يحيى محمد فيلسوف ومفكر إسلاميّ من مواليد 1959م في العراق ويقيم حاليا في بريطانيا. صدر له العديد من الكتب والدراسات الفكرية، أبرزها: مدخل إلى فهم الإسلام، نقد العقل العربي في الميزان، الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، القطيعة بين المثقف والفقيه، جدليّة الخطاب والواقع، فهم الدين والواقع، الفلسفة والعرفان والإشكاليّات الدينيّة، العقل والبيان والإشكاليّات الدينيّة، الاستقراء والمنطق الذاتيّ، مشكلة الحديث، منطق فهم النص. وكان آخر ما صدر له قريباً كتاب (منهج العلم والفهم الديني). بالاضافة الى العديد من المقالات المنشورة في موقعيه (فهم الدين) و(فلسفة العلم والفهم) وفي كثير من المواقع الالكترونية والدوريات والمجلات العربية.
فيلسوفالدينوالعلم
يحيى محمد هو بحق فيلسوف الدين وفيلسوف العلم في الوقت ذاته، وعنوانا موقعيه يفصحان عن ذلك اشد الافصاح، فموقعه الاول (فهم الدين) يشير الى تاسيسه لمنطق الفهم الديني القائم على المعرفة العلمية الابستمولوجية بعيدا عن الاعتبارات الايديولوجية الشائعة بين المسلمين اليوم، وهو ما يمكنه ان يؤصل لبناء تدين يتجاوز الاطر المذهبية والسياسية، ممهداً لقيام اسلام انساني النزعة الهي المصدر تعددي الفهم، وخال من الاصار والاغلال التي طالته بسبب الاوشاب البشرية التي اختلطت بالنص والوحي، وصارت لها القداسة بدل الدين كما في المناهج التراثية بسبب طول الامد التاريخي.
ان عنونة الموقع الاول بفهم الدين يختصر لنا رؤية هذا الفيلسوف تقريبا، فهو لا يسمي موقعه الفكر الديني مثلا، لان الفكر أي فكر هو نتاج عقل انساني فلا يمكن ان نضع الصبغة الدينية على أي اجتهاد بشري للنصوص الدينية.
لا شك ان مصطلح الفكر الديني هو مصطلح يحمل التناقض في طياته اذا استخدمناه لخلع القداسة الدينية على الفكر ولو كان فكر السلف الصالح، فالفكر ككل هو منتج بشري محكوم بالظروف التي ولد في جوها، ومن ثم محكوم بالتغير بحسب ظروف الواقع المتغيرة من الزمان والمكان والاشخاص والاحوال.. الخ.
ان غاية ما يقدمه البشر تجاه النص والوحي الالهي هي عملية فهمه بتواضع علمي لا يمكنه ان يدعي الوصول الى مرتبة الاندماج بين فكر المفكر والدين، فهو مجرد فهم ضمن افهام متعددة لا ينبغي لاحدها ان يملك حق نفي الاخر ما دام الامر واقعا في دائرة نظرية التكليف لم يتعداها.
لهذا لا نجد نبرة التعالي والقطعية الدوغمائية في طروحات يحي محمد، وهو لا يقدم فهما للدين كإجتهاد يناقض سائر الاجتهادات فحسب، بل الاهم من ذلك انه ينحت منظومة متكاملة من الاسس والمعايير التي تمكن مسلم المستقبل من فهم الدين بطريقة علمية منعتقة من اسر الايديولوجيا المذهبية اياً كانت.
ان كتابه (بحوث في علم الطريقة) نحت جبار في صخور المنطق العلمي لاستخراج فلسفة دينية للفهم..
وعنوان موقعه الثاني (فلسفة العلم والفهم) يقدم فيه رؤيته لفلسفة العلم وعلاقتها الجدلية بالفهم، وقد قدم اسهامات رائعة للفلسفة العلمية تجاوز بها فلاسفة العلم.
ولهذا يحق لنا ان نصفه بـ (فيلسوف الدين والعلم). لقد اعتدنا نحن العرب والمسلمين على وجود باحثين او بالاصح مؤرخين للفلسفة ومختصين في اشخاص بعض الفلاسفة الغربيين، او بعض الحقب التاريخية، كما هو معلوم ومشاهد بين اساتذة اقسام الفلسفة في جامعاتنا، لكننا لم نعتد على وجود فلاسفة اصيلين بين مفكرينا سوى القلة النادرة؛ كالفيلسوف محمد باقر الصدر وتلميذه يحيى محمد، لذا ندعو النخب العربية للاطلاع على انتاج هذا الفيلسوف الاصيل الذي جمع بين الاصالة والتجديد، بين الماضي والحاضر، بين النص والواقع، برؤية عصرية عقلانية استشرافية مستقبلية.
