شيء خلْقه ثم هدى} طه/50، فالخلق هنا بمعنى الحصة والحد المخصوص او الاستعداد، اي اعطى كل شيء حصته واستعداده الخاص.[5]
كذلك ما جاء في قوله تعالى: {لا تبديل لكلمات الله} يونس/64، اذ لما كانت هذه الكلمات تعبر عن الاشياء فانها - لهذا - لا تقبل التبديل مثلما هو ظاهر النص القرآني، ومن حيث الايضاح والتفسير فالمقصود بها حقائقها المعبر عنها بالاعيان الثابتة التي يستحيل تبديلها، اذ لا تظهر الاعيان الا بصورة ما هي عليه في الثبوت.[6]
ومثل ذلك استظهار الايات التي تنسب صفات الاعمال الى اصحابها، كقوله تعالى: فلا تلوموني ولوموا انفسكم} ابراهيم/22.. {وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون} النحل/18.. {وما ظلمهم الله ولكن انفسهم يظلمون} آل عمران/117.. {وما أنا بظلام للعبيد} ق/29، فهي صحيحة من حيث الظاهر، أما من حيث الايضاح والتفسير والباطن فدالة على ما للاعيان من صفات ثابتة هي مصدر تلك الاعمال وما يلحقها من الصفات التي تشير اليها النصوص. فهذه الايات تدل من حيث الايضاح والتفسير على ان حقائق انفسنا المتمثلة باعياننا الثابتة هي السبب في ما نحن به من ظلم، ومنه يعلم ان لله الحجة البالغة. فانفسنا من حيث حقيقتها هي منبع الظلم وكل سوء وخير، وهو معنى قول العرفاء: فلا تحمد الا نفسك ولا تذم الا نفسك، وإن كان الحمد لله يأتي من حيث افاضة الوجود على حقائقنا فحسب. ولا شك ان تفسير الايتين الانفتي الذكر هو تفسير قائم على الظاهر من دون شك.
وكذا هو الحال في قوله تعالى: {فلو شاء لهديكم اجمعين} الانعام/149، فالعرفاء يستظهرون معنى الاشاءة بالاستطاعة، باعتبارها احد معانيها البارزة، وبالتالي فالاية تدل بحسب هذا الاستظهار على ان هداية الناس لا تخضع لحاكمية الله وقدرته، بل الامر يعود الى حقيقة انفسنا من حيث كونها اعياناً ثابتة، فالمشيئة متعلقة بهذه الاعيان المطلق عليها الفيض الاقدس، خلافاً للارادة المتعلقة بايجاد الممكنات او الفيض المقدس[7]. لذا كانت الاشاءة عند العرفاء بمعنى الاستطاعة لا الارادة، وتصبح الاية تعني ان هداية كل الناس يستحيل ان تتحقق لعلة عدم الاستطاعة، فلو استطاع الله لهدى الناس جميعاً.
وعلى الشاكلة نفسها ما جاء في تفسير الدعاء المستجاب كما يشير الى ذلك قوله تعالى: {ادعوني استجب لكم} غافر/60، حيث يحصل الدعاء بلسان الاستعداد[8]، وفق ما تطلبه الاعيان الثابتة من الظهور والايجاد. والشيء نفسه مع ما جاء في قوله تعالى: {اجيب دعوة الداع اذا دعانِ} البقرة/186، او ما جاء في الحديث القدسي: ‹‹من اطاعني فقد اطعته ومن عصاني فقد عصيته››.
ومثل ذلك ما جاء في تفسير الاملي لقوله تعالى: {وآتاكم من كل ما سألتموه}، حيث دلّت عنده على ما لدى الناس والخلائق من الاستعدادات التي تخصها وما تسأله من افاضة الوجود عليها بحسب ما هي عليه من الاستعداد والقابلية. ومثل هذا الامر يظهر في قوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته} الاسراء/84، فالكل يعمل بحسب ما عليه من الاستعداد والصورة التي هو عليها، فكلّ ميسر لما خُلق له، مثلما جاء في الحديث النبوي. وللاية الاخيرة توجيه اخر كالذي لجأ اليه ابن عربي، حيث عدّ العالم عمله فظهر هذا العالم بصفات الحق باعتباره من عمله وصنعه، لذا لو قلت في العالم انه حق فقد صدقت، اذ يقول تعالى: {ولكن الله رمى}، ولو قلت فيه انه خلق لصدقت ايضاً اذ يقول تعالى: {اذ رميت}، فهو المجهول المعلوم[9]. وشبيه بهذا نجده لدى صدر المتألهين في توجيهه للاية، اذ تعني عنده أن كل شيء يصدر على شاكلة الحق، او ان كل شيء قد اوجده الله على شاكلته مثلما جاء في الحديث القائل: ‹‹خلق الله آدم على صورته››.[10]
كما ان من الاستظهارات الاخرى ما جاء في تفسير صدر المتألهين لقوله تعالى: {انك ميت وانهم ميتون} الزمر/30، وهو انه محمول على الحقيقة بلا حاجة للتأويل والتوجيه، بمعنى ان النبي الموجه اليه الخطاب وغيره من الناس هم جميعاً ميتون، حيث يكون للانسان السعيد موت وبعث ونشر وحشر الى الله تعالى في كل وقت من اوقات الحياة الطبيعية، فهناك رقي من نشأة الى اخرى، ومن مقام الى اخر، فالموت هو التحول والكمال في النشآت والمقامات[11]. وواقع الامر ان هذا الاستظهار لم يكن استظهاراً تاماً؛ لكونه يلوّح الى اعتبار المقصودين في الاية {وانهم ميتون} هم السعداء من الناس فقط، وهو ما لا ظاهر له في النص.