وينبغي على من يبحث عن معرفة واضحة بفلسفة يحيى محمد ان يدرس الاشكاليات التي تناولها بالتفكيك والحلول التي قدمها للامة. ولعلمنا بالتجاهل الاعلامي لهذا الفيلسوف فسنقوم بجهد نرجو ان نوفق فيه ولو قليلا بعرض اسس المشروع الفلسفي له عبر عدد من الحلقات.
ان ما يطرحه مشروع يحيى محمد من اشكاليات متعددة وحلول ابداعية يتطلب من النخب المثقفة مراجعة مجمل مواقفها حول النص والتراث الاسلامي، ويمكننا الاشارة هنا الى احدى هذه الاشكاليات المطروحة، وهي اشكالية القراءة.
قراءتانللتراث
بحسب يحيى محمد هناك نوعان من القراة للتراث، احداهما القراءة البرانية للتراث، والثانية القراءة الجوانية له. وهو يعيب على النخب العربية والاسلامية اعتمادها للقراءة البرانية للتراث ويقوم بفضح تناقضات مثل هذه القراءة، فهي لا توضح لنا روح الاستمرارية والوحدة في التراث رغم اختلاف جميع المعطيات الخارجية التي يحاول البعض ان يقرأ من خلالها هذا التراث، وقد اتخذ نموذجا منتقدا لهذه القراءة هو مشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري من خلال كتابه (نقد العقل العربي)، فقدّم نقداً له وللقراءة البرانية للتراث لدى كتاب (نقد العقل العربي في الميزان). فقد اعتبر كتاب الجابري المشار اليه أهم المشاريع الرئيسة الناضجة التي شهدتها سني (النهضة الحديثة)، وإنه قد طبع (عقل) قرنين من الزمان للثقافة العربية، أو هو بمثابة بداية (نهضة) للنهضة الآنفة الذكر، وذلك بما يحمله من طابع كلي ومنهجي منظّم لمعالجة طرق التفكير العامة التي مرّ بها الفكر العربي الإسلامي في تراثنا المعرفي.
فهذا هو سبب اهتمام المفكر يحيى محمد بمشروع الجابري ونقده له، فهو يمثل أهم الدراسات الحديثة التي جسّدت النهج البراني. فقد اتخذ الجابري من وحدة العامل الجغرافي والاستمرارية التاريخية أساساً لتعليل وحدة العقل العربي الإسلامي، فتوصل إلى أن مردّ آلية البنية والثبات تعود إلى وحدة التكوين والمنشأ التي تحددها البيئة العربية، ومن ثم تجسّدها الصيرورة التاريخية متمثلة بالعامل السياسي. وبالتالي فان مشروعه قد جمع بين التحليلين البيئي والتاريخي كأساس لإثبات الوحدة المعرفية، وعمل على المزاوجة بين ثلاثة أنواع من الطرح؛ هي الطرح البنيوي والتحليل التاريخي والطرح الآيديولوجي.
نقدالقراءةالبرانيةللتراث
في البداية طرح يحيى محمد سؤالا منهجيا يعد فتحا جديدا في الثقافة العربية والاسلامية هو كيف نقرأ التراث؟ واضاف الى أن طبيعة هذا السؤال تفضي للعودة الى التفكير المنهجي مباشرة. فهو سؤال يبحث عن ماهية المنهج الذي يمكن إتباعه في دراسة التراث وقراءته بما لا يخرجه عن مكنونه الحقيقي.
فهو يرى أن التفكير في الأُطر المنهجية تجعل من الباحث يرفض الدخول في القراءة التي تعمل على الأخذ بالتفاصيل من غير روابط عامة تشدّها وتتحكم فيها. أي أنه يرفض القراءة غير الممنهجة.
بعد ذلك رأى أن التفكير في القراءات المنهجية يتنازعها اتجاهان رئيسيان، أحدهما يعتمد التحليل الجواني في تفسير التراث، وذلك باتباع المنطق الداخلي للمعرفة التراثية ذاتها، وهو ما تبناه هذا المفكر ودعا اليه وعمل عليه. أما الآخر فيعتمد التحليل البراني من خلال إتباع أثر الظروف الخارجية على تكوين التراث وتطوره؛ سواء كانت هذه الظروف جغرافية أو إجتماعية أو سياسية أو غيرها، فالمهم أن تكون حاسمة في تشكيل الظاهرة المعرفية للتراث في كافة تفاصيلها ومختلف مجالاتها. وهو ما تتداوله النخب العربية المثقفة التي تناولت بالبحث والتنظير مسالة التراث حتى الان، كالطيب تيزيني وحسين مروة والجابري وسواهم من اصحاب المشاريع الناقصة غير المكتملة، او المقلدة لاطروحات اصحاب هذه المشاريع الكبرى؛ والذين يصدق على اعمالهم وصف المفكر السوري جورج طرابيشي بانه مذبحة التراث العربي.
أمام هذين المنهجين دعا يحيى محمد إلى اتباع القراءة الاولى ونقد الثانية، بل وافترض في القراءة الجوانية وجود أجهزة معرفية لها أُصول مولّدة ومنظمة تنظيماً جوانياً وأكسيمياً ثابتاً، اذ اعتبر أن أيّ جزء من النظام المعرفي لا يُفهم الا عبر إناطته بالكل الذي ينتمي اليه ذاتياً، بفضل وجود بعض المعارف القادرة على التوليد والإنتاج المعرفي، فهي أُصول مولّدة فعّالة باعتبارها تمتاز بإنتاج المعرفة وتوليدها.
وبالتالي رأى ان القراءة الجوانية تنفذ الى صميم الظاهرة المعرفية ـ لا خارجها ـ، حيث تفترض الظاهرة كقالب منطقي يحظى بدرجة معقولة من النظام الهندسي الأكسيمي تبعاً لما يفرضه المنطق الخاص بالأُصول المولدة للمعرفة والتي اطلق عليها (دينامو التفكير).
فهذه القراءة لا تتحرى الخوض في التفتيش عن عوامل البيئة والتاريخ لنشأة الظاهرة المعرفية كأداة ورؤية، خلافاً للقراءة البرانية التي تمنح ثقافة الوسط مصدر ظهورها بالكامل، على نحو آلي او منعكس شرطي.
على ذلك عقد استاذنا مقارنة بين القراءتين (الجوانية الأكسيمية) و(البرانية الوسطية) فرأى أن الأُولى تميل بحسب منطقها الهندسي المغنيطي إلى إبراز الاتساق والوحدة في الظاهرة المعرفية والفكر. أما القراءة الأُخرى فهي إن لم تبعثر الظاهرة المعـرفية تبعاً لتأثير صيرورة التاريخ وتغيرات البيئة فإنها تعمل على تخصيصها بالظرف المولّد، وتجعل من وحدة الوسط البراني علة الظاهرة المعرفية وإتساقها.
وبلا شك ان من المعقول أن يبعث الوسط على أشكال ساذجة من التفكير غير المنتظم. كما من المعقول أن يكون أثره العام على مجمل العملية المعرفية، بعيداً عن التحديد الآلي والحتمي مفصلاً بعد آخر. وكذا من المعقول أيضاً أن يبعث على صور معرفية آيديولوجية متمظهرة بمظهر الشكل العلمي المنتظم التفكير. لكن هذه الصور تظل متقلبة عندما تكون هناك دوافع سياسية أو اجتماعية أو غيرها تستبطن العملية المعرفية وتقبع خلف تأسيسها بالكامل. أما أن يبعث الوسط على صور متسقة ومنظمة من التفكير الأكسيمي؛ فهذا غير معقول، طالما أن الوسط وما يستضمره من دوافع آيديولوجية يخضعان إلى التغيّر والصيرورة باستمرار.
عرضلكتاب(نقدالعقلالعربيفيالميزان)
يتعرض هذا الكتاب الرائع الى نقد ونقاش مشروع المفكر الجابري الذي سعى الى تقسيم تاريخ الثقافة العربية بين لحظتين، احداهما مشرقية غنوصية جاهلة خرافية قائمة على العرفان والبيان، واخرى مغربية عالمة عقلانية قائمة على البرهان والفلسفة الارسطية الصرف. فقد قام الجابري بما يملك من قدرات عقلية وادوات بحثية بعمل قراءة تأويلية للحظة المغربية، فاسقط النموذج الارسطي عليها خلافاً للحظة المشرقية، لذلك جمع بين مفكرين مختلفين غاية الاختلاف المنهجي واعتبرهم ينضوون تحت لواء النموذج الارسطي الذي يصفه بالبرهاني من امثال ابن حزم والشاطبي وابن خلدون وابن طفيل، مع ان الاول فقيه ظاهري لاعلاقة له بتبني المنظومة الفلسفية، بل استعمل المنطق للتوظيف البياني، والثاني كان اشعريا من نفس دائرة البيان وانما قام بتوظيف المنهج الاستقرائي لاغراضه، وابن خلدون في اشهر كتبه (مقدمته لتاريخه) كان مهاجما للفلسفة وعلوم الاوائل، بل كان يبرهن فيه على صدقية العرفان بالاضافة الى كونه فقيها مالكيا من دائرة البيان بحسب تقسيم الجابري. اما ابن طفيل فهو وان كان فيلسوفا، لكنه غارق في العرفان حتى اذنيه، كما يتضح من قصته الفلسفية الخيالية (حي بن يقضان). فالمشروع سقط في فخ الايديولوجيا الملئ بالمتناقضات من اول خطوة، كالذي كشف عنه يحيى محمد.