كذلك استظهر ابن عربي من قوله تعالى: ((ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله امواتاً بل احياء عند ربهم يرزقون)) آل عمران/169، بان الشهداء ليسوا امواتاً بل احياء بين اظهرنا وإن لم نستطع ادراكهم وابصارهم. وهذا الاستظهار في حدّه المذكور مقبول لدى جميع المسلمين او اغلبهم.
وايضاً استظهر العرفاء ما جاء في قوله تعالى: ((وإن من شيء الا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)) الاسراء/44، اذ ما من شيء الا وله روح ناطقة تسبّح بلسان يليق بها[12].
والملاحظ من كل ما سبق ان العرفاء يحرصون على قبول الظهور اللفظي لمعنى النصوص من حيث الاشارة، لكنهم من حيث التفسير يلجأون - بحسب الباطن - الى مباني القبلية الوجودية ليبينوا بها كيفية ما تتضمنه تلك الاشارة الاستظهارية المجملة.
[1] جاء في نهج البلاغة ان الامام علي قال بصدد الظاهر والباطن: ‹‹بل ظهر للعقول بما ارانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم، فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات بلا عمد قائمات بلا سند..››. وقال ايضاً وهو بصدد وصف الارض: ‹‹هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته›› (صبحي الصالح: نهج البلاغة، ص261 و275).
[2] تفسير ابن عربي، ج1، ص80 8. يقال انه جاء عدد من الرهبان وسألوا الامام علي عن معنى وجه الله كما جاء في القرآن، فردّ عليهم بقوله: ما هو وجه النار المشتعلة، فاجابوا: كلها عبارة عن الوجه، فقال الامام: فهذا الوجود كله هو وجه الله. فاقتنع الرهبان واسلموا (جامع الاسرار، ص211).
[3] الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج2، ص548 85. علماً ان بعض الغنوصيين من فرقة الشيخية لم يتقبل توظيف العرفاء لمثل هذه الايات في الدلالة على وحدة الوجود، مثلما هو الحال مع كاظم الرشتي الذي اكتفى ان يكون منطق السنخية جارياً على عالم الصادرات من العقل الاول فما تحته، لذا اعتبر ان قوله تعالى: {وكان الله بكل شيء محيطاً} يعني الاحاطة القيومية ولا دلالة له على وحدة الوجود، حيث لله المثل الاعلى. كما اعتبر ان قوله تعالى: {هو الاول والاخر والظاهر والباطن} يعني ان الله يدخل بالشيء ويخرج عنه بالفعل والاسماء والصفات، حيث لا يُرى شيء الا ويُرى هذا الفعل والصفات قبله او بعده او معه، وليست الذات هي الداخلة الخارجة. والرشتي كغيره من فرقة الشيخية يرى ان المراد بهذا الفعل والصفات كما في تفسير الاية الاخيرة هم اهل البيت، وكذا هم المرادون بالاحاطة القيومية والمثل الاعلى كما في تفسير الاية الاولى، لكونهم يمثلون المشيئة الالهية التي تتقوم بها الاشياء وتظهر (كاظم الرشتي: شرح حديث عمران الصابي، ص155).
[4] نقد النقود، مصدر سابق، ص695-696.
[5] مطلع خصوص الكلم، ج2، ص134-135 و473.
[6] مطلع خصوص الكلم، ج2، ص441.
[7] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص268.
[8] تفسير ابن عربي، ج1، ص635.
[9] الفتوحات، مصدر سابق، ج2، ص430.
[10] انظر بهذا الصدد كتب صدر المتألهين: تفسير القرآن، طبعة دار التعارف، ج1، ص207. ومفاتيح الغيب، ص87-88. والشواهد الربوبية، ص41-42.
[11] اسرار الايات، ص159.
12] مطلع خصوص الكلم، ج2، ص13-14.