وفي فصل اخر من الكتاب اوضح يحيى محمد تهافت تنظير الجابري لمسالة هوية العقل والتراث، فمن خلال تساؤله عن تحديد وصف عقلنا أي عقل هو؟ اهوعقل عربي أم إسلامي؟ ناقش مبررات المفكر الجابري حول الأخذ بعروبة (العقل) وبين تهافتها. كما ناقش ادعاءه حول تأثير البيئة الصحرواية على العقل العربي، فكشف عن اختلال مشروع هذا المفكر وتناقضه، وان الدافع الاساسي له هو الآيديولوجيا، وان تقنع بقناع الابستمولوجيا، فالمشروع قد اغتال اللغة والعقل، واتضح ذلك من خلال نقد استاذنا للنشأتين العامية والعلمية لبنية العقل.
كما كان ليحيى محمد نقد مطول مع نظم العقل العربي عند الجابري، فثلاثية العقل العربي (البيان والعرفان والبرهان) كما تصورها الجابري تنطوي على خلل في التصنيف، وهي لا تخلو من صورية ونزاع موهوم.
وفي هذا الفصل نجد دفاعا قويا عن العقل الشيعي ضد مزاعم الجابري الذي اظنه وقع في مصيدة التناقض عندما اصدر حكمه على العقل الشيعي بالغنوص والخرافة، وهو ما يسميه بالعرفان، مع أنه في بعض ندواته وفي معرض رده على عدم تسمية مشروعه نقد العقل الاسلامي؟ قد برر ذلك بان مشروعه مخصصاً للتراث العربي وليس الاسلامي، وان الشيعة كثير منهم من الفرس غير العرب، وهو تناقض مكشوف يحتوي على مجموعة من التناقضات الاخرى، منها انه كيف امكنه الفصل بين التراثين العربي والاسلامي مع اعترافه بان التراث العربي لم يكتب الا في عصر التدوين زمن الدولة العباسية، وابدى شكوكا حول ظاهرة الانتحال فيه، وهو في مشروعه كله انما اعتمد على شواهد اسلامية بالدرجة الاولى، وهو ايضا يتفق مع كل دارسي التراث بانه لا يمكن الفصل واقعيا بين التراثين بحال. كذلك تبريره لنفيه المتعمد للعقل الشيعي من التراث الاسلامي، لكون الكثير منه مكتوباً بغير العربية، يلزم منه انبساط هذا الحكم على العقل السني ايضا، فالكثير منه مكتوب بغير العربية. فالواقع ان كلا العقلين السني والشيعي مكتوب بالعربية وبغيرها من لغات الاعاجم. فقد احتوى الاسلام تحت جناح حضارته العرب وغيرهم من امم الارض، وتوزعت المذاهب السنية والشيعية على المسلمين العرب وغيرهم، ولا يمكن تصور غير ذلك اطلاقا، وكتب اهل السنة التي كتبت بغير العربية لا تبرر نفي العقل السني من التراث، كما ان كتب الشيعة المكتوبة بغير العربية لا تبرر ذلك، والا وقعنا في التناقض.
ايضا كيف امكنه الحكم على العقل الشيعي بالغنوص والعرفان من خلال بعض التيارات الموجودة فيه، والتي لا يمكن انكارها، ولكنها موجودة ايضا في العقل السني وبنفس الدرجة تقريبا، وهو يستعمل هذه المصطلحات بظلال موحية بالتنقيص بل يصرح بدونيتها وانها تمثل العقل المستقيل، ويبني على ذلك القطيعة المزعومة في الفكر العربي.
كما في قسم اخر من الكتاب اضاف يحيى محمد الى ان الفصل الذي شيده الجابري بين إبن سينا وأرسطو هو وهم لا حقيقة له، وان هناك وشائج عميقة تربط ما بين فلسفة إبن سينا وفلسفة أرسطو. وعلى هذه الشاكلة انكر استاذنا القطيعة التي اسقطها الجابري على الفلسفتين المشرقية والمغربية، حيث توصل الى عدم وجود ما يثبت هذه القطيعة المفتعلة تحت مجهر البحث العلمي الدقيق، فتحدث باسهاب عن عناصر اختلاف السهروردي عن ابن سينا، والتمييز بين كتب ابن سينا والجدل حولها، وفنّد مزاعم اختلاف ابن سينا عن الفارابي، وبين الجذور الأرسطية للمقولات المشرقية؛ كقول ارسطو بنظرية الفيض او المبادئ الجنينية لها، وقوله ايضاً بالتصورات الشوقية للأجرام وبوساطتها الالهية التي تربط العالمين السماوي والارضي. فكل هذه الافكار هي مما يتفق عليها الفلاسفة القدماء. وكل ذلك من الغنوص والعرفان الذي يتنقصه المرحوم الجابري لاغراض ايديولوجية تتعلق بالنهضة العربية وضرورة بنائها على البرهان، ولاجل ذلك حاول جاهدا تبرئة فلاسفة اليونان والمغاربة المسلمين من العرفان والغنوص، وهم الذين يتبنون الوهية العقل الفعال والهية السعادة والأصل الإلهي للنفس كما في النزعة الأرسطية.. وكل ذلك ان لم يعن الغنوص والعرفان فلا ادري كيف يقرأه الجابري؟!
لقد اوضح يحيى محمد ان ما يحاول ان يثبته الجابري من القطيعة بين الفكرين المغربي والمشرقي هو وهم لا حقيقة له، فإبن باجة وإبن طفيل وإبن رشد ليس لديهم ما يتعارضون به مع فلاسفة المشرق، كما يحاول المرحوم الجابري اقناعنا بذلك، بل هم امتداد طبيعي لنمو الفلسفة داخل التراث العربي الاسلامي. لذا اخفق في ان يجد شاهداً على معارضة هؤلاء لفلاسفة المشرق حول المفاهيم الفلسفية التي حاول ان يستنجد بها. ومن ذلك ما كشف عنه يحيى محمد في تبيان عدد من المحاور المختلفة التي استدل فيها الجابري على اختلاف النظر بين فلاسفة المغرب كما لدى ابن رشد من جهة وفلاسفة المشرق من جهة ثانية، كمحور قدم العالم وحدوثه ونظرية الفيض ومفهوم الممكن والواجب، ومسألة العلم الالهي وغيرها من القضايا، بالاضافة الى انه قام بتصحيح النظرة حول موقف ابن رشد من التصوف.
وبذلك كشف فيلسوفنا عن مفارقات مشروع الجابري بعقلية منهجية ابتعدت عن هواجس الايديولوجيا، سواء مع او ضد، متخذاً المعرفة العلمية معياراً حاكماً.
وكانت خاتمة كتابه تتعلق بنقاش الطرابيشي في نقده لنقد العقل العربي ضمن عدد من المحاور، كمحور السرقات الفكرية والادبية وتحريف النصوص كما اتهم عليها الجابري. وقد اتضح في النتيجة ان نقد الطرابيشي قائم على التحامل والهم الايديولوجي.
***
هذه هي احدى الاشكاليات الكبرى التي ابرزها يحيى محمد وعمل على حلها بمنهجية ابستمولوجية محاولا قدر الامكان تجنب السقوط في فخ الطرح الايديولوجي، باعتماده على منهج ابستمولوجي خاص به سماه (علم الطريقة)، وهذا الحل المنهجي هو ما يحيلنا مباشرة الى الاشارة السريعة الى الاشكاليات المهمة الاخرى التي اشتغل على تفكيكها مفكرنا الفيلسوف ومنها اشكالية البحث واشكالية المنهج واشكالية نظم التراث واشكالية المثقف الديني وغيرها.
وهي الاشكاليات الكبرى التي ابرزها هذا الفيلسوف وعالجها معالجات علمية وبمنهجية ابستمولوجية تتجاوز الطرح الايديولوجي وتتخطاه الى تخوم المعرفة العلمية. وفي باطن هذه الاشكاليات الكبرى تناول بالمعالجة والتحليل عشرات الاشكاليات الصغرى المتولدة عنها، وهو ما نتركه لمناسبات اخرى ان شاء الله.
فهذه ليست الا دعوة للقراء الاعزاء ممن لم يطلع بعد على كتب هذا المفكر المتميز ومقالاته على موقعيه في الشبكة العنكبوتية وغيرهما للتواصل المعرفي معه بالقراءة والنقد والتحاور، مما يعود بالفائدة على المحاور نفسه وعلى المناخ الثقافي العام للامة